رغم محاولة العديد من مفكري العرب الإجابة على سؤال السياسة بطرق ومناهج عدة، تباينت بين حدي العقلانية والواقعية السياسية، إلا أنه لليوم لم تتحقق في إحداهما أو معًا.
فيما برزت بينهما سياسات الانتماء الكتلي والطيف الشعوري المعززة بنزعة الاستحواذ على السلطة وطريقة قيادة الجماهير، والتي كان أبرزها في العصر الحديث مناهج القومجية والماركسوية العربية المحمولة على قوة العسكر وغلبته، حتى تحولت دولة المنطقة في معظمها لمعتقل كبير لكل من يناهض أو يخالف سطوتها، فيما دول العدو المفترض في إسرائيل والإمبريالية تعيش في رغد واستقرار.
حركة التحرر العربية
السؤال الذي لم تحسمه حركة التحرر العربية في القرن الواحد والعشرين هو سؤال الخلاف بين العقلانية والواقعية، سؤال التباين المتفاقم بين الأيديولوجيات الكلاسيكية وإن كانت محمولة على وجدان وطني، وسؤال البراغماتية والنفعية، خاصة وأن غالبية من يحملونها هم جيل الشباب العربي.
وجيل الشباب هذا حاول مرارًا وتكرارًا الإجابة العملية وبالطرق المباشرة على سؤال السياسة هذا، بطريقته المندفعة والمتحمسة للحرية والانعتاق من كافة قيوده التاريخية والحالية، سواء كانت سياسية أو دينية أو أيديولوجية، وعينه على المصلحة والواقعية.
اليوم تجد المفارقات العدة في صنوف السياسة والتوجه العام وأكثر ما يميزها:
انعدام الحوار العام بين السلطات والشعب، بقدر الإملاءات واستعادة فرض سياسة الهيمنة بطرق مختلفة عما كان سائدًا في فترة الديكتاتوريات المؤسسة لسلطات المنطقة العربية قبل ثورات التحرر العربي.
شدة التحاجز والاختلاف بين أصحاب الأيديولوجيات الكلاسيكية، والمترافق مع ادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة لكل جهة منها دون الأخرى.
النفور العام بين جيل الشباب وطرقه البراغماتية سواء بطرق العمل المدنية أو النزعات الشبابية المتحررة الفردية، وبين مختلف صنوف الفعاليات المجتمعية الأهلية والدينية والسياسية المعارضة والسلطوية.
فيما تبرز بين هذه جميعًا نظريات الواقعية السياسية التي تعتمد على سياسة الأمر الواقع والإقرار النهائي بهيمنته، لتطفو النفعية المحضة في ظل السلطات القائمة والتي تستعيد تموضعها السياسي في الواقع والمجتمع بعد انحسارات الربيع العربي!
هوة يردمها الجدل
بين العقلانية والواقعية هوة يردمها الجدل، كما عبر عنها المرحوم “الياس مرقص” يومًا بطريقة أخرى: بين الواقع والهدف هوة يردمها الجدل. فحيث تكون العقلانية صياغة مفهومية تحاول الإلمام الكلي في مجريات الحدث الواقعي وفق أسس منهجية وطرائق ودراسات معمقة، وقد تصاب أحيانًا بالأيديولوجيا والتنظير الجاف، تؤدي للنفور من الطرف الآخر المتسم بالواقعية والمعطيات الراهنة. إلا انها لليوم، العقلانية، لم تستطع التعامل مع النفعية والبراغماتية على أنها حق طبيعي يرتبط بالمصلحة، والتي من الممكن أن تتحول لمصلحة عامة، إذا ما تم التكامل بين العقلانية والواقعية بطريقة ثورية.
وأقول ثورية، ليس للقول إن الثورة هو الفعل الشعبي المشحون عاطفيًا الذي اجتاح الساحات العربية في ربيعه شبه الموؤد وحسب، بل ثورية بذلك المعنى الذي يقيم الانتقالات والقفزات النوعية من طور لآخر، من وجود لآخر. الثورية هنا هي تلك اللحظات النادرة التي شكلت مفترقات في تاريخ البشرية سواء في محلياتها الخاصة او أبعادها العمومية، الثورية هي تلك اللحظات التي التقت فيها الأفكار التحررية بوصفها عقلانية، مع المصالح العامة بوصفها واقعية، وأهمها لحظاتها التاريخية:
لم تقم دولة الإسلام والمسلمين بالقرآن الكريم وفكره التنويري وآياته المقدسة وحسب، بل بقيت تُحارب سنوات عشر وتنكر على محمد (ص) نبوته، إلى أن تحقق الفتح، فتح مكة. وفي فتح مكة التقت الفكرة بعقلانيتها مع المصلحة بواقعيتها. حيث تحقق الأمان بمقولة من دخل بيته أو بيت أبو سفيان أو المسجد فهو آمن، وتحققت مصلحة القبائل التجارية بحرية التجارة واعتبار مكة والكعبة قبلتها، وتحققت العدالة تدريجيًا حين وطدها عمر بن الخطاب حين رفض استعباد البشر وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا.
