العراق الجديد: أرض مرعبة خارج خرائط التاريخ والجغرافيا

حجم الخط
0

العراق الآن مقبرة كبرى، مقبرة للأحياء قبل الأموات، أرض جرداء خاوية تهرب منها كل الأشياء الجميلة وتختفي إلى الأبد، وكل شيء من شأنه أن يرتقي بالإنسان ويسمو به. العراق الجديد كيان هزيل متضعضع، فاقد للقرار السياسي في المنطقة، ولإرادته الحرة الكريمة التي تكفل له العيش بحرية كباقي دول الجوار، أو تعيد له على الأقل ربع دوره القيادي السابق في المنطقة.
لم أقصد العراق الذي تعرفون، العراق الذي يزهو في مخيال الذاكرة ويتجول في أحلامنا، وإنما ميليشياته الظلامية القادمة من عفن التاريخ، العراق الحقيقي انتهى وجوده مع دخول الاحتلال وأذنابه إلى أرض غنية بالثروة والحضارات والمعرفة الأولى، الأرض التي أنجبت مئات القادة التاريخيين والشعراء والعلماء والمفكرين. في مشهد حزين وكئيب وأنت تتجول في بغداد هذه العاصمة الحضارية والتاريخية سترى ما لم تره عيناك من قبل في أي دولة من العالم الثالث، تقع تحت خط الفقر في آسيا وإفريقيا. العراق الآن غابة مظلمة ومخيفة السيادة فيه للقوي الغني صاحب السلطة والنفوذ الواسع. أما الواسطات والرشاوى والمحسوبيات فأصبحت جزءا من ثقافة المجتمع في الشارع العراقي. ناهيك من الانحطاط الأخلاقي والإنساني الذي جاء به الوافدون الجدد إلى العراق الجديد. حتى اللغة بوصفها أداة للتواصل والحوار بين الأفراد فقدت وظيفتها وصارت أداة للعنف وإلغاء الآخر.
في عودة للماضي وفي مشهد يتكرر دائما في ذاكرتنا التي شبعت نزفا وألما سنرى قوات الاحتلال كيف دخلت العاصمة بغداد بدبابتها مع مرتزقتها القادمين من وراء البحار، وهم يعيثون خرابا فيها ويمهدون الطريق لسرقة المتحف العراقي. هذا المحو المتعمد للذاكرة العراقية وافناء إرث ظل خالدا ومشعا في الحضارة الإنسانية لمدة سبعة آلاف عام؛ يدل على أن أمريكا مصابة بعقدة الحضارة والانتماء، وهوس الفوضى الخلاقة في كل بقعة وطأتها قواتها الغازية في هذا العالم.

غياب الدولة بعد 2003 وحروب أمريكا الاستراتيجية

الدولة العراقية الشرعية بكل ما يعنيه مفهوم الدولة من مرتكزات وأساسيات تقوم عليها الدولة انتهت من القاموس العراقي بسقوط نظام صدام حسين، حتى إن اختلف المختلفون وتناحر المتناحرون حول صدام حسين، نحن لا نستطيع إنكار جرائم صدام حسين في وقتها ولا نظامه الشمولي الديكتاتوري، أو أخطائه السياسية التي كانت بعيدة كل البعد عن المنطق السياسي والدبلوماسية الناعمة في التعامل مع المعسكر الآخر، لكن شخصا مثل صدام حسين خرج من بوتقة الأيديولوجيات المتناحرة في العراق، والذي كان سائدا في العالم آنذاك؛ كان لا بد له أن يبني دولة بقبضة حديدية وفق المفهوم الستاليني. أمريكا في حربها الأيديولوجية مع الاتحاد السوفييتي والمعسكر الاشتراكي لم تشن حروبها مباشرة، وإنما كانت تتجه إلى حروب الداخل، ضرب المركزية، تقوية الأقليات والعرقيات الدينية، الثورات والانتفضات المتكررة، تسليح المعارضة، الحرب الثقافية والإعلامية تحت ذريعة حرية الفكر والرأي.
دائما مفهوم الاستراتيجية هو الذي ينجح في الحرب السياسية ذات الخطة طويلة الأمد والمعدة مسبقا والمدروسة بحكمة وإتقان، عكس التكتيك الذي ينجح في الحروب العسكرية القصيرة، ويكون معتمدا على إبداع ومهارة فرديين. كان الحصار الجائر الذي فرضته أمريكا وقوات التحالف على العراق ليس الهدف منه فقط إضعاف النظام وإسقاطه على المدى البعيد، وإنما تدمير نفسية الفرد العراقي وبنية المجتمع وعلاقتها بالدولة، إضافة إلى توجه النظام العراقي إلى سياسة أكثر استبداية وانغلاقا تجاه الآخر المختلف. في تلك الفترة تحديدا هاجرت معظم الكفاءات العلمية وأساتذة الجامعات والكثير من الشعراء والمفكرين والفنانين، صار الفرد العراقي منغمسا في البحث عن لقمة عيشه وعن توفير ما يضمن حق العيش الكريم له ولعائلته، وصارت شعارات مثل الوحدة العربية وقضية فلسطين من الأشياء التي لا تهم المواطن العراقي نهائيا، إلا من كان مستفيدا ومقربا من السلطة والحزب. وصار الشعور بالانتماء للبلد شعورا هامشيا أمام تحديات هذه المرحلة وما يواