العدوان الإسرائيلي صدمة كارثية تضرب ما تبقى من اقتصاد لبنان

إبراهيم نوار
حجم الخط
0

لم يتبق الكثير على قيد الحياة من اقتصاد لبنان. الديون المستحقة على البنك المركزي «بنك لبنان» تتجاوز 7 أمثال الناتج المحلي اللبناني، والليرة اللبنانية فقدت أكثر من 98 في المئة من قيمتها، ويواجه لبنان أزمة اقتصادية مركبة يعتبرها البنك الدولي واحدة من أسوأ الكوارث الاقتصادية في العصر الحديث. كما يعاني من عجز عن سداد ديونه الخارجية، ويواجه أزمة ديون مركبة، كما يواجه أزمة مصرفية، وأزمة عملة، وأزمة في عرض السلع بسبب انهيار النمو، ويعاني كذلك من أزمة ديموغرافية بسبب ضخامة عدد المهاجرين السوريين الذين يتجاوز عددهم 1.5 مليون شخص. كما يعاني في الوقت نفسه من انهيار واسع النطاق في مؤسسات الدولة، التي لا يمثل وجودها إلا مجرد لافتة شكلية تحول دون شطب لبنان، الذي أصبح دولة فاشلة بامتياز، من قائمة دول العالم.

لبنان آخر بعد الحرب

وبعد انتقال الحرب الحالية التي تشنها إسرائيل على خصومها وأعدائها في المنطقة إلى داخل لبنان، فإن كل الجراح الاقتصادية لذلك البلد تصبح مكامن خطورة قد تؤدي فعلا إلى إقامة لبنان جديد، بعد حرب ممتدة، يختلف تماما عن لبنان الذي نراه الآن. وينزح حاليا عشرات الآلاف من اللبنانيين من قرى ومدن الجنوب إلى مناطق أخرى، إضافة إلى ما يقرب من 100 ألف سبقوهم خلال الفترة منذ تشرين الأول/أكتوبر حتى أوائل الشهر الحالي. وبسبب الحرب أوقف عدد كبير من شركات الطيران (حوالي 30 شركة) الرحلات من وإلى مطار بيروت. وطبقا لتقدير جان عبود رئيس اتحاد الشركات السياحية فإن حركة السفر في المطار هبطت بنسبة تتراوح بين 30 – 40 في المئة خلال الأيام الأخيرة عما كانت عليه قبل ذلك. وفي حال امتداد هجمات الطائرات الإسرائيلية إلى مناطق أوسع فإن حركة النزوح ستزداد اتساعا. أما في حال قيام القوات الإسرائيلية باجتياح لبنان بريا، فإن أكثر من 4 ملايين لبناني سيصبحون نازحين داخل بلدهم، تحت سمع وبصر العالم.
كل ما قام به الرئيس الأمريكي بايدن هو مناشدة الطرفين بعدم التصعيد، وكأن إسرائيل لا تعتدي بوقاحة ووحشية على دولة مستقلة ذات سيادة من حقها الدفاع عن نفسها ضد دولة معتدية، وتتطلع في الوقت نفسه إلى أن يتحمل العالم مسؤوليته في ردع المعتدي وضمان أمن البلد المعتدى عليه. وعلى عكس ما حدث عند احتلال العراق للكويت عام 1990 فإننا لم نسمع حتى الآن عن أي مبادرة لإقامة تحالف دولي لردع العدوان الإسرائيلي على لبنان، وضمان أمن شعبه. ومن الناحية الإنسانية فإن مكتب المفوضية العليا للاجئين التابعة للأمم المتحدة، الذي يقوم بدور كبير في تقديم المساعدات للاجئين والنازحين، أصبح في احتياج شديد إلى مضاعفة موارده العينية والنقدية، من أجل تقديم العون العاجل لعشرات الآلاف من النازحين اللبنانيين، والمهاجرين السوريين، وسكان المخيمات الفلسطينيين.

