العراق: استخدام القانون والسياق السياسي!

تذكر الادعاء العام في العراق أن هناك مهاما كثيرة ملقاة عليه قد نسيها في أثناء «حياده الطويل» ومن بينها «الحق العام» وأنه لابد من العمل عليها، قبل العودة ثانية إلى سباته المزمن!
منح قانون عام 1979 الادعاء العام حق «إقامة الدعوى بالحق العام، ما لم يتطلب تحريكها شكوى أو إذن من مرجع خاص» وتوسعت هذه السلطة لاحقا عبر قانون الادعاء العام عام 2017، الذي منحه حق «إقامة الدعوى بالحق العام وقضايا الفساد المالي والإداري ومتابعتهما» لكن الادعاء العام في العراق لم يحرك ساكنا إزاء الدعوات الكثيرة التي كانت تطالبه بذلك. ومراجعة القضايا القليلة التي قام فيها الادعاء العام بتحريك الشكوى بالحق العام، تكشف عن ندرة القضايا التي حركها، وعن غلبة البعد السياسي في تحريكها وليس البعد القانوني!
في شباط/ فبراير 2015، اغتالت الميليشيات شيخ عشيرة الجنابيين بعد أن قامت بخطفه رفقة ابن أخيه الذي كان عضوا في مجلس النواب، واستطاعت هذه الميليشيات عبور عشرات نقاط التفتيش، وفي أثناء الجنازة، هدد أحد المشيعين بالانتقام، تحرك الادعاء العام حينها إثر هذا التهديد، لكن هذا «الادعاء العام» العراقي نفسه لم يتحرك قبل ذلك أو بعد ذلك ضد أشخاص ظهروا في فيديوهات موثقة وهم يقومون بعمليات قتل خارج إطار القانون، وعلى رأسهم القاتل المعروف باسم «أبو درع» الذي كان ولايزال يفاخر بجرائمه!
وقبل أيام ألقي القبض على صانعي محتوى على وسائل التواصل الاجتماعي، ومن خلال متابعة وقائع قضية أحد هؤلاء، وجدنا أن هناك كتابا صادرا بتاريخ 25 كانون الثاني/ يناير 2023 عن لجنة اسمها «لجنة متابعة المحتوى السيئ» تابعة لوزارة الداخلية وُجّه إلى قاضي تحقيق محكمة الكرخ الثالثة المختص بقضايا النشر والإعلام، يتحدث عن لقاء تلفزيوني لإحدى صانعات المحتوى «ومن خلال اللقاء أشارت باستهزاء إلى مواضيع ترتبط ارتباط وثيق [كذا] بوقت المواطن وتجاوزت الأعراف والقوانين في آداب الحديث الإعلامي» دون الإشارة إلى هذه الأعراف أو القوانين التي «تجاوزتها»! ويتحدث عن «مقاطع فيديو تتضمن رقصا بإيحاءات جنسية فاضحة ومخلة بالآداب العامة»!
في 7 شباط/ فبراير أصدرت محكمة جنح الكرخ قرارا حكمت بموجبه على صانعة المحتوى نفسها بالحبس البسيط لمدة ستة أشهر استنادا لأحكام المادة 403 من قانون العقوبات عن جريمة «صناعة ونشر عدة أفلام وفيديوهات تتضمن أقوال [كذا] فاحشة ومخلة بالحياء والآداب العامة وتم إعلانها وعرضها على أنظار الجمهور».
إن مراجعة وثيقة قرار الحكم تكشف أولا أن المشتكي في هذه القضية هو «الحق العام»! والسؤال هنا لماذا «حشر» الادعاء العام نفسه في هذه القضية رغم أن «الشكوى» حركتها وزارة الداخلية؟ ولا يمكن حل هذا اللغز إلى إذا عرفنا أنه ليس من حق وزارة الداخلية تحريك دعاوى الحق العام، بالتالي كان لا بد من اللجوء إلى الادعاء العام من أجل ذلك!

الحاجة إلى «شو إعلامي» للتغطية على الطريقة التي أُديرت بها فضيحة سرقة القرن، هي وحدها التي تقف وراء هذه الحملة الأخيرة، وأن هذه الحملة ستقف عند هذا الحد من الشو الإعلامي، ولن يكون هؤلاء الذين حكم عليهم سوى أكباش فداء

ثانيا أن المادة التي استنِد إليها في الحكم تنص على عقوبة الحبس أو الغرامة على «من صنع أو استورد أو صدر أو حاز أو أحرز أو نقل بقصد الاستغلال أو التوزيع كتابا أو مطبوعات او كتابات أخرى أو رسوما أو صورا او أفلاما أو رموزا أو غير ذلك من الأشياء إذا كانت مخلة بالحياء او الآداب العامة. ويعاقب بالعقوبة ذاتها كل من أعلن عن شيء من ذلك أو عرضه على أنظار الجمهور»! والسؤال هنا هل تنطبق هذه المادة على محتوى وسائل التواصل الاجتماعي؟
إن قراءة نص المادة القانونية التي اعتمدت هنا، تعني أن بالإمكان الحكم على أي عراقي «حاز أو أحرز» في مكتبته على ديوان «إيروتيكا» للشاعر الكبير سعدي يوسف، والذي يتضمن رسوما «إيروتيكية» للفنان العراقي جبر علوان، بوصفه «كتابا» يضم «رسوما» مخلة بالحياء والآداب العامة!
وبالإمكان الحكم على أي عراقي «حاز أو أحرز» في مكتبته كتاب «رسائل الجاحظ» بتحقيق الشيخ عبد السلام هارون، لأنه يتضمن «نكتا» جنسية مخلة بالحياء والآداب العامة!
وبالإمكان الحكم على أي عراقي «صانع محتوى» معني بالتراث يتحدث فيه عن كتب «نواظر الأيك» و «شقائق الأترج في رقائق الغنج» و «الوشاح في فوائد النكاح» للإمام جلال الدين السيوطي صاحب تفسير القرآن الشهير، لأنها مخلة بالحياء والآداب العامة!
في مقال سابق بعنوان «قوانين شمولية تفضح خرافة الديمقراطية» تحدثنا عن بقاء القوانين التي شُرّعت تحت أنظمة شمولية مستمرة النفاد في عراق ما بعد الـ2003، وأنه لم يسع أحد إلى تعديل هذه القوانين، أو إلغائها، على اعتبار انها لم تعد صالحة للعمل في سياق نظام ديمقراطي مفترض! وبهذا نجحت منظومة الحكم في العراق من تفريغ محتوى النصوص الدستورية التي تتحدث عن كفالة «حرية التعبير» وأنه يعد باطلا «كل نص قانوني يتعارض معه» وأنه يجب أن لا يمس التحديد والتقييد القانوني «جوهر الحق أو الحرية» ليس من خلال القوانين النافذة التي تتنقض جوهريا مع النص الدستوري، بل من خلال التأويل المفرط للمواد القانونية النافذة أيضا لمزيد من مصادرة حرية التعبير!
والسؤال الجوهري هنا، لماذا لم تتحرك وزارة الداخلية، او المدعي العام، لتطبيق القانون طوال السنوات الماضية، وتركوا ظاهرة المحتوى غير اللائق تتحول إلى ظاهرة حقيقية، إذا كانوا يعتقدون فعلا أنهم «مكلفون» قانونيا بهذا الواجب؟ ما داموا لا يريدون الاعتراف أن ثمة فراغا قانونيا في التعامل مع محتوى وسائل التواصل الاجتماعي في العراق!
بالعودة إلى أصل الحكاية، سنجد أن فضيحة «صانعي المحتوى» التي تفجرت أثناء بطولة الخليج العربي التي استقبلتها البصرة الشهر الماضي، أن الحاجة إلى «شو إعلامي» للتغطية على الطريقة التي أُديرت بها فضيحة سرقة القرن، هي وحدها التي تقف وراء هذه الحملة الأخيرة، وأن هذه الحملة ستقف عند هذا الحد من الشو الإعلامي، ولن يكون هؤلاء الذين حكم عليهم سوى أكباش فداء، لأن كثيرا من «صانعات» هذا المحتوى يتمتعن بالحصانة نفسها التي يتمتع بها غاسلو الأموال ومهربوها والمستثمرون في المال العام!

كاتب عراقي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول متابع:

    العزف على وتر منفرد

إشترك في قائمتنا البريدية