كان الاتهام بالجمود هو الاصطلاح الذي يتخذه دائمًا دعاة العامية، سواء في الحياة الأدبية أو في الحياة العامة، مفترضا أن الفصحى جامدة ثابتة معقدة، ويضفي المرونة والعصرنة والواقعية والحياتية على العامية، وهو أمر شديد التطرف، لأنه يضع الفصحى والعامية في كفتي ميزان، بإطلاق عام، بدون توخي الموضوعية في الطرح، فالعاميات لا تتنافس مع الفصحى، لأنها وليدة منها، والفصحى ليست منعزلة عن الواقع، بل هي جزء منه، ولا يحيا القص والمسرح، إلا حسب استيعاب الناس لها بلغة قريبة من فهمهم واستعمالهم، وإلا أقفلت الصحف، وجفت المطابع، وانزوى الكتّاب والأدباء.
وكانت حجتهم أن الإنكليز قاموا باستبدال اللغة الإنكليزية باللغة اللاتينية، أي استبدلوا اللغة الأجنبية بلغة محلية وطنية، وليس الحال كذلك مع اللغة العربية؛ فالفرق بين لغة الكتابة والتكلم ليس بالشيء الكثير، وقد لا يكون أكثر من الفرق بين لغة كتاب الإنكليز، ولغة من لا يعرفون القراءة.
وتكمن المشكلة في السؤال: أي عامية نريد؟ فالناطقون باللهجات العامية يختلفون في داخل البلد الواحد، ولنأخذ مثالاً على ذلك: لهجات مصر متنوعة بين أبناء الصعيد وأبناء الدلتا، وتختلف لهجة الصعيد في ثناياها، فلهجة أبناء أسيوط تختلف عن أبناء محافظة المنيا، ومحافظة أسوان تختلف عن محافظة قنا، إلخ، في حين تتمايز لهجات الدلتا، فلهجة أهل الإسكندرية تختلف في النطق والإمالة عن لهجة أبناء بورسعيد، أضف إلى ذلك اختلاف لهجات قبائل البدو، التي تضرب خيامها في سيناء وفي الصحراء الشرقية، فيلاحظ أنه ليس كل سكان مصر ينطقون صوت الجيم في ما يسمونه الجيم القاهرية، إلا أن هناك من يعطش الجيم، في الصعيد، كما أن الملاحظ أن الكثير من أقاليم مصر لا تنطق الأصوات الأسنانية.
ولو أخذنا مثالاً من لهجات أهل الخليج، ففي دولة الكويت نجد أن لهجة الحضر تختلف في نطقها ومفرداتها عن لهجة القبائل ذات الأصول البدوية، فالحضر ينطقون الجيم ياءً، بينما البدو ينطقونها نطقًا فصيحًا سليمًا، والمشترك بين لهجة أهل الكويت نطقهم للأحرف الأسنانية، ونطقهم الضاد ظاء، وإبدال القاف جيمًا قاهرية، وتفخيم الحركات المرققة، وظاهرة الكشكشة في خطاب المؤنث. وعلى الرغم من القرب المكاني، فإن أهل البحرين يفخمون الفتحة في أكثر المواضع، بينما يرققها أهل الكويت.
والقاسم المشترك بين سائر اللهجات العربية هو وجود آلاف المفردات التي تختلف في نطقها واشتقاقها ومصادرها من اللغات الأجنبية وفي معانيها من قطر إلى آخر، إلا أن السمة الغالبة على كل قطر (دولة) هي سيادة لهجة إقليم بعينه على باقي اللهجات، كسيادة اللهجة القاهرية بين أهل مصر، بحكم مركزية العاصمة، ونطق المذيعين في الأجهزة الإعلامية بها، ما جعلها مفهومة لدى الجميع، ويتحدث بها الكثيرون.
كما أن كل لهجة تتمايز عن غيرها بالعوامل المساهمة في تكوينها، فاللهجة الكويتية مثلاً – تأثرت على مرّ العصور بلغات مختلفة، كالفارسية والتركية والهندية، وبعض الكلمات الإيطالية والفرنسية والسواحلية والأردية، وبقايا كلمات سريانية وآرامية، بحكم موقعها الجغرافي، وكونها ملتقى للتجارة أو امتهان أهلها التجارة الوسيطة، منذ مئات السنين، وتعرضها للاحتلال البريطاني، ثم وفود العمالة الأجنبية، التي أحدثت تغييرات اجتماعية ولغوية حديثًا. فالعامية ليست مجرد تساهل في النطق للكلمات الفصيحة، بقدر ما هي مزيج من التداخلات اللغوية للعديد من اللغات القديمة والحديثة، التي تتمايز بتمايز الموقع الجغرافي والظروف السياسية والاجتماعية للسكان.
هناك دعوة يتبناها البعض من دعاة العامية باتخاذ كل قطر لهجة عامية مشتركة، توحد بين سائر اللهجات، فأي لهجة سيتم تبنيها لتكون هي العامية السائدة؟
والعامية ـ كمصطلح ـ فضفاضة في مدلولها المعبر عن لهجات الطبقات الاجتماعية والفئات في المجتمع الواحد، فلغة المحادثة في البلد الواحد تتشعب إلى لهجات مختلفة تبعًا لاختلاف طبقات الناس وفئاتهم؛ فتكون – مثلاُ – لهجة للطبقة الأرستقراطية وأخرى للجنود وثالثة للبحارة ورابعة للرياضيين وهكذا، ويطلق المحدثون على هذا النوع من اللهجات اسم اللهجات الاجتماعية، تمييزًا لها عن اللهجات المحلية، وهي لا تتميز عن اللهجات المحلية، بل هي فرع لها، ولكنه يختص بمفرداته وتعبيراته اللغوية التي تختلف عن باقي اللهجات المحلية، وقد «تذهب بعض اللهجات الاجتماعية بعيدًا في هذا الطريق، فيشتد انحرافها عن الأصل الذي تشعبت منه، وتتسع مسافة الخلف بينها وبين أخواتها.
وهناك دعوة يتبناها البعض من دعاة العامية باتخاذ كل قطر لهجة عامية مشتركة، توحد بين سائر اللهجات، فأي لهجة سيتم تبنيها لتكون هي العامية السائدة؟ فوفقًا للمنظور الديمقراطي والاعتراف بالآخر، من حق أي عامية أن تستقل بنفسها كلغة للحديث والكتابة، بدون استعلاء عامية أخرى عليها في داخل القطر، ولابد أن يتم إفساح المجال لها في وسائل الإعلام، هذه الدعوة إنما تدل على نزعة متناقضة، فكيف ندعو لوحدة لغوية داخل القطر، والمناداة باتحاد فئات وأقاليم القطر الواحد على لهجة واحدة، في الوقت الذي سيكون اتخاذ هذه العامية وسيلة لتفكك العالم العربي، وزيادة الانفصالية بين أقطاره؟ لأن الدعوة إلى اللهجة العامية تتخذ من القطر الواحد، بحدوده المصنوعة جغرافيًا مجالاً مؤطرًا لها، وإلا فما معنى الأمة المصرية التي نادى بها «ويلكوكس» في أوائل القرن العشرين؟ هل تشمل السودان أيضًا معها، الذي كان منضويًا تحت لواء الحكم المصري آنذاك؟ فتلك الدعوة تعظم القطرية والانعزالية المكانية، لشعوب عربية وإسلامية، عاشت التمازج وحركة الانتقال بين شعوبها وأقاليمها تحت لواء حكم دولة إسلامية واحدة، منذ الدولة الأموية والعباسية ثم العثمانية. هذا أمر ينطوي على تهديد خطير للرابطة العربية، فالجامعة العربية قائمة على الرابطة اللغوية التي جعلتها تتلو كتابًا مقدسًا واحدًا، بل إن الجامعة الإسلامية تقوم في أواصرها على العربية، باعتبار أن القرآن هو الكتاب الجامع، والنخب المثقفة في الدول الإسلامية غير العربية، التي تعلمت العلوم الشرعية، إنما اتخذت العربية لغة لها، وتسعى إلى تعليمها ونشرها في بلادها عبر مدارس وكليات العلوم الشرعية، كما هو حادث في إيران وباكستان والهند، وغيرها، وهذا يعني مزيدًا من الترابط مع العمق الإسلامي متمثلاً في البلاد العربية.
ويلاحظ أن البعض من متشددي العامية يرون زيادة إقصاء الفصحى إلى التخصصات الشرعية والدينية كاللغة اللاتينية، إلا أنهم في غالبهم إما أجانب أو ممن تتلمذوا في الكليات الغربية، وهم في الوقت نفسه يعظّمون أهمية تعليم اللغات الأجنبية (الأوروبية طبعًا) في المدارس، وهذا تناقض آخر، إلا أنه يتسق مع دعوتهم بكتابة العاميات بالأحرف اللاتينية.
فإذا كان هناك إجماع بأن إرساليات التبشير عجزت عن أن تزحزح العقيدة الإسلامية من نفوس معتقديها، إلا أنها تستطيع أن تقضي على لبناتها (يقصد العقيدة الإسلامية) من خلال هدم الفكرة الدينية الإسلامية، ببث الأفكار التي تتسرب مع اللغات الأوروبية، وتمهيد السبيل لتقدم إسلامي مادي، وهو الذي عبّر عنه أرنولد توينبي (فيلسوف التاريخ الغربي الشهير بأنه طريقة العيش الغربية، واعتناق مبادئ الحضارة الغربية.
ويقرر المستشرق الألماني كامغماير، أن تركيا لم تعد بلدًا إسلاميًا، فالدين لا يدرس في مدارسها، وليس مسموحًا بتدريس اللغتين العربية والفارسية في المدارس، فقراءة القرآن وكتب الشريعة الإسلامية قد أصبحت الآن مستحيلة بعد استبدال الحروف العربية بالحروف اللاتينية. فمثل هذه الأقوال، وهذا الواقع اللغوي والديني الذي نشأ في بلد كتركيا، جعل الكثير من علماء النخبة وأهل اللغة في بلادنا، ينظرون بريبة لدعوات العامية، فالأمر أسفر عن بعد تغريبي تبشيري في ثنايا الدعوة، وهذا واضح بحكم تكوين دعاتها، فبعضهم (خاصة في لبنان) كانوا من أساتذة وخريجي المدارس التبشيرية الأجنبية، مثل الأب رافائيل نخلة، والخوري فاروق عطية.
٭ كاتب من مصر
سياق وتوقيت وعنوان وتفاصيل معلومات لغوية/لسانية رائعة (العامية والأقنعة الاستعمارية: الشعارات والواقع)، وأحب أن أضيف العملة المعدنية والنقدية أفضل دليل عملي، ما هو موقع الحرف العربي الآن،
لو دخلت على أي موقع مهتم بجمع معلومات عن العملات المعدنية مثل
http://www.coins.com
وطلبت معلومات عملات كل دول آسيا وأفريقيا المعدنية قبل عام 1945، ستجد الحرف والرقم العربي على كل العملات عدا اليابان،
بينما لو الآن طلبت رؤية أي عملة من عملات الصين الورقية، في عام 2019، ستجد الحرف العربي مستخدم في كتابة الألفاظ الصينية حتى في المخفي منها، سبحان الله.