العداء للسامية بين إليوت الشاعر وكوربن السياسي

حجم الخط
4

يلوح حتى الساعة أنّ الخروج من الاتحاد الأوروبي، أو البقاء فيه تحت طائلة استفتاء ثانٍ، هو المسألة الكبرى التي تدور حولها استقطابات الانتخابات التشريعية المقبلة في بريطانيا؛ ولعلّ هذه الحال هي الأولى من نوعها في تاريخ البلد، ليس لجهة الـ«بريكست» تحديداً بالطبع، وإنما في أنّ مواضيع الاقتصاد والخدمات ومفهوم الدولة الرأسمالية في هذا كله ليست محاور الصراع الأولى بين الحزبين المتنافسين تاريخياً، «المحافظين» و«العمال». الأمر الذي لا يطمس، في المقابل، عدداً من القضايا التي تلوح فرعية، أو حتى هامشية، لكنها تسهم في سيرورات الشدّ والجذب إلى درجة أنها يمكن أن تطيح بالولاء التقليدي لصالح ولاءات أخرى سواه.
العداء للسامية، وفي تمثيلاته البريطانية بادئ ذي بدء (إذْ ثمة تمثيلات قد تنطبق حصرياً على هذا البلد أو تلك الثقافة)؛ باتت واحدة من أبرز السجالات على هامش الانتخابات أو في فروعها، خاصة بعد أن بلغت مؤخراً مستوى إعلان «الحركة اليهودية» داخل «العمال» أنها لن تصوّت جماعياً للحزب الذي ناصرته طوال قرن من الزمان، بسبب مواقف زعيم الحزب جيريمي كوربن من مسألة العداء للسامية، مما يجعله غير صالح لوظيفة رئيس الحكومة. لكنّ الحركة سوف تختار مرشحين بعينهم من «العمّال»، كانت لهم مواقف واضحة وداعمة للمعركة التي شهدها الحزب في إطار مكافحة العداء للسامية.

دعوة «الحركة اليهودية» البريطانية إلى مقاطعة كوربن الزعيم السياسي، على أساس معيار وحيد هو الموقف من العداء للسامية؛ تشبه الدعوة إلى مقاطعة إليوت، الشاعر الحداثي الأهمّ في القرن العشرين، بسبب مقطع شعري يصحّ وصمه بالعداء للسامية

وليس هنا مقام مناقشة الإشكاليات السياسية والحزبية التي تكتنف هذا السجال، إذْ قد يكون الوقوف على أبعاده الثقافية ليس أقلّ أهمية في الواقع، خاصة وأنّ الحكاية ليست البتة جديدة: لم تبدأ مع كوربن، وليس من المرجح أن تنتهي بعد فشله أو نجاحه في الانتخابات. وكان المحامي البريطاني اليهودي أنتوني جوليوس قد ذكّر بأنّ التهمة الأشهر في تاريخ العداء للسامية، والتي تقول إنّ اليهود ذبحوا الأطفال المسيحيين لاستخدام دمائهم في أداء طقوس دينية سرّية، كانت قد وجدت تطبيقها العملي الأوّل في بريطانيا تحديداً، وأسفرت عن موجات الطرد الأبكر في التاريخ اليهودي، سنة 1290. كان جوليوس يردّ، ليس من دون مفارقة صارخة، على رئيس دولة الاحتلال الأسبق شمعون بيريس، الذي صنّف بريطانيا في خانة الدول الأشدّ عداء للسامية، وذلك في حوار مسهب مع المؤرخ الإسرائيلي بيني موريس. ولهذا فقد تعمّد جوليوس التذكير، أيضاً، بأنّ بريطانيا لم تشهد محاكمة تماثل قضية دريفوس في فرنسا، ولم تبلغ مشاعر العداء للسامية مستوى معسكرات الاعتقال في أوشفتز، أو فظائع الهولوكوست التي جرت هنا وهناك على نطاق أوروبا الشرقية.
ويحدث أيضاً أنّ جوليوس ناقد أدبي، وله كتاب لامع حول اتهام الشاعر الشهير ت. س. إليوت بالعداء للسامية، صدر سنة 2003 بعنوان «ت. س. إليوت، العداء للسامية، والشكل الأدبي»؛ يسعى إلى ضبط معايير الحكم الأدبي على القصائد والمقاطع «المتهمة»، ويصحّح زاوية النظر إليها من حيث قيمتها الجمالية أولاً، فيخلص إلى أنّ إليوت معادٍ للسامية (والبراهين كثيرة)، ولكنّ المقاطع التي عكست هذا الميل لديه كانت، وهكذا تظلّ، شعراً «رفيعاً» فنّياً. يكتب جوليوس: «امتلك إليوت مخيّلة شاعر معادٍ للسامية في درجتها الأعلى. كان متعايشاً مع المصادر المعادية للسامية، وغير مكترث بالألم اليهودي. والعداء للسامية لم يشوّه عمل إليوت، بل أسهم في انتعاشه. كان، في أحيان، بمثابة ملجأ وإلهام، وظلّ إليوت بارعاً في استثمار طاقته الأدبية (…) وبين أنواع مختلفة من العداء للسامية، كان إليوت صاحب نوع نادر، قادر على وضع عدائه للسامية في خدمة فنّه».
أغلب الظنّ أنّ جوليوس، المحامي هذه المرّة، نظر إلى المشهد العريض من زاوية حصيفة وذرائعية في آن؛ فقد كان يعرف أنّ نسبة 60 في المئة من الحوادث التي تُصنّف رسمياً في باب العداء للسامية، على الأرض البريطانية، إنما تكون أسبابها سياسية صرفة، وبواعثها في الأغلب ناجمة عن الاحتجاج على سياسات إسرائيلية ضدّ الفلسطينيين. وفي واقع الأمر، ثمة الكثير من الكتّاب اليهود الذين يرفضون استخدام الكوارث اليهودية كيفما اتفق، لا سيما حين تُرفع على هيئة فزّاعات في وجه الإنسانية، وذلك لتفادي التصاق إسرائيل بصورة الضحية المنقلبة إلى جلاّد. تاريخ الهولوكوست ليس ملكاً خالصاً للضحايا، وحدهم، من جانب أوّل؛ وهو، من جانب ثانٍ، لم يعد رهينة الذاكرة اليهودية، حصرياً، وبات سلسلة وقائع تجب دراستها واستخلاص العظات منها؛ وهو، ثالثاً، ليست حكراً على دولة الاحتلال، لأنّ تراث الهولوكوست، على نقيض من التبشير الصهيوني، يخصّ الإنسانية جمعاء.
وهكذا فإنّ دعوة «الحركة اليهودية» البريطانية إلى مقاطعة كوربن الزعيم السياسي، والتمييز بين مرشح عمالي وآخر على أساس معيار وحيد هو الموقف من العداء للسامية؛ تشبه الدعوة إلى مقاطعة إليوت، الشاعر الحداثي الأهمّ في القرن العشرين، بسبب مقطع شعري هنا أو عبارة نثرية هناك يصحّ وصمها بالعداء للسامية. هذا ما خلا الخلاف أو الاتفاق حول صحة اتهام كوربن شخصياً، أو أخذ كامل الحزب بجريرة موقف اتخذه بعض أعضاء الحزب ومرشحيه وقد يكون معادياً للسامية بالفعل؛ أو، وهنا المصيبة غالباً، الخلط عن سابق قصد بين العداء لدولة عنصرية استيطانية فاشية، والعداء لليهود أجمعين.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول إبراهيم بومسهولي - المغرب:

