راقب العالم عن كثب الأحداث الجارية والمتسارعة في روسيا، والمتعلقة بعملية “تمرد” مجموعة فاغنر، ضد قرارات الجيش الروسي المناوئة لتوجهات قائدها بريغوجين في أوكرانيا، ومع أنّ الأوضاع الجارية تنبئ بتصاعد وتيرة الصدام بين الدولة الروسية ومرتزقة فاغنر، سارعت قنوات غربية لوصف ما يحدث “بالثورة البريغوجينية” ضد النخبة السياسية للكرملين، هذا الوصف وإن بدا في بداياته يوحي باستشراف لبعض الدوائر الاستخباراتية التي عارضت العملية العسكرية الروسية/الأوكرانية، والتي ترى في عملية التمرد نتيجة حتمية لفشل الأداء السياسي للنخبة الحاكمة، ومآلا مرعبا لتفكك الاتحاد الروسي، إلا أنّه يطرح تساؤلات عديدة عن الدوافع الرئيسية التي تجعل الميليشيات المسلحة طرفا فاعلا في صراع مع الدولة، كما أنّ جريمة الخيانة التي يمكن أن تلحق المجموعات المتمردة، سرعان ما تتداعى أمام “الاتفاقات الاستثنائية” التي تفرضها الأوليغارشيا.
الانسحاب نحو العاصمة
تبدو عملية التمرد التي قادتها مجموعة فاغنر ضد رئيس الأركان الروسي، دوافعها مرتبطة بمدى الخيبة التي لحقت بها بعد قصف قوات فاغنر من طرف الجيش الروسي، ومع أنّ الأخير نفى قصفه لقوات بريغوجين المتمركزة في أوكرانيا، إلا أنّ مرتزقة فاغنر سرعان ما توجهت نحو الأراضي الروسية في مسيرة العدالة، فخطاب قيادة فاغنر تجاوز تهديد المؤسسة العسكرية الروسية، ليطال الدعوة إلى التمرد والتوجه نحو العاصمة موسكو.
في الوقت الذي كانت روسيا تدرس خياراتها في التعامل مع “تحرّك فاغنر”، كان الغرب ينظر إلى جنون بريغوجين على أنّه الفرصة المواتية للقيادة الأوكرانية للتصعيد في جبهات القتال ضد روسيا، ووفقا للاستخبارات البريطانية التي كانت تأمل في تمرّد الحرس الوطني الروسي، فإنّ السّاعات التي تلت تحرك مرتزقة فاغنر كانت تحدد مصير وحدة الدولة الروسية.
هذا المشهد المتخيّل من طرف الحلفاء الغربيين على تفكك الاتحاد الروسي إلى جمهوريات ضعيفة، لم يكن يحمل المؤشرات الكافية لوقوع “ثورة شعبية” مماثلة كتلك التي خرج فيها الفلاحون والعمال والجيش الأحمر للإطاحة بالقيصر في السّاحة الحمراء، فما أوردته مجموعة فاغنر من تحد جنوني للدولة الروسية، ساقه الرئيس بوتين في خطابه إلى ثلاثة أمور مهمة، وهي الخيانة، والحرب الأهلية، والعدو الداخلي.
أحالت عملية تحرك مرتزقة فاغنر للإطاحة بقيادة الجيش الروسي إلى تساؤلات كثيرة من أهمها، مدى تواطؤ بعض القيادات في التحريض على تحرك بريغوجين نحو موسكو، وحجم الدعم الذي يتلقاه من النخبة المعارضة لقرارات القيادة السياسية/العسكرية، غير أنّ “مسيرة العدالة” نحو العاصمة البيضاء لم تلق اعتراضا من قوات الجيش الروسي، تفاديا لوقوع صدامات دامية بين رفقاء السلاح، ولربما استراتيجية التحرك للانسحاب السريع لفاغنر نحو العاصمة لدفع الرئاسة الروسية لتنظيف البيت الروسي من العدو الداخلي المتمثل في النخبة السياسية/العسكرية المناهضة لاستمرارية الحرب، ذلك الصراع بين “الدببة الروسية” مع أهميته في استعادة الوضع الأمني للاتحاد، فتح التكهنات حول إمكانية الميليشيات غير النظامية في تغيير المعادلات الأمنية والسياسية، وقدرتها الحاسمة لإسقاط الدولة في دوامة الحرب الأهلية.
إنّ مشكلة روسيا والسودان وغيرهما من الدول التي مازالت تراهن على “القوات غير النظامية” لتحقيق استقرار أمني، سرعان ما تتآكلها صراعات السيطرة على الحكم، في سبيل تحقيق مكاسب ذاتية أكثر مما جسدته طموحات مرتزقة فاغنر وميليشيا الدعم السريع، وعلى ذلك سار الغرب في تخليق قنوات أمن خاصة لضمان تدخلاته الاستعمارية تحت “رايات بيضاء” تحمل عنوانين محاربة الإرهاب وحماية حقوق الإنسان في أفريقيا وأفغانستان، كما أنّ الأجهزة الاستخباراتية المرتبطة بتحريك العناصر الإرهابية في سوريا وأفريقيا الوسطى، سرعان ما يتم التعامل معها على أسس مؤسساتية عابرة للقارات كمصنع لافراج الفرنسي، فالغرب وإن لم تنجح استراتيجية الاستعانة بالميليشيات والمجموعات الإرهابية للإطاحة بخصومه في حدائقه الجنوبية، فإنّه يسارع جاهدا بإرسال طائراته لإسقاط أعتى الأنظمة المناوئة لنزعته الإمبريالية، كما حدث في العراق وليبيا حينما تجيّش حلف الناتو ليكون ميليشيا في سجل الإمبريالية الغربية.
على هامش التمرد
من الجانب الآخر تقود الصهيونية في المنطقة عملية تخليق عنف اجتماعي متكامل، ضمن تشكيلة نموذج فاعل للميليشيات الاستيطانية المنضوية تحت لواء ما يروّج على أنه دولة ديمقراطية، غير أن السرديات التاريخية للتهجير القسري وإبادة الشعب الفلسطيني من طرف العصابات الصهيونية، يمثل طبيعة التكوين السياسي/العسكري لما يزعم بجيش الدفاع الإسرائيلي، والمستنسخ من مرتزقة عصابات الأرغون والهاغانا والشتيرن وغيرها ممن دعمتهم بريطانيا الاستعمارية للحيلولة دون قيام دولة فلسطين، تلك الممارسات الكولونيالية من الآلة الاستعمارية الغربية لم تتوقف عند الاعتراف بإسرائيل، بل تعداه لدعم الممارسات الاستيطانية والإرهابية داخل المؤسسات الأممية، ولعل المخاوف من استمرارية الأنشطة العدوانية للميليشيات الصهيونية في الضفة الغربية وصمت العالم الغربي عن التجاوزات المروعة لإسرائيل، ينبئ بالواقع الذي تقره المؤسساتية الغربية في إقرار القتل خارج الإطار القانوني والإنساني، بل إنها جاهزة لدعم أيّ ميليشيا من شأنها أن تحفظ مصالح الإمبريالية.
إنّ معضلة التمرد كونها انعتاقا من القهر والخوف، لا تلقى رواجا لدى الغرب حينما يتعلق الوضع بحلفائه أعداء الديمقراطية الحميمين، فالأوروبيون ليسوا جاهزين للتمرد ضد إملاءات الولايات المتحدة الأمريكية، وتفعيل آليات التواصل والسّلام مع الآخر، وبدل تخصيص فضاء يمنع وقوع صدامات مباشرة مع الدب الروسي، تتكاثف جهود المجموعة الأوروبية بفرض عقوبات اقتصادية وسرقة الأصول المالية للدول، وعدم إقرار بتجاوزاتها العدوانية نتيجة سياسته الاستعمارية.
لا يؤمن الغرب في الدولة الوطنية ذات الحدود السيادية، حتى وإن كانت تلك الدولة تحمل تطلعات ديمقراطية وحضارية، فإن الغرب يسعى جاهدا للقضاء على التجارب الديمقراطية الناشئة بدعمه لميليشيات المعارضة، وقد كانت تجارب فرنسا في اليمن وافريقيا تمثل النموذج الأبرز على الخلل البنيوي في تركيبة الغرب القائمة على النهب والسطو والاستغلال، وأمام احتمال زيادة حركات التمرد في العالم الرافض لأنواع الاستغلال النيوكولونيالي، ليس بوسع الغرب أن يقف على الهامش ينظر التهديدات المتزايدة ضد مصالحه، فالحفاظ على تدفقات النفط وحركة الملاحة واستقرار التفوق الاجتماعي الأوروبي والهجرة غير النظامية، لا تحتاج إلى الفلاحين والمهمشين والعمال الذين بإمكانهم القيام بثورة ضد الديكتاتورية، بل إنّ المقامرين والمجرمين والمغامرين هم من سيمنحهم الغرب أدوات السيطرة والنهب والقتل، في صورة تمرد ميليشيات مناوئة للطموح الشعبي، وقد جرى ذلك على الانتفاضات العربية حينما دعم الغرب الميليشيات العابرة للثورة، للقضاء على أيّ دعوة تحررية، من شأنها أن تعيد للمهمّش والفقير حقوقه المستلبة من طرف الاستعمار الجديد، فالتمرد ما هو إلا انعتاق مما هو سائد وثابت، في سبيل تحقيق حركية تاريخية وحضارية لأمـة ما.
كاتب من الجزائر