كانت أغلب الكتابات أو الأحاديث التي قرأتها أو سمعتها، بمناسبة حلول العام الجديد، تركزّ على تمنيات واقتراحات بشأن التغييرات المطلوبة في شتّى الحقول الحياتية، من أجل خروج الوطن العربي من الحالات المأساوية التي يعيشها الآن. لكن باعتقادي أنه يجب أن تسبق ذلك، كتابات وأحاديث بشأن ما يجب أن يراجع من ماضٍ، فإما أن يترك أو يعدل، قبل الانتقال إلى مرحلة تلك المقترحات المستقبلية. تفرض ضرورة تلك المعادلة عظم التغيرات التي رانت على المشهد العربي برمّته خلال السنوات القليلة الماضية.
هناك حاجة لجهة بحثية وفكرية عربية تضع استراتيجية تبين كيفية الانتقال بسلالة وصدق من إشكالات الماضي إلى رحاب المستقبل الذي كتب عنه الكثيرون بمناسبة العام الجديد
فمثلاً أن السّقم الذي حلّ بإرادة وكفاءة وفاعلية الجامعة العربية، والذي حتماً يبرر الحديث عن إصلاحات جذرية في وظائفها وأساليب عملها وأسس علاقاتها مع أعضائها من الدول العربية القطرية، يحتاج أولاً الحديث عن الغياب الكارثي لأهم أعمدة تلك الجامعة التاريخية المتألقة من مثل مصر والعراق وسوريا، وعن وسائل وإمكانيات رجوعهم الفاعل السابق. هذا لا يعني التقليل من أهمية الأعضاء الباقين، وإنما التأكيد على أن الجامعة لن تستطيع الخروج من أوضاعها الحالية، بينما بعض من مكوناتها الأساسية الكبرى ذات الوزن التاريخي والالتزامي الكبير تعاني الأمراض والفواجع التي تعيشها.
أهمية هذه الطريقة في التعامل مع المقترحات المستقبلية تظهر، كمثل، في طرح أمثال هذا السؤال المتواضع ومواجهته: ما الذي حدث لذلك الزخم الكبير المفعم بالآمال الذي رأيناه منذ بضعة شهور بشأن رجوع سوريا إلى حضن أمتها والتحاقها بالجامعة العربية، لا كدولة محاصرة جائعة محتلة، من هذه الدولة أو تلك الجهة، وإنما كسوريا السابقة المتعافية النشيطة في كل مناحي الحياة العربية؟ فاذا أضفنا، مثلاً، الأسقام التي يعاني منها لبنان والسودان وليبيا واليمن، وأضفنا الإمكانيات الكبرى للتلاعب بالموضوع الفلسطيني وبوجود شعبه في الحياة العربية، نستطيع أن نرى أن الحديث عن المستقبل الكلي، سيصبح هذراً إذا لم يسبقه حديث عن تفاصيل الماضي القريب، الذي منه سيولد المستقبل. ويمكن أن نأخذ كمثل ثان من أجل المزيد في توضيح الصورة حديث البعض عن مستقبل مجلس التعاون الخليجي. فهل يمكن الحديث عن مزيد من خطوات الاندماج والتوحيد ولعب دور أكبر في الجامعة العربية بينما يعيش المجلس حالياً مشكلة قيام بعض دوله بالتطبيع مع الكيان الصهيوني، بينما تمتنع بعض دوله الأخرى عن التطبيع. فكيف الحديث عن تسهيل انتقال الأفراد ما بين أقطاره وتوحيد البطاقة الشخصية والاندماج الأقوى في اقتصاده وبناء منظومة أمنية متضامنة ما بين أقطاره، مع وجود حالة التطبيع تلك بكل ما تأتي به من تناقضات وتراجعات عن التزامات قومية، واستحالة وجود موقف واحد في السياسة الخارجية ومقاطعة اقتصادية، وفي التعاون مع هذا العدو أو ذاك للأمة العربية؟ باختصار، أليس الحديث عن أمنية اتخاذ خطوات مستقبلية، من دون مواجهة خطوات ماضية سبقتها هو ثرثرة لا معنى لها؟ حتى الحديث عن انتقال الوطن العربي إلى أن يكون جزءاً من نظام بريكس. هل حقاً يمكن الحديث عن ذلك المستقبل بينما الماضي يشير إلى وجود ألف قيد ستفرضه دولة معادية لبريكس، هي الولايات المتحدة الأمريكية، التي تتحكم بالحياة الاقتصادية والسياسية العربية بأشكال لا تعدّ ولا تحصى؟ ما نريد أن نقوله أن هناك حاجة لجهة بحثية وفكرية عربية تضع استراتيجية تبين كيفية الانتقال بسلالة وصدق، وكأولويات متسلسلة، من إشكالات الماضي إلى رحاب المستقبل الذي كتب عنه الكثيرون بمناسبة العام الجديد. سيكون من الأفضل لو أن الجامعة العربية أو منظمة التعاون الإسلامي أناطت تلك المهمة بجهة فكرية بحثية موضوعية صريحة لتقوم بذلك، إذا لم تقم مثل تلك الجهات بالمهمة فالسؤال الذي يطرح نفسه: هل ستنبري جهات مدنية شعبية، عروبية أو عروبية -إسلامية، بعمل تلك الاستراتيجية وطرحها على الأمة الرسمية والمدنية، فلعل المستقبل آنذاك يصبح الحديث عنه بشكل منطقي قابل للتحقق، وليس بشكل رغائبي لا يقدم ولا يؤخر.
كاتب بحريني