الدولة الأوروبية الحديثة
ولم تقم الدولة الحديثة الأوروبية في القرن التاسع عشر لأن جان جاك روسو كتب عقدها الاجتماعي، بل إن كتابات روسو التي كتبها قبل عقود منها لم تشر للثورة أصلًا.
ولم تنجح الثورة لأنها صاحبة فكر تحرري وحسب، بل عادت الهيمنة العسكرية البونابارتية على المجتمع الفرنسي مرة أخرى بالتحالف مع البرجوازية وطبقة النبلاء وقتها. لكن لحظة الالتقاء الكبرى بين فكر التنوير ممثلًا بروسو ومصلحة الطبقة البرجوازية في إنصاف العمال الفرنسيين وتخفيف الفجوة بين القيمة المنتجة والقيمة الفعلية للعمل، التقت في لحظة قصوى للتغلب على الفوضى وحكم العسكر، فأقامت مثلث العدالة والمساواة والحرية التي تعيشها أوروبا لليوم.
لحظات تاريخية أخرى يمكن عدها تباعًا، ومنها لحظة الدولة الأمريكية بعد حرب أهلية طويلة، اللحظة التي جمعت بين التسامح والحرية الفردية من جهة وبين حق الاستثمار الفردي والتمدد العام في الزراعة والصناعة والتقنية وحق الامتلاك. لحظة أقامت فورة المنهج النفعي لقوة الاقتصاد، خاصة إذا ما تأسس على أسس الاستقرار في دولة تسودها العدالة والحرية والقانون.
أما نحن العرب، والسوريين والفلسطينيين بشكل خاص، لا زلنا نتقاتل على أحقية فكرة دون غيرها، ومنصب خلاف غيره، لدرجة اقتتال أبناء الفريق الواحد بالسلاح أيضا كما حدث بين فصائل المعارضة السورية أو بين حماس وفتح يومًا.
ولازالت أطر العقلانية في وادٍ نظري يشوبه سؤال التنظير وعدم رؤية الواقع بمعطياته الراهنة، فيما سؤال الشباب والواقع والمعطيات الراهنة في وادٍ آخر.
أجزم أن السياسة عمل في الشأن العام منذ تاريخ اليونان القديم، ولا يمكن أن تكون عملا في الشأن الخاص أبدًا أيديولوجيًا أو نفعيًا، وهذه حينما تنفك عن بعضها، توصف بأي شيء إلا الشأن العام.
وأكاد اجزم لليوم أن لا تيار العقلانية العربية أدرك ضرورات الاستقرار والأمان والحرية الفردية ومولداتها الواقعية خاصة في عمر المرحلة الحالية من تجربة الشباب العربي ومنتجه المدني، وضرورة احتوائه وتقديم مبررات حضوره الفعلي، ولا الواقعية التجريبية لحركة الشباب العربي أدركت بعد ضرورة العقلانية كرؤية واسعة للواقع ترسم بوصلة الغد. وبالمعنى العام لم تردم الهوة بعد بين سؤال الواقع ومعطياته، وسؤال الهدف والمصير، ولم تتحقق بعد لحظة العناق تلك بين عقلانية وواقعية نرتقبها.
وحيث لا يمكن أن يبقى سؤال السياسة انتقائي الإجابة بين جيلين، وحتى لا يبقى صراع الأجيال محط استثمار وظيفي من سياسيي الأمر الواقع والمنتفعين منهم، لا بد للقاء عام بين مفردات العقلانية والواقعية، أول شروطها ترويض الفكر والنفس، وهذا الترويض إقرار بالأحقية أولًا والجدارة ثانيًا والمسؤولية ثالثًا، فكيف وإن اجتمعت جميعها في مفصل تحرري وطني تمنينا، ولازلنا، تحققه في تحقق الدولة العصرية بحكم الربيع العربي. وأظنه لقاء، إن تم سيشبه، عناق حوتين اندفعا من المحيطات ليتزاوجا في الفضاء الرحب، حسب استعارة أدغار موران يومًا، ولك أن تتخيل حجم الارتطام وصخبه لحظتها، ولكن توقع أن يكون المنتج مختلفًا عن البقاء في مياهنا الآسنة التي تكاد تهدر التاريخ والزمن والوطن، وتحكم وجودنا وسياستنا لليوم بالعبث.
كاتب سوري