المسؤولية العربية

وإذا كان العالم قد تخلى عن مسؤولياته، رغم نداءات الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيرش، فإن المسؤولية تقع الآن على الدول العربية الغنية لكي تلبي هذه الاحتياجات من خلال جهد جماعي منظم بالتنسيق مع الحكومة اللبنانية رغم أن اللبنانيين يعلمون ضعف هذه الحكومة وفسادها وهشاشة وجودها المادي. ومن المؤسف ألا تكون جامعة الدول العربية في مقدمة الصف العالمي للمطالبة بإنشاء صندوق عالمي لتقديم الدعم الاقتصادي والإنساني للشعب اللبناني من خلال كافة القنوات المتاحة، سواء المفوضية العليا للاجئين التابعة للأمم المتحدة، والبنك الدولي، أو منظمات الدعم الأوروبية العاملة في لبنان، سواء كانت جمعيات أهلية أو منظمات حكومية أو منظمات متعددة الأطراف. ولا شك أن فرنسا، بماضيها السياسي في لبنان وعلاقاتها مع القوى المختلفة هناك تمثل منصة دولية مهمة يمكن أن تطلق منها جامعة الدول العربية مع تحالف عربي أوروبي نداء لإنشاء صندوق عالمي لمساعدة لبنان على تحمل الصدمة الاقتصادية والإنسانية للحرب. ويجب ألا يكون هناك أي وهم عن أن هذه الحرب ستتوقف قريبا حتى تتوقف فعلا.

ملامح الأزمة الحالية

وطبقا لبيانات البنك الدولي فإن لبنان يواجه كارثة اقتصادية لم تحدث من قبل، حيث هبط الناتج المحلي من 55 مليار دولار في عام 2018 إلى 31.7 مليار دولار في عام 2020. وتشير بيانات أصدرها البنك في شهر ايار/مايو الماضي إلى أن أكثر من 88 في المئة من السكان يعانون من الفقر، وأن معدل الفقر المدقع في لبنان قفز بمعدل ثلاث مرات خلال العقد الأخير ليصل إلى 44 في المئة من السكان. ويعاني لبنان من أسوأ أزمة مهاجرين في العالم حيث يقيم به ما يقرب من 1.5 مليون شخص من المهاجرين السوريين، نصفهم مسجلين لدى المفوضية العليا للاجئين التابعة للأمم المتحدة. وعلى الرغم من أن العمليات العسكرية تتركز في الجنوب إلى حد كبير، إلا أن تأثير الصراع المستمر محسوس في جميع أنحاء البلاد. وقد انخفض عدد المسافرين القادمين إلى مطار بيروت بنسبة 23 في المئة في تشرين الأول/أكتوبر 2023 مقارنة بالعام السابق، وبالتالي، تقلص عدد النزلاء في قطاع الضيافة، ما قلل حجم الأعمال للفنادق والمطاعم.
ومع استمرار القتال، لا يزال يتعين إجراء تقييم شامل لكيفية تأثير الصراع سلبا على الاقتصاد والبنية التحتية اللبنانية. وقد يؤدي الصراع في جنوب لبنان إلى انخفاض ملحوظ في تدفقات العملة الصعبة – في المقام الأول مصادرها الأربعة وهي السياحة، والاستثمارات الأجنبية، والتحويلات المالية، والصادرات – التي يحتاج إليها لبنان بشدة لتمويل فاتورة وارداته الكبيرة. وبالنظر إلى التأثير المضاعف للتداعيات الناتجة عن ذلك، فإن الخسائر الحقيقية والمحتملة أكبر بكثير مما هو مقدر في الوقت الراهن، حيث ستؤثر مدة الحرب ونطاقها الجغرافي على تدفق العملة الصعبة إلى البلاد.

خسائر تقترب من 8 مليارات دولار

واعتمادا على البيانات المتاحة فإن مركز «مبادرة السياسات» وهو مؤسسة لبنانية محلية مستقلة للفكر والدراسات، يقدر عدد السياح الذين تدفقوا على لبنان خلال الفترة من تشرين الأول/أكتوبر الماضي حتى شباط/فبراير من العام الحالي بما يقرب من 300 ألف سائح على أكثر تقدير، في مقابل توقعات بقدوم نحو 1.3 مليون سائح ومغترب إلى لبنان خلال تلك الفترة.
وتقول الدراسة إنه بالنظر إلى أن السياح في المتوسط، ينفقون 1500 دولار لكل زيارة بناء على أرقام عام 2022 فإن الخسارة الاقتصادية في تدفق السياحة خلال تلك الفترة تقدر بحوالي 450 مليون دولار.
القطاع الآخر، إلى جانب السياحة، الذي تشير التوقعات إلى أنه يتعرض لخسائر كبيرة هو قطاع الاستثمار العقاري. ومن المتوقع أن ينخفض الاستثمار العقاري الأجنبي في المناطق الجنوبية بشكل كبير. في الواقع، سجل عام 2023 انخفاضا في المعاملات العقارية على مستوى البلاد بنسبة 60 في المئة على أساس سنوي، وانخفاضا بنسبة 40 في المئة مقارنة بمتوسط 12 عاما (2011-2022) ما يشير إلى تردد أوسع بين المستثمرين. هذا يعني أن خسارة 40 في المئة في الاستثمار الأجنبي المباشر في قطاع العقارات فقط على مدى ستة أشهر تترجم إلى خسارة تقدر بنحو 105 ملايين دولار. وقد يبلغ إجمالي الخسارة في التدفقات إلى لبنان بالنظر إلى هذين القطاعين فقط، حوالي 550 مليون دولار.
وفي حال استمرار الحرب، ستستمر معاناة قطاعي السياحة والاستثمار العقاري، ما يحرم لبنان من المزيد من التدفقات. على سبيل المثال، من المتوقع أن ينخفض عدد السياح الذين يزورون لبنان بمقدار 900.000 بين تشرين الأول/أكتوبر 2023 ونهاية الشهر الحالي، ما يؤدي إلى خسارة تقدر بنحو 1.35 مليار دولار من عائدات السياحة. وبالمثل، فإن استمرار الحرب، الذي طال أمده، من شأنه أن يؤدي إلى تفاقم التدهور في القطاع العقاري وفي تدفقات الاستثمار الأجنبي. بالإضافة إلى ذلك سيؤثر الضرر الذي يلحق بالقطاع الزراعي على الصادرات. وبالنظر إلى أن الجنوب مساهم مهم في إنتاج الزيتون والتبغ واللوز والقمح والشعير والحمضيات والموز والحليب وزيت الزيتون من بين أمور أخرى، فإن إجمالي صادراته التي تبلغ قيمتها 94 مليون دولار سنويا سيتدهور، وبالتالي من المتوقع أن تبلغ قيمة إجمالي الخسائر المتوقعة في تدفقات العملات الأجنبية 1.6 مليار دولار على الأقل بسبب تأثير الحرب على قطاعات السياحة والاستثمار والصادرات.
وفي حال تطور الاعتداءات الإسرائيلية إلى حرب شاملة، ستتعطل قنوات التدفق الرئيسية من الخارج بما فيها تحويلات العاملين بشدة، إذ ستتوقف السياحة تقريبا مع انخفاض أعداد الركاب الوافدين بنسبة 90 في المئة، على غرار الاتجاه الذي لوحظ خلال حرب عام 2006. وقد يؤدي ذلك إلى فقدان حوالي 4 مليارات دولار من عائدات السياحة. وعلاوة على ذلك، وبسبب هجرة العمال والشركات اللبنانية ذات المهارات العالية ولا سيما الدولية منها، فإن تدفق المدفوعات إلى الموظفين سيعاني بشكل كبير. وكانت تلك المدفوعات قد تعرضت لانخفاض تدريجي أثناء حرب 2006 لتصل نسبة الانخفاض إلى تعويضات الموظفين في 55 في المئة في كانون الأول/ديسمبر 2006 مقارنة بالشهر المقابل في العام السابق. في مثل هذا السيناريو، سوف تتعرض البنية التحتية الحيوية للنقل والشحن للخطر، فضلا عن إمدادات المياه والطاقة. ومن المرجح أن يؤدي ذلك إلى انكماش كبير في قطاع الصناعات التحويلية والصادرات. ويمكن أن يتسع نطاق هذا الانكماش إلى أكثر من 50 في المئة خلال فترة 12 شهرا بين تشرين الأول/أكتوبر 2023 وايلول/سبتمبر 2024 بخسارة تصل إلى حوالي 2 مليار دولار.
وبما أن الليرة اللبنانية تتم طباعتها في روسيا منذ أكثر من 10 سنوات ويتم استيرادها من هناك لتوفير أداة المدفوعات بالعملة المحلية لصرف التحويلات الواردة من الخارج وسداد المدفوعات ذات المنشأ المحلي، فإن فقدان الموانئ والواردات يعني أن لبنان سيخسر هذا التدفق الحيوي خلال الحرب. ومن شأن ذلك أن يعرض للخطر إلى حد كبير سبل عيش الأسر التي تعتمد على التحويلات المالية أثناء الحرب، لأنها لن تتمكن من الحصول على أشكال أخرى من الدخل. وإجمالا من المرجح أن يخسر لبنان حوالي 1.5 مليار دولار من تدفقات التحويلات خلال هذه الفترة. وتقدر دراسة مركز «مبادرة السياسات» استنادا على أرقام البنك الدولي وصندوق النقد أن الخسارة المحتملة في التدفقات المتأثرة بالحرب ستصل إلى حوالي 7.7 مليار دولار، وهو رقم ضخم من الخسائر بالنظر إلى تقلص الناتج المحلي الإجمالي للبنان البالغ 16 مليار دولار.

