العراق: إدارة الدولة وقتل الملل!

لم يجد المؤرخ العراقي الراحل عبد الرزاق الحسني، وهو يكتب تاريخ الوزرارات العراقية، سببا واضحا لاستقالة إحدى الحكومات في العهد الملكي، وإعادة تكليف رئيس الحكومة المستقيل نفسه، بتشكيل حكومة جديدة. فكتب أن السبب في ذلك قد يكون الرغبة في حكومة جديدة ليس أكثر، لأن لكل جديد لذة! لنكتشف بعد عقود أن ما قاله الحسني لم يكن «بدعة» في إداة الدولة العراقية، حين أخبرنا الناطق الرسمي باسم رئيس مجلس الوزراء العراقي بأن التعيينات الجديدة التي طالت مواقع رئيسية في الدولة إنما جاءت طبقا لمبادئ «الإدارة الناجحة» التي تحتاج إلى تغيير بين فترة وأخرى «لقتل الملل» وليخبرنا أيضا بأن ذلك «صلاحية حصرية» لرئيس مجلس الوزراء!
يقرر الدستور العراقي في المادة 61 أن الدرجات الخاصة، وهو التوصيف المستخدم لتوصيف المناصب العليا في الدولة، إنما يتم اقتراحها من مجلس الوزراء، وتشترط موافقة مجلس النواب عليها! وقد أكدت المادة 80/ خامسا على ذلك، حين نصت على أن صلاحية مجلس الوزراء تتضمن «التوصية إلى مجلس النواب» بتعيين الدرجات الخاصة! بل إن القوانين الخاصة المتعلقة ببعض التعيينات التي تم إصدارها، تشير صراحة إلى أنه ليس من صلاحية رئيس مجلس الوزراء التدخل في تعيين هذه المناصب من الأصل! على سبيل المثال لا الحصر قرر قانون هيئة النزاهة رقم 30 لسنة 2011 المعدل ان رئيس الهيئة إنما يتم «اقتراحه» من مجلس الوزراء، ويوافق عليه مجلس النواب (المادة 4). وبالتالي لا اعرف ما الذي استند اليه الناطق الرسمي في إشارته المرسلة، إلى أن التعيينات التي صدرت تعد «صلاحية حصرية» كما سماها، لرئيس مجلس الوزراء، خاصة وانه يعلم تماما انها جميعا تعيينات بالوكالة وليست أصيلة.
كان التعيين بالوكالة «بدعة» ابتدعها رئيس مجلس الوزراء الأسبق نوري المالكي، ولجأ اليها رؤساء مجالس الوزراء اللاحقين، وكان هدفها الأساسي: احتكار القرار السياسي، بعيدا عن السياقات الدستورية والقانونية التي لا تعطي صلاحية تعيين المناصب العليا في الدولة لرئيس مجلس الوزراء من الأصل، بل تعطيها لمجلس الوزراء مجتمعا. والسبب الثاني تحييد صلاحية مجلس النواب الدستورية في الموافقة على التعيين في هذه المناصب عبر التصويت. وقد أنتجت هذه البدعة، دولة تدار بالوكالة بشكل يكاد يكون كاملا على مدى السنوات الأربع عشرة الماضية! وهو ما ساهم بشكل جوهري في إنتاج دولة موازية، ذات طبيعة زبائنية، تديمها الصفقات وعلاقات القوة، مع كل ما ترتب على ذلك من فساد بنيوي وسوء إدارة حكما مفاصل الدولة جميعها.

فشل مجلس النواب فشلا ذريعا في الدفاع عن صلاحياته المقررة دستوريا، وذلك لأن الفاعلين الرئيسيين فيه، قوى أو أفرادا، كانوا متواطئين ضمنيا مع قرار إدارة الدولة بالوكالة

وقد فشل مجلس النواب فشلا ذريعا في الدفاع عن صلاحياته المقررة دستوريا، وذلك لأن الفاعلين الرئيسيين فيه، قوى أو أفرادا، كانوا متواطئين ضمنيا مع قرار إدارة الدولة بالوكالة، لأسباب ذات طبيعة طائفية بالأساس (لضمان احتكار الفاعل السياسي الأقوى للقرار والدولة معا) من جهة، ولأنهم كانوا يحصلون على «حصتهم» من هذه التعيينات من جهة ثانية! وكانت الاعتراضات الخطابية التي نسمعها بين حين وآخر، مجرد آلية للابتزاز وللمفاوضات العلنية حول الحصص ليس أكثر!
بعد انتخابات العام 2018، وبسبب علاقات القوة الجديدة التي نتجت عن فوز سائرون والفتح، ثم تحالفهما لاحقا لتشكيل الحكومة التي أطاحت بسيطرة حزب الدعوة على منصب رئيس مجلس الوزراء والتي استمرت من 2005 حتى 2018، كان ثمة توجه معلن للإطاحة بسيطرة حزب الدعوة على دولة الوكالة، أو على الصفقات التي عقدها هذا الحزب عبر دولة الوكالة هذه! لهذا تم تضمين قانون الموازنة الاتحادية لعام 2019 مادة صريحة (المادة 58) تقرر: «تلتزم الحكومة بانهاء إدارة مؤسسات الدولة بالوكالة ما عدا الاجهزة الأمنية والعسكرية في موعد أقصاه 30 حزيران/ يونيو 2019، ويعد كل أداء بعد هذا التاريخ يقوم به المعين بالوكالة باطلا ولا يترتب عليه أي أثر قانوني». لكن وبسبب تحول مواد الدستور والقانون في العراق إلى صفقات سياسية، ولان الالتزام بهما من عدمه يخضعان لمصالح الفاعلين السياسيين حصرا، فقد تجاهل الجميع هذه المادة القانونية، بعد أن ضمن الفاعلون السياسيون مصالحهم في وزارة رئيس مجلس الوزراء السابق عادل عبد المهدي، ولم يجدوا من المناسب التضحية بهذه المصالح من أجل شيء لا قيمة له مثل «القانون»!
مع وزارة السيد مصطفى الكاظمي، التي جاءت بها القوى السياسية الشيعية لتثبيت هدنة على الأرض في سياق الصراع الأمريكي ـ الإيراني من جهة، وفي سياق مناورة حركة الاحتجاج من جهة ثانية، كانت التوقعات المحافظة في تفاؤلها تعتقد أن مجيء رئيس مجلس وزراء ليبرالي غير منتم بشكل عضوي إلى القوى والأحزاب الشيعية التي احتكرت المشهد السياسي الشيعي، قد يتيح العودة إلى منطق الدولة، ولو بحده الادنى، وعلى رأس الحد الادنى هذا، هو الالتزام بالسياقات الدستورية والقانونية المتعلقة بالتعيينات في مناصب الدولة العليا/ الدرجات الخاصة والتي أُطيح بها بشكل منهجي. لكن متابعة التعيينات، وعلى مدى الأشهر الثلاثة الماضية، كشفت شيئا مختلفا تماما! وعلى رغم قناعتنا الكاملة بأن علاقات القوة، وذهنية الاستثمار في المنصب (ريع المنصب)، ما زالا قادرين على فرض منطقهما، إلا ان الجو العام كان يوحي بأن السيد الكاظمي سيتمكن أن يفرض على القوى السياسية، معايير محددة وملزمة لطبيعة المرشحين من جهة، والأهم أن يفرض عليهم عدم تدوير الوجوه التي أثبتت فشلها وكانت شريكا في انتاج الخراب الذي وصل اليه العراق، على الأقل من أجل إقناع الشارع المحتقن بأن ثمة تغييرا حقيقيا يجري، ولو على مستوى الشكل لا المحتوى! ولكن لا شيء من هذا قد تحقق؛ فالغالبية العظمى من التعيينات التي أُعلن عنها، التزمت بشكل كامل بالطبيعة الزبائنية التي حكمت تعيينات المناصب العليا/ الدرجات الخاصة على مدى السنوات الأربع عشرة الماضية، ولم تكن شعارات الكفاءة والنزاهة سوى تكرار «ممل» لكلمات فقدت معناها لكثرة استخدامها الاعتباطي!

كاتب عراقي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    أنا متفائل بحكومة الكاظمي لغاية الآن!
    هل ستصاب هذه الحكومة بالملل؟ الله أعلم!! ولا حول ولا قوة الا بالله

  2. يقول حسين الجبوري:

    على أساس ان مجلس النواب لا يعين الوزراء والمسؤولين دون صفقات مالية ضخمة ولكل وزارة مزادها ..غريبة من الكبيسي ..فالجميع يريدون ” المالات ” كما يقول العراقيون ، ومجلس النواب افسد مؤسسة ، ولا يهمهم العراق قيد أنملة ..هو نظام فاشل ومن شارك فيه منذ 2003 هم مرتشون ونهبوا الدولة .

إشترك في قائمتنا البريدية