جنين- “القدس العربي”:
في الوقت الذي انشغل آلاف المواطنين في محافظة جنين بمحاولة مساعدة مئات العائلات النازحة من منازلها على الأطراف الشرقية من المخيم، فإن قلة من المواطنين والمهتمين انشغلوا بسؤال الخروج وأسبابه ودوافعه وأثره على المقاومين المتحصنين في المخيم.
فأمام العاطفة الجياشة والرغبة العارمة بتقديم المساعدة تحولت مدينة جنين إلى شعلة من الحركة والنشاط على أمل أن تلبي حاجات المواطنين الذي أجبرهم الاحتلال على الخروج من بيوتهم، وما هي إلا دقائق وتجمعت مئات السيارات الخاصة التي سارت في مناطق على أطراف المخيم من أجل تقديم يد المساعدة وإيواء النازحين.
وفتحت أبواب المقرات الأمنية الملاصقة، وكذلك صالات الأفراح ودواوين العائلات وغرف الفنادق الفارغة وأبواب المساجد والكنائس، كما تم تبادل مئات الأرقام على الشبكات الاجتماعية لمواطنين يفتحون بيوتهم لسكان المخيم.
وللوهلة الأولى غاب السؤال الأهم وهو: كيف حصل ذلك؟ وما حقيقة ما نشرته بعض الفيديوهات التي تقول وتخبر بعاطفة وحزن كبيرين أن كل سكان المخيم خرجوا من منازلهم؟ ولماذا انتشرت إشاعات تخبر المواطنين أن المرحلة الثانية من العملية العسكرية الإسرائيلية ستعني قصف المنازل “عن جنب وطرف” كما يقال بالعامية الفلسطينية؟
بحسب مصادر محلية، فإن الاحتلال الإسرائيلي أرغم، مساء الإثنين، مئات المواطنين من أهالي مخيم جنين على مغادرته تحت تهديد قصف منازلهم. وأفاد شهود عيان، بأن قوات الاحتلال أجبرت مئات المواطنين على إخلاء منازلهم في المنطقة القريبة من دوار الحصان (على أطراف المخيم الشرقية)، وذلك بعد أن طالبتهم عبر مكبرات الصوت بإخلاء المنازل، مؤكدين لجوء العائلات لساحات المستشفيات وقاعة بلدية جنين.
ومن الملاحظ أنه وعلى الفور، وبعد انتشار صور خروج المواطنين من المخيم، سارع مواطنون من داخله إلى الخروج بمقاطع ورسائل صوتية تؤكد أن من خرج من المخيم هم عائلات في بعض المنازل على أطرافه، فيما شددت الرسائل على أن أغلب السكان ما زالوا في منازلهم.
وبحسب نشطاء من المخيم، فإن الاحتلال يحاول الترويج لفكرة أن المكان خالٍ من المواطنين، وأن من تبقى به هم فقط المقاومون، وذلك من أجل تبرير عملياته العسكرية واستمرارها، وتخفيض مستوى الضغط الدولي لوقف العمليات، حيث يريد الإيحاء بأنه يقوم باستكمال العملية العسكرية في بيئة خالية من المدنيين.
واعتبر ناشط من المخيم أن خروج سكان المخيم من منازلهم (تهجيرهم) يحقق للاحتلال هدفا إستراتيجيا للعملية العسكرية.
ونقل المتحدث باسم الهلال الأحمر الفلسطيني محمود السعدي، أن سيارات الإسعاف نقلت ما يقرب من 500 عائلة من المخيم إلى مناطق خارجه، كما قدر أعداد المواطنين الذين خرجوا بـ3 آلاف مواطن.
بحسب الدكتور سليم بريك، وهو الخبير في الشأن الإسرائيلي، فإن إخراج المواطنين من بيوتهم يعتبر نوعا من التهديد العميق الذي يقوم الاحتلال بفرضه على سكان المخيم.
ويضيف: “منذ فترة أصبحنا نسمع قادة في الحكومة الإسرائيلية أو من مجتمع النخبة السياسية الإسرائيلي يقولون إنه إذا نسي العرب ما جرى لهم عام 1948 فنحن يمكننا أن نذكرهم بذلك، وهذا يعني التهديد بنكبة جديدة، وهو ما أصبح يطفو على السطح من جديد مع تقدم الساعات على العملية العسكرية في مخيم جنين”.
ويتابع أن أحاديث سابقة للمتطرف وزير المالية بتسلئيل سموتريتش ردد فيها كثيرا أن المواطنين العرب في داخل فلسطين المحتلة عام 1948 هم مواطنون في دولة إسرائيل حاليا، وشدد على كلمة “هم مواطنون حاليا”، وهي أحاديث لا يمكن التعامل معها إلا من باب رؤيتها على أنها تهديد جديد بالتهجير.
ويرى بريك أن قراءة المشهد في مخيم جنين لا يمكن إخراجها عن هذا النوع من التهديدات، ومحاولات التذكير من الأقوال إلى الممارسة الفعلية، حتى لو كانت يومين فقط بحيث يعود السكان لبيوتهم بعد انتهاء العملية.
وشدد أن المشهد مساء أمس يعكس حالة من زع “سيكولوجيا الخوف” في نفوس المواطنين من إمكانية نكبة جديدة، وهو تهديد جديد يلوح به وزير الجيش الإسرائيلي يؤاف غالنت، الذي يعتبر شخصية معروفة بالعداء الشديد للعرب وبنزعته الهمجية الإرهابية.
وأضاف بريك أن الجيش قام فعليا بإخراج الناس من منازلهم، وهو لم ينف ذلك، هو قام بالتهجير سواء قولا أو فعلا، فهو استعمل البيوت كثكنات عسكرية أو أماكن للقنص، كما أنه هدد العائلات، واقتحم المنازل، وبالتالي نرى هذه الممارسة على أنها نوع من العقاب الجماعي القائم على الترهيب والتهديد العميق، وهو أمر سيظل أثره في نفوس المواطنين طويلا.
ويضع بريك ما حدث يوم أمس في سياق ما نقلته وسائل إعلام عبرية من التزام دولة الاحتلال أمام الولايات المتحدة بعدم إسقاط ضحايا عُزّل في المخيم.
ويكمل في تحليله للحالة التي تعكسها الممارسة الإسرائيلية في المخيم، أن ضابطا رفيعا في الجيش قال مساء أمس أمام وسائل إعلام إسرائيلية، إن قتل 8 مواطنين من سكان المخيم هو عدد قليل جدا، وكأنه كان يطالب أن يكون القتل أكثر حتى يزرع المزيد من الخوف العميق في نفوس المواطنين. فمن الواضح لنا كمتابعين أن الأعمال العسكرية التقليدية لم تعد كافية لإخافة المواطنين وترهيبهم، وبالتالي يكون اللجوء لخيارات أكثر أثرا في نفوس المواطنين.
وحول طبيعة الموقف الصحيح في ظل إشكالية الخروج من عدمها، قال بريك: “من حق الناس أن تحمي عائلاتها لكن قد يترتب على ذلك أثر سلبي على المقاومين. ومع ذلك، لا يمكن لنا محاسبة أحد إلا إذا كنا مكانه، فما قام به الاحتلال من قصف وتجريف وتدمير للمنازل عمل على زرع الخوف بين السكان الذين يسعون دوما إلى حماية أنفسهم وعائلاتهم، وتحديدا إذا كنا أمام حالات دق الباب، حيث ينذر فيها الجنود أصحاب المنزل بالاستهداف ويطلبون منهم المغادرة”.
ويرى أن فكرة البقاء والصمود في المخيم يجب أن تكون صادرة عن سكان المخيم أنفسهم، “عليهم التنسيق فيما بينهم في ظل الوضع الكارثي الذي يمر به المخيم، فبقاء المواطنين في منازلهم أمر مفضل”.
ووصفت الباحثة الفلسطينية آيه صوفان ما جرى في محافظة جنين وعلى المنصات الاجتماعية بأنه “حفلات فيسبوكية” ذكّرتها بأحداث النكبة، وتحديدا شهادة القيادي الفلسطيني أبو داوود (محمد داوود عودة) في حلقات “شاهد على العصر”.
وفي الحلقة، يحكي الشاهد قصة عودته إلى فلسطين وتحديدا مدينة القدس، فيما يروي أنه وفي رحلة عودته كان كل الفلسطينيين يغادرون بلداتهم ومدنهم خوفا ورعبا، لكن من دون أن يكون هناك أي مواجهة عسكرية تذكر.
وتقول: “لقد دخل أبو داوود فلسطين مشيا على الأقدام يوم خمسة حزيران سنة 1967، وفي اليوم التالي وصل بلدة العيزرية وتوجه للقدس بحثا عن أهله وابنه، لقد كان يمشي باتجاه القدس، فيما جموع الناس كانت تمشي باتجاه معاكس نحو الشرق من دون أن يكون هناك أي معركة، فقط مناوشات خفيفة في بعض المناطق”.
ويكمل: “لو كان هناك توعية أو مؤسسات حكومية أو شعبية تفهّم الناس أن عليهم أن يبقوا في منازلهم وما يكرروا غلطة 1948 ما كان صار اللي صار”.
وترى الباحثة صوفان أن المحزن أنه بعد 56 سنة من أحداث النكسة، وبوجود كل وسائل التواصل الحديثة، ما زلنا رهن الإشاعات بعيدا عن مؤسسات إعلامية صادقة تخدم القضية، كيف لفتاة تصور من نافذة منزلها مجموعة من المواطنين على أطراف المخيم، وتقول إن كل سكان المخيم خرجوا من منازلهم، لتتلقفها الصفحات الإخبارية، فأصبحنا أمام نكبة 2023 الجديدة.
وعلق الكاتب الفلسطيني عبّاد يحيى على مشهد خروج المواطنين من المخيم بطرح أسئلة: “كيف حدثت النكبة؟ كيف هُجر الفلسطينيون؟”.
وأضاف: “لقد أنفق الفلسطينيون أعمارا وهم يجيبون على هذا السؤال، بالتأريخ والبحث، بالسياسة والأدب، بالسينما والحكايات المنقولة من جيل لجيل وبالسجال وتوثيق الحق. بدا السؤال الكبير بحاجة لإجابات كبرى، ولكن اليوم، يكفي أن تنظر إلى مخيم جنين لتجد إجابة معجزة في اختصارها”.
وتابع: “قوات الاحتلال تخرج الناس من بيوتهم بالقوة، يتجمعون في المستشفى القريب، على مرمى حجر من بيوتهم، لا يحملون من متاعهم شيئا. تتخيل أن الجيش قد يأتي للمستشفى، ويدفعهم إلى مبعدة كيلومترات، ثم إن استمر واستمروا قد يصيرون في بلد آخر قبل طلوع الشمس، هكذا خرج فلاحون إلى تلة مقابلة لبيوتهم في 1948 ثم صارت التلة المقابلة أبعد مكان في الدنيا. التهجير سهل، ويمكن أن يحصل على الشاشة أمامك وأنت تتوهم أنه بعيد”.