انكماش الناتج المحلي

ويقدم بنك التنمية والإعمار الأوروبي صورة أقل قتامة لوضع الاقتصاد اللبناني في العام الحالي، حيث يتوقع أن ينكمش إجمالي الناتج المحلي في لبنان بنسبة 1.0 في المئة في عام 2024 وسط تدهور الاستقرار والتقاعس السياسي وتعثر الإصلاحات. ويمكن أن يعود معدل النمو إلى 2.0 في المئة في عام 2025 ولكن فقط إذا تم احتواء الحرب المسلحة وإحراز تقدم في الإصلاحات ووضع برنامج لصندوق النقد الدولي موضع التنفيذ. وكان البنك الأوروبي قد أعد هذا التقرير قبل أن تقرر إسرائيل نقل مجهودها العسكري الرئيسي من غزة إلى جنوب لبنان. وقال البنك إن حدة تقلب أسعار الصرف قد خفت عن ذي قبل، حيث اتخذ البنك المركزي اللبناني عدة تدابير لتوحيد أسعار الصرف المتعددة في الاقتصاد. وساعد على ذلك أيضا اعتماد قانون موازنة 2024 الذي يوائم سعر الصرف بالقرب من سعر السوق السائد. ونتيجة لذلك، انخفض التضخم بشكل كبير إلى 35.4 في المئة في تموز/يوليو 2024 من ذروة بلغت 352 في المئة في اذار/مارس 2023 وساعد ذلك جزئيا على انخفاض أسعار الطاقة والمواد الغذائية. ولا تزال الظروف الاقتصادية مزرية بعد سنوات من التضخم المرتفع للغاية والبطالة المرتفعة التي تشمل أكثر من ثلث القوى العاملة. هذه النظرة من جانب بنك الإعمار والتنمية الأوروبي تعتبر متفائلة إلى حد كبير، نظرا لعمليات التدمير الوحشية التي تقوم بها إسرائيل في لبنان، وزيادة احتمالات انتقال الحرب من مجرد غارات بالطيران إلى اجتياح بري شامل.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية