لم يكن مستغربا أن تصاب القوى الغربية بالذهول بعد تنفيذ إيران تهديدها بالرد على العدوان الإسرائيلي الأخير. فمنذ أن فُرض الكيان الإسرائيلي على أرض فلسطين اعتاد حكامه ارتكاب الجرائم بدون أن يخشوا من عقاب أو يواجهوا ردة فعل بحجم الجريمة التي ارتكبوها.
وقد شجعهم ذلك على التوسع وارتكاب المزيد من جرائم الإبادة بحق أهل فلسطين والتعدي على المقدسات الإسلامية واستهداف البلدان المجاورة. ثم توسعت جرائمهم لتشمل اغتيال الشخصيات البارزة وكذلك الأطفال والنساء. وما أكثر المناطق السكنية الفلسطينية التي قاموا بتجريفها. فلم يتخلّوا يوما عن أطماعهم للاستيلاء على مناطق جغرافية تتجاوز حدود فلسطين. لذلك لم يتوقفوا عن البدء بالعدوان. أليس هذا ما حدث في العام 1948 ثم في العام 1967؟ ألم يبدأوا بالعدوان قبل أن يكون هناك بدءٌ للحرب من الطرف العربي؟ وما أكثر المرات التي اخترقوا فيها حدود لبنان. فقد احتلوا جنوبه كما احتلوا بيروت ودمروا مناطق واسعة فيها. وتمادوا في ذلك حتى استهدفوا المفاعل النووي العراقي المعروف بـ «أوسيراك» في العام 1982 وتطاولت أيديهم لتغتال رموز أهل فلسطين خارج الحدود. ففي أبريل 1988 اغتالوا الزعيم الفلسطيني خليل الوزير (أبو جهاد) في تونس، وفي يناير 1991 اغتالوا صلاح خلف (أبو أياد) في تونس. كما اغتالوا في اكتوبر 1995 فتحي الشقاقي في مالطا. وقام فريق اغتيالات إسرائيلي في سبتمبر 1997 باستهداف خالد مشعل في عمّان بالأردن.
ولا تمحى من الذاكرة جريمة الإسرائيليين الشنعاء التي اغتالوا فيها محمود المبحوح في العام 2010 عندما بعثوا 15 من عملائهم إلى أبو ظبي ليستهدفوه بأحد الفنادق مستخدمين جوازات سفر مزورة. وفي كل هذه الجرائم لم يتعرض الصهاينة لردود فعل مناسبة لأمور عديدة: أولها شعورهم بأن الولايات المتحدة الأمريكية ستقوم بالدفاع عنهم إذا ما تعرض أمنهم للخطر. ثانيا شعورهم بأن الجانب العربي في ظل حكّام خائفين او متواطيئن لن يتجرأ على القيام برد فعل مناسب. ثالثا الشعور الوهمي بالقوة الذاتية المفرطة بسبب السياسة الأمريكية القائمة على ضمان التفوق العسكري الإسرائيلي بشكل دائم.
من هنا فعندما استهدفوا مناوئيهم خارج الحدود كانوا يتوقعون دائما أن يكونوا بمنأى عن ردود فعل كبيرة. وكثيرا ما استهدفوا عناصر سياسية وعسكرية وعلمية من الدول العربية والإسلامية الكبرى فمنذ العام 1948 استهدفوا علماء رياضيين وفيزيائيين في مصر كما استهدفوا علماء الذرة الإيرانيين في السنوات الـ 20 الماضية على أمل تعطيل المشروع النووي الإيراني الذي جنّدوا العالم الغربي لتعطيله. وبرغم توقيع الاتفاق النووي بين إيران والدول الست (أمريكا وبريطانيا وفرنسا وروسيا والصين وألمانيا) في العام 2015 لم يتوقف الصهاينة عن استهداف إيران.
في البداية كان هذا الاستهداف محصورا بالدول المجاورة التي يتواجد فيها مجموعات مسلحة تتعاطف مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية خصوصا جنوب لبنان وسوريا والعراق. فاغتالت رموزا مثل عماد مغنية في دمشق وقبله محمد صالح الحسيني في بيروت. لكنهم هذه المرة تعرضوا بشكل مباشر للقادة العسكريين الإيرانيين بالاعتداء على القنصلية الإيرانية في العاصمة السورية وقتل عدد من القادة العسكريين. وسبق ذلك اعتداءات على الوجود الإيراني في مناطق عديدة في سوريا والعراق.
هذه المرة كان الاعتداء صارخا وتحدّيا كبيرا للقيادة الإيرانية التي لم تتردد يوما في رفض الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين. بل اعتبرته غير مشروع وأقامت المؤتمرات والندوات والتظاهرات لإبقاء جذوة مناهضة هذا الاحتلال متقدة في نفوس المناضلين. كما لم تخف يوما دعمها للمجموعات الفلسطينية المناهضة للاحتلال الإسرائيلي. وفي الشهور الستة الأخيرة تعرضت غزة لاعتداءات لم تتوقف استشهد خلالها أكثر من 33 ألفا من أهل فلسطين لم يتحرك أحد للدفاع عنهم. فلم تصدر قرارات من مجلس الأمن الدولي أو الأمم المتحدة أو الاتحاد الأوروبي باعتبار ذلك القتل الجماعي جريمة ضد الإنسانية.
إن روح التضامن والتعاون والوقوف بوجه المظلوم يجب أن تفرض نفسها على المواقف في الشرق الأوسط لكي تكون له هيبة ويتم ردع من يهدد أمنه
هذه المواقف الدولية الخانعة شجعت الإسرائيليين على مواصلة العدوان والاستهداف، فمن أمن العقوبة أساء الأدب. هذا لا يعني أن الشعوب العربية راضية عما يجري، لكنها مغلوبة على أمرها. ولو فُتح باب التطوع لمواجهة الاحتلال والدفاع عن أهل فلسطين سواء في غزة أم القدس لما شعرت «إسرائيل» بالأمن من العقوبة. وبلغ الأمر على الجانب العربي أن تمنع التظاهرات والاحتجاجات المناوئة للاحتلال والداعمة لأهل فلسطين. مع ذلك كان الكيان الإسرائيلي ينظر لإيران أنها المحرض الأساسي للوجدان العربي الإسلامي من خلال شعاراتها تارة وسياساتها ثانيا ومشاريعها التوعوية من جهة ثالثة. ومن هذه المشاريع يوم القدس العالمي في آخر جمعة من شهر رمضان المبارك، الذي أعلنه الإمام الخميني يوما للمدينة المقدسة. ولا شك أن انتشار ظاهرة التوعية الشعبية بالقضية الفلسطينية عامل جوهري في إبقاء جذوة القضية متقدة في نفوس العرب والمسلمين بل في نفوس طلاب الحرية وعشاقها في بلدان العالم. وساهم النضال الفلسطيني في تحويل قضية فلسطين وما يرتبط بها من سياسات ومواقف. فهل هناك مناضل ثوري في أية بقعة من بقاع العالم لا يرفع لواء فلسطين اليوم ويعتبرها تجليا للصراع بين بلدان ما كان يسمى العالم الثالث أو ما يسمى اليوم «الجنوب العالمي» (غلوبال ساوث) وقوى الهيمنة والاستغلال الغربية؟ فهذه جنوب أفريقيا تتبنى محاكمة كيان الاحتلال أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي. إنها روح النضال التي تخترق الحدود وتتجاوز المسافات لتحرك النفس الإنسانية للدفاع عن المظلومين.
قليلة هي الدول التي تتصدى عمليا لجرائم الاحتلال الإسرائيلي فقد ترك هذا العالم أهل فلسطين لمواجهة مصيرهم. فبينما اخترقت «إسرائيل» ومعها أمريكا المواثيق الدولية والعالمية التي تُجرّم الاحتلال وإبعاد الناس عن أرضهم ورفض الامتثال للقوانين التي صدرت منذ العام 1948 حتى الآن ما يزال الكثيرون يتذرعون بمقولة احترام القانون الدولي لتبرير تقاعسهم عن دعم أهل فلسطين.
ويشعر حكام هذا الكيان بالخطر عندما ترتفع رايات دولية مناهضة لجرائمه. وتمثل إيران في الوقت الحاضر حجر الزاوية في مشاريع ملاحقة الاحتلال عمليا. لذلك لم تتردد قوات الاحتلال في استهداف إيران سياسيا وأمنيا وعسكريا واقتصاديا. الملاحظ أن العدوان الإسرائيلي على القنصلية الإيرانية في دمشق التي أدت لمصرع عدد من من العسكريين الإيرانيين لم يُقابَل بشجب أو استنكار برغم أن استهداف المقرات الدبلوماسية خرق فاضح للقانون الدولي الذي ينص على حماية المنشآت الدبلوماسية. فكان الموقف الدولي باهتا، وكأن شيئا لم يحدث. كما لم تمنع واشنطن الإسرائيليين عن شن ذلك العدوان برغم علمها به مسبقا. ولكن ما أن أعلنت طهران عزمها على الرد حتى صدرت تصريحات غربية كثيرة ضده. وعندما تم تنفيذه تفاقمت تلك التصريحات.
أليس هذا كيلا بمكيالين؟ هل يمكن إحلال الأمن والسلم الدوليين باختراق القوانين التي وضعتها الأمم المتحدة سواء بمنع شن الحرب والعدوان أم بحماية المنشآت الدبلوماسية أم جريمة اغتيال الزعماء السياسيين التي تعتبر قتلا خارج القانون أم بسياسات التوسع في الاحتلال؟ فكيف يمكن الحفاظ على أمن العالم إذا كانت هناك دول أو حكومات أو كيانات مارقة تستخدم قوتها العسكرية لتوسيع نفوذها وفرض هيمنتها على العالم؟
التزمت الولايات المتحدة الأمريكية الصمت على جريمة الاستهداف الإسرائيلي للقنصلية الإيرانية وارتفع صوتها عندما ردت طهران على ذلك العدوان. وتدخلت أمريكا عمليا هذه المرة إلى جانب الاحتلال بالتصدي للصواريخ والمسيّرات الإيرانية التي استخدمت في الساعات الأولى من يوم السبت الماضي ردا على العدوان الإسرائيلي في الأول من إبريل. إن روح التضامن والتعاون والوقوف بوجه المظلوم يجب أن تفرض نفسها على المواقف في الشرق الأوسط لكي تكون له هيبة ويتم ردع من يهدد أمنه ويستهدف شعوبه ويعتدي على مقدساته. فالدفاع عن فلسطين وحماية الأماكن المقدسة في القدس والتضامن مع أهلها مسؤولية إنسانية وإسلامية.
كاتب بحريني