العراق: التبادل السلمي للسلطة ومخاطر تزوير الانتخابات

حجم الخط
1

في 30 نيسان (أبريل) 2014 سيذهب العراقيون إلى مراكز الانتخابات النيابية للمرة الثالثة، وقد سبق ذلك ثلاث دورات انتخابية لمجالس المحافظات، فهل هذا يعني إن عجلة الديمقراطية دارت أخيراً في أرض الرافدين؟ وهل بدأ العراقيون بتحقيق العدالة باعتبارها المضمون الاجتماعي للديمقراطية؟ أي هل انعكس ذلك ايجابياً على الاقتصاد ومستوى معيشة المواطنين؟
المؤشرات الواقعية مع الأسف تشير إلى عكس ذلك، فمعدلات البطالة ترتفع في كل عام وتزداد معها معدلات الفقر ناهيك عن الانفلات الأمني الذي يؤدي بحياة مئات العراقيين شهرياً، رغم كل هذا سيذهب العراقيون لمراكز الأقتراع لأنهم لا يملكون خياراً آخر. إذا كانت العدالة في الدولة المعاصرة تعتمد على سلطة القانون والنظام الديمقراطي، فإن الأسس الأربعة التي تعطي للدولة الديمقراطية هويتها وشرعيتها، هي: الحريات الفردية، الحريات العامة، استقلال القضاء، ثم التبادل السلمي للسلطة. إن النقطة الأخيرة تعتمد على نزاهة الانتخابات، فعلى النزاهة والشفافية تعتمد عملية اختيار الشعب لحكامه باعتبار ذلك الخطوة الأساسية للمشروع الديمقراطي.
وهذا يعني إن من يعمد إلى تزوير الانتخابات إنما يتلاعب بمستقبل الديمقراطية، أي يريد إعادتنا إلى سنوات الظلم والحرمان لأنه يقوّض الديمقراطية من داخلها. إن تزوير الانتخابات، رغم حساسيته، تبدو عواقبه غير واضحة لدى البعض مُتصوّراً إن الضرر هو مجرد فوز قائمة معينة بعدد من المقاعد التي لا تستحقها ولسنوات معدودة.
وإذا كانت هذه النتيجة بحد ذاتها تعتبر مخالفة صريحة للقانون، لكنها ستبدو صغيرةً إذا ما عرفنا الأضرار الجسيمة الأخرى المترتبة عليها، أي تلك الاضرار التي ستلحق بمبدأ التبادل السلمي للسلطة جراء أي تزوير يحدث. ومن هذه الأضرار :
إن قيام أية جهة بمحاولة تزوير الانتخابات، سيدفع أو (يبرر) للأطراف الأخرى القيام بنفس العمل المشين، أي أن ظاهرة التزوير ستتسع بالعدوى لتتكرر في الدورات القادمة: فما دام الآخرون قد زوّروا فلماذا لا نزوّر نحن؟ وقد سبقتها: ما دام الآخرون ينهبون المال العام فلماذا لا ننهب نحن؟ هذا ما حدث في الواقع خلال انتخابات الثمان سنوات الماضية، الأمر الذي خلق حالة من عدم الثقة بالعملية الديمقراطية برمتها. ما أدى إلى نوع من السلوك السلبي والشعور بالخيبة لدى الرأي العام. خيبة بالأحزاب والجهات المسؤولة وصناديق الأقتراع التي تُعتبر عنوان التحضّر وسر تقدم الدول في العالم المعاصر.
وهنا لا بد من الإشارة إلى المال السياسي وعمليات شراء الذمم، وخصوصاً شراء ذمم شيوخ العشائر الذين أصبحت لهم مخصصات منتظمة من قبل كبار المسؤولين، فهم مع أبناء عشائرهم يشكلون كتلة انتخابية مؤثرة لكنها تباع وتُشترى حسب الدفع وهذا مأزق أخلاقي كبير كرّسته أحزاب المحاصصة. وكذلك استخدام التوظيف في الدولة حيث يتم تجيير الوزارات لهذا الحزب أو ذاك، والمال السياسي يأتي من أموال الفساد المالي حيث دأبت الأحزاب الدينية منذ استلامها دوائر الدولة بعد 2003 على (فبركة) المشاريع الوهمية التي جعلت من قيادات هذه الأحزاب أثرياءً وصاروا يعملون بالتجارة، فقد سُرقت مئات ملايين الدولارات وبطريقة غير مسبوقة لا في العراق ولا في سواه، وكذلك يتم استلام المال السياسي من كبار المقاولين الذين يوعدون بعقود مربحة بعد الفوز بالانتخابات، ناهيك عن تدخل دول الجوار حيث الأحزاب المتنفذة الدينية وغير الدينية لا تخفي ارتباطاتها المشينة واستلامها المال من تلك الدول لتغذية الصراع العشوائي فيما بينها.
كما إن ثقافة تمزيق صور المرشحين وشعارات القوائم الانتخابية التي حدثت في الانتخابات السابقة، ينطوي على رغبة مُسبقة بتزوير الانتخابات، أي التأثير على نتائجها بطريقة غير مشروعة. وربما تدل عملية التمزيق على عجز في تحقيق تلك الرغبة. لكنها في الحالتين تدل على ضعف الشعور بالمسؤولية الاخلاقية في صيانة حق المواطن في الأطلاع على طبيعة برامج القوائم الانتخابية ومعرفة مرشحيها، وهذا بحد ذاته يُعتبر إنتهاكاً لقواعد اللعبة الديمقراطية واستهانة بمشاعر العراقيين ورغبة بتحريف إرادتهم !!
إن مقولة (اللعبة الديمقراطية) الشائعة في الأدبيات الغربية، لا تعني أن (يلعب) كل طرف على الأطراف الأخرى كما فهمتها أحزاب الجهلة في السلطة والمعارضة! إنما (اللعبة الديمقراطية) تعني أن يمارس الجميع العملية الديمقراطية بروح رياضية بدءا من الدعاية الانتخابية وانتهاءً بتقبل النتائج سواء فاز الطرف المعني أم خسر. ففي التبادل السلمي للسلطة، لا يوجد طرف خاسر دائماً ولا طرف فائز دائماً. المهم هو فوز الديمقراطية لأنها الضمانة الوحيدة لتطور الدولة والمجتمع. إن عدم فوز قائمة معينة لا يعني هزيمتها النهائية، بل يُفترض بها أن تراجع برامجها ونقاط ضعفها كي تتلافها في الدورات القادمة.
وهنا يكمن معنى التبادل السلمي للسلطة، أي عندما يلتزم الجميع بأصول اللعبة الديمقراطية وليس التلاعب على القوانين أو على الأطراف الأخرى. لأن التلاعب على القوانين هو مثل الخيانة، لا يمكن إعتباره وجهة نظر.
وإذا كانت مهمة الدولة الديمقراطية هي ضمان الأمن الاجتماعي وتقديم الخدمات وتطوير الاقتصاد الوطني، فإن حكومة المالكي الأولى والثانية فعلت العكس، فإلى جانب الإنفلات الأمني قام المالكي، ومن خلفه قادة الأحزاب الدينية المتنفذة، بتعطيل الصناعة والزراعة لأنهم هم أنفسهم استأثروا بالتجارة الخارجية وأرباحها الهائلة، ما جعل العراق بلداً استهلاكياً ودولة فاشلة، ولكن رغم مرارة ذلك يبقى التبادل السلمي للسلطة ضرورياً، فهو يكفل استمرار التوازن الاجتماعي نسبياً، أو يجعله ممكناً في المستقبل المنظور إذ يعطي العراقيين فرصة للتغيير من داخل النظام الديمقراطي.
مثال: في بريطانيا وخلال الإنتخابات العامة 1996 وكان حزب المحافظين قد تكرر نجاحه في الانتخابات لثلاث دورات متتالية، قال أحد أقطاب حزب المحافظين نفسه: (بدأت أخشى على الديمقراطية في بريطانيا بسبب ضعف المعارضة) أي أنه أعطى دفعة معنوية للمعارضة على حساب حزبه، أي أنه شجع الجمهور البريطاني على إنتخاب أحد أحزاب المعارضة وبالفعل فقد فاز حزب العمال وقتها.
ولكن ما هي دوافع ذلك القائد في حزب المحافظين لأتخاذ ذلك الموقف؟ هذا الرجل مثل غالبية السياسيين في بريطانيا، يُدرك أن مستقبل الدولة البريطانية ومصالح المجتمع وتعدديته الثقافية، تعتمد على التبادل السلمي للسلطة، وليس على الأستحواذ على كرسي الحكم. لأن استمرار حزب واحد أو إتجاه واحد في حكم البلد يؤدي إلى تعفن الثقافة الحقوقية للدولة، لأن الاستمرار في الحكم يشجع على الاستبداد كما يلحق أضراراً مادية ومعنوية بالاتجاهات الآخرى إذا استمرت في حصاد الخيبة فقط، فالإدمان على الخيبة والخسارة يؤدي بدوره إلى التطرف والعدمية ومن ثم تفكك المفاهيم الديمقراطية فتتسع المظاهر السلبية داخل الدولة على حساب قوّة المجتمع المدني وحقوق المواطنين وبضمنها حق أحزاب المعارضة بالمشاركة في تحمل المسؤوليات الرسمية.
ولنأخذ العبرة من نتائج تعفن الديمقراطية في العراق الملكي حيث كان نوري السعيد يقول صراحةً: لا يستطيع أحد أن يصبح نائباً إذا لم نوافق عليه مسبقاً، ما أدى إلى الأختناق السياسي ومن ثم ترجيح خيار الانقلاب العسكري الذي سرعان ما تكرر ليُنتج لاحقاً ديكتاتورية صدام حسين، حيث خسر الجميع ولم يربح أحد.
إحدى عمليات التزوير التي حدثت في إحدى دوائر الانتخابات السابقة، كما رواها لي شاهد عيان، حدثت بالشكل التالي: الدائرة الانتخابية في مدرسة، وصناديق الأقتراع موجودة في عدة صفوف، وكل ناخب يذهب لأحد الصفوف ليدلي بصوته مرة واحدة طبعاً، لكن جمهور الناخبين التابع لأحد الأحزاب الدينية، دخل كل واحد منه لجميع الصفوف، أي يدلي بصوته لعدة مرات! ولكن ماذا نتج عن ذلك؟ هل هو مجرد كسب أصوات إضافية؟ لا طبعاً. النتيجة الأخرى هي إن هذا الحزب مسخ أخلاق جمهوره ومحازبيه الذين قاموا بعملية التزوير تلك، أي الذين أدلوا عدة مرات بأصواتهم خلافاً للقانون وخيانة للأمانة الوطنية. أي أنه سهّـل لهم ودربهم على مخالفة القانون، ما يجعل من المتوقع أن يُعيد هؤلاء نفس هذه الفعلة في أماكن أخرى غير الانتخابات، في أماكن عملهم وربما حتى في بيوتهم، فتبرير الخيانة مرة يؤدي إلى تسهيلها في مرات قادمة. أليست هذه كارثة أخلاقية؟ أين حقيقة تدينكم إذن؟!
والسؤال هو: أية أحزاب هذه التي تمسخ أخلاق محازبيها وأنصارها من أجل الفوز بمقعد سوف لن تمارس من خلاله سوى المزيد من الفساد وتعطيل الخدمات ونهب المال العام؟!
وضمن هذا المناخ، يشن أتباع المالكي هذه الأيام حملة أثارت قلق الرأي العام، بدأت بملاحقة شخصيات وطنية أقترنت إسماؤهم بالنضال ضد ديكتاتورية صدام حسين ومحاربة الفساد في حكومة المالكي كالقاضي منير حداد والنائب صباح الساعدي والإعلامي سرمد الطائي، ثم أصدار أمر بالقاء القبض على صاحب فضائية البغدادية د.عون الخشلوك والإعلامي أنور الحمداني لأن البغدادية كرست برامجها لفضح الفساد والفاسدين بالوثائق والأدلة الملموسة، وبموازاة ذلك تمت فبركة أجراءات هدفها منع شخصيات برلمانية عُرفت بمعارضة الفساد والاستبداد والتدخل الإيراني! وكل هذا هو في الواقع حرب معلنة يشنها المالكي وأتباعه على الشعب العراقي الذي ما يزال متشبثاً بمشروع التغيير عبر صناديق الأقتراع، ما يجعل هذه الدورة الانتخابية ذات طبيعة مفصلية، فأما التغيير وأما الثورة الشعبية إذا تمكن الجلاوزة من تزوير الانتخابات والبقاء في الحكم لولاية ثالثة، لأن هذا يعني إفلاساً تاماً للمشروع الديمقراطي، بل وعودة صريحة للديكتاتورية سوف يواجهها العراقيون بطريقة لا تخطر على بال كما تقول مصادر مُعارضة وكما تشير إليه الأوضاع المضطربة في بغداد.

‘ كاتب عراقي يقيم في لندن
[email protected]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول أ.د. خالد فهمي - تورونتو - كندا:

    السلام عليكم

    الثورة الشعبية التي ذكرتها نهاية مقالك ستكون ” بائسة ” وفاشلة أذا كانت من دون سلاح ومصادر تسليح وتدريب …” كالاسد من دون أنياب ” وذلك لان السلطة الدكتاتورية الجديدة ستكون مسيطرة على القوات المسلحة النظامية وأذا لم يحدث أنشقاق لصالح الشعب الثائر فستكون مساَة حقيقية !!!

إشترك في قائمتنا البريدية