ما هذا الدمار الذي أحدثه العدوان الإسرائيلي على غزة والذي يحتاج 80 عاما لإصلاحه؟ هذا ما أفاده تقرير الأمم المتحدة الأسبوع الماضي الذي قال أن إعادة بناء المنازل في قطاع غزة يمكن أن تستمر إلى القرن المقبل. وقال البيان أن نحو 80.000 منزل دمرت في العدوان الذي قامت به قوات العدو الإسرائيلي وأدى إلى استشهاد قرابة 35 ألفا من الفلسطينيين.
وأوضح التقييم، الذي أصدره برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، أن غزة في حاجة إلى «قرابة 80 عاما لاستعادة جميع الوحدات السكنية المدمرة بالكامل». ما حجم تلك الحمم التي ألقتها طائرات العدو على منازل الآمنين في غزة؟ وأي قلب أو ضمير يسمح لصاحبه بممارسة هذا الحجم من التدمير والتخريب؟ أليس هذا انعكاسا لتنشئة عسكرية عقيدتها مؤسسة على الدمار الشامل والإبادة؟ أغلب الطيارين الذين يمارسون الإبادة تموت ضمائرهم وتتلاشى إنسانيتهم فلا مكان للندم في حياتهم. ففي العام 2005 قال ثيودو فان كيرك، أحد أفراد طاقم الطائرة التي ألقت القنبلة على هيروشيما باليابان أنه ليس نادمًا على ما فعله: «لم أعتذر قط عما فعلته في هيروشيما، ولن أعتذر أبدًا». فكيف يمكن بناء عالم آمن إذا كانت العقيدة العسكرية لأفراد جيوشه الحديثة مؤسسة على الحقد والكراهية واسترخاص أرواح البشر؟ أليس هؤلاء مصدر تهديد لأمن الناس وحياتهم؟
هذه الحقائق تساهم في تفسير الظاهرة التي لم تحدث منذ عقود وتتمثل بما تشهده الجامعات الأمريكية من ثورة طلابية عارمة قد تتحول إلى عصيان مدني وصراع مع النظام الأمريكي الذي لم يتوقع ما حدث، وأنه سيقوم بدفع فواتير العدوان الإسرائيلي بسبب تحالفه معه. لقد اندفع الطلاب بغريزتهم الإنسانية للتظاهر والاحتجاج في أغلب الجامعات الأمريكية الأمر الذي لم يحدث منذ أكثر من 50 عاما أي منذ حرب فيتنام وما صاحبها من عصيان مدني حاصر السلطات الحاكمة في واشنطن. هذه المرة تجد إدارة الرئيس بايدن نفسها مطالبة بدفع فواتير باهظة ناجمة عن العدوان الذي تشنه قوات الاحتلال الإسرائيلية على السكان الأصليين في غزة. هذه الاحتجاجات أحدثت ضغوطا شديدة دفعت إدارة بايدن للضغط على نتنياهو للقبول بالتفاوض مع الفلسطينيين وفي مقدمتهم حركة حماس التي كان تدميرها كاملا هدف العدوان المستمر منذ أكثر من ستة شهور. إنها عزيمة لم تعهدها إسرائيل في أية مواجهة مع المقاومة الفلسطينية منذ ثلاثة أرباع القرن. فعدوانها على لبنان في العام 2006 جاء بنتائج عكسية كانت فريدة من نوعها حيث حدث توازن الرعب مع المجموعات اللبنانية المقاومة خصوصا حزب الله. ومنذ ذلك الوقت سعت الحكومات الإسرائيلية لتفادي الدخول في حرب غير مضمونة النتائج. وكان من نتائج تلك المغامرات انكشاف ثغرات خطيرة في البنية العسكرية الإسرائيلية.
منذ اندلاع الأزمة الحالية ارتكبت القوات الإسرائيلية أخطاء كبرى ساهمت في عزلة غير مسبوقة لكيان الاحتلال. وكان من أهم هذه الأخطاء استخدام القوة المفرطة في الاعتداءات على الأهداف الفلسطينية سواء البشرية أو المادية. حدث ذلك أمام عدسات المصوّرين ولم يحدث في الخفاء. وكان مشهد الطائرات الإسرائيلية وهي تستهدف الأبراج السكنية في غزة مقززا ومثيرا للمشاعر الإنسانية. كما أن الأنباء عن قتل آلاف الأطفال والنساء وأن الكثيرين منهم ما يزالون تحت الأنقاض كل ذلك أدى إلى ردود فعل سلبية ضد إسرائيل. وكان ظهور مسؤولي الاحتلال خصوصا بنيامين نتنياهو في حالة من الغطرسة واستعراض القوة العسكرية من أسباب تقزز العالم من تلك الأساليب ومن الاحتلال الإسرائيلي. لذلك كان التعاطف مع أهل غزة واسعا. ولعل أخطر ما في الأمر وصول هذا التعاطف إلى الجامعات من شرق أمريكا إلى غربها.
إن المغامرة الإسرائيلية الأخيرة كانت الأكثر خسارة والأشد وقعا على نفسيات القادة الإسرائيليين والأشد إثارة لمشاعر البشر الذين صدمتهم مشاهد التدمير والقتل الناجمة عن العدوان الإسرائيلي
فخرجت التظاهرات والاحتجاجات بكثافة غير مسبوقة خلال القرن الأخير. وقد وصلت الاحتجاجات إلى الجامعات البريطانية والفرنسية والألمانية. وللمرة الأولى منذ عقود فقدت إسرائيل تعاطف الرأي العام الغربي، هذه الخسارة الكبرى ستكون لها تداعياتها وانعكاساتها على السياسات الغربية اتجاه كيان الاحتلال.