    معاداة السامية أو اللاسامية تعني في الأساس خطاب متكامل، يتبنى مناهج متقدمة في التحليل و ينهل من حجج متنوعة، عادة ما تكون “علمية “، ليثبت إنحطاط اليهودي، ويبرر تاليا، وبشكل حتمي، إبادته جسديا بأي شكل كان ! وهذا الخطاب ظهرت إرهاصاته في أوروبا منذ القرن 19، من خلال ما عرف ب” المسألة اليهودية” وتطور حتى وصل أوجه في ألمانيا النازية ومقولة ” الحل النهائي” كجواب على المسألة.
    ولكن هذا التعريف المتداول لدى الفلاسفة (مونيك كانتو سبيربرغ مثلا) لا يوجد له أثر في الإعلام ! والغرض معروف، أي الخلط المتعمد ما بين اللاسامية و النفور من اليهودية l’antijudaïsme ! وهذا الأخير هو المتداول لدى المسلمين مثلا، بحيث يبقى إحساسا لا يتخفى تحت رداء العلم ولا يهدف للإبادة في نهاية المطاف، وبالتالي هو إحساس لا يمكن إدانته أو حتى التشكي منه ! وهو غير مؤذي بتاتا بدليل أن هذا الشعور، المتبادل على فكرة !، لم يمنع أبدا التعايش بين المسلم واليهودي في نفس الدرب أو الحارة !
    ما نعاينه في الإعلام هو تهريب للمصطلح من أجل إبتزاز العالم !

  2. يقول ويكليكس العرب 0 ايلياء:

    سام ونسله قطنوا الشرق العربي وليس اوروبا وألد أعداء سام ونسله الصهاينة الذين يدعون انهم ضحية 0 الاسامية0 فأحياء مدنهم تشهد ما يعانيه يهود الشرق اي العرب منهم فهم عرب القومية يهود الدينفيسكنون جنوب المدن بأحياء فقيرة يعانوا العنصرية من الاشكناز الغربيين ومنذ تأسيس الكيان لم يكن رئيس وزراء اسرائيل شرقي فهم صهاينة بواجباتهم وعرب بحقوقهم

  3. يقول آصال أبسال:

    /تشبه الدعوة إلى مقاطعة إليوت، الشاعر الحداثي الأهمّ في القرن العشرين، بسبب مقطع شعري هنا أو عبارة نثرية هناك يصحّ وصمها بالعداء للسامية/..
    ترى كيف ينظر الأخ صبحي حديدي، من هذه الزاوية بالذات، إلى أدونيس بسبب من طائفيته، أو بالأخرى “عدائه للسنية”، في كتاباته الشعرية والنثرية /وهو أيضا في نظر البعض الشاعر الحداثي الأهم في هذا العالم العربي حاليا/.. ؟؟

    1. يقول آصال أبسال:

      *بالأخرى : بالأحرى

إشترك في قائمتنا البريدية