وبرغم إصرار مسؤولي البيت الأبيض باستمرار على دعم «إسرائيل» فقد وجد بايدن نفسه مضطرا لإحداث تغييرات في تلك السياسة وتقليص الظهور العلني الداعم لتل أبيب. وليس مستبعدا كذلك منع قوات الاحتلال من شن عدوانها المزمع على رفح وأطرافها. فلو حدث ذلك العدوان لأصبح أكثر من مليون فلسطيني أنفسهم بدون مأوى، لينضمّوا إلى ملايين اللاجئين الفلسطينيين الذين فقدوا وطنهم منذ العام 1948. وهكذا انقلب السحر على الساحر. وأصبح ما يعتبره الاحتلال نقطة قوة في استراتيجيته العسكرية سببا للضغط على السياسة الأمريكية ودفع البيت الأبيض لممارسة ضغوط على الحكومة الإسرائيلية لعدم اجتياح منطقة رفح. وفي الأسبوع الماضي وقّع 57 من الديمقراطيين البالغ عددهم 212 في مجلس النواب رسالة تدعو الإدارة إلى اتخاذ كل إجراء ممكن لثني حكومة بنيامين نتنياهو عن شن عدوان شامل على المدينة القريبة من الحدود المصرية. والأصعب من ذلك أن تجد حكومة تل أبيب نفسها مجبرة على التفاوض مع المنظمة التي استهدفها العدوان الإسرائيلي علنا بشكل مباشر. فحماس التي كان اجتثاثها والقضاء عليها هدفا معلنا قبل العدوان أصبحت طرفا في المفاوضات التي ترعاها مصر وتدعمها أمريكا. أليس هذا خسارة استراتيجية تكبّدتها إسرائيل؟
برغم استهداف مسؤولي حماس وزعمائها وقتل العديد منهم تارة بصواريخ وأخرى بالمسيّرات وثالثة بالاغتيال السياسي فما تزال الطرف الفلسطيني الأقوى في المفاوضات مع كيان الاحتلال.
ومن المؤكد أن هذه القضية ستكون في صلب الانتقادات التي ستوجه للحكومة الإسرائيلية من قبل معارضيها. فقد تحوّلت «إسرائيل» إلى قوة عادية غير قادرة على استئصال معارضيها، بعكس الصورة التي حرصت على بثها في العالم. وبشكل تدريجي تعود صورة «إسرائيل» المحتلة والضعيفة وغير الإنسانية إلى الواجهة، بينما يرتفع شأن المقاومة الفلسطينية وتقوى هيبتها. وبموازاة ذلك تتحرك المشاعر الإنسانية لدى حكومات عديدة لتدفعها للقطيعة مع «إسرائيل» التي ضعفت هيبتها في عيون الكثيرين. فها هي كولومبيا تقطع العلاقات الدبلوماسية مع «إسرائيل» بسبب أفعالها في غزة. وانتقد الرئيس الكولومبي غوستافو بيترو رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بشدة وطلب الانضمام إلى دعوى جنوب أفريقيا لدى محكمة العدل الدولية التي تُتهم فيها إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية. وكانت البرازيل قد دعمت هي الأخرى تلك الدعوى. وقطعت بوليفيا علاقاتها مع إسرائيل في نهاية أكتوبر/ تشرين الأول من العام الماضي، بينما استدعت عدة دول أخرى في أمريكا اللاتينية ومنها تشيلي وهندوراس، سفراءها. ولا يُستبعد إقدام حكومات أخرى على خطوات مماثلة. يحدث ذلك برغم غياب استراتيجية عربية تهدف لمحاصرة الاحتلال وحرمانه من الاعتراف الدولي. كما يحدث ذلك في أجواء ملبّدة بالتوترات السياسية بين الشرق والغرب ضمن سياقات تقترب من أجواء الحرب الباردة. فما الذي استفادته حكومة نتنياهو من عدوانها؟ كانت تريد تلقين الفلسطينيين درسا لن ينسوه، فإذا بها مجبرة على تلقي صفعات غير مسبوقة نتيجة سوء التخطيط من جهة، والنوايا السيئة ثانية، والغطرسة والاستكبار من جهة ثالثة.
يمكن القول إن المغامرة الإسرائيلية الأخيرة كانت الأكثر خسارة والأشد وقعا على نفسيات القادة الإسرائيليين والأشد إثارة لمشاعر البشر الذين صدمتهم مشاهد التدمير والقتل الناجمة عن العدوان الإسرائيلي. في هذه الأجواء يصعب استشراف المستقبل القريب، وما ستؤول الأمور إليه على الصعدان السياسية والأمنية والعسكرية. وربما الأرجح تصاعد التوتر في المنطقة وحدوث تغيرات في التحالفات الإقليمية بسبب تصاعد العنف الإسرائيلي والتوجه للمزيد من الجرائم ضد السكان الأصليين. ويمكن اعتبار القرار التركي بتجميد العلاقات التجارية مع «إسرائيل» بداية لعملية تصحيحية تفرض المزيد من الحصار على الاحتلال وتدعم قوات المقاومة، لتفضي في نهاية المطاف إلى إقامة دولة فلسطينية مستقلة وكاملة الصلاحيات. وقد شعرت أنقرة بعدم جدوى استمرار علاقاتها مع تل أبيب وسط حمامات الدم التي تجري في غزة بشكل خاص، والصلف الإسرائيلي المقزز. والأمل أن تجد الخطوة التركية أصداء لها في عواصم البلدان العربية الكبرى.
كاتب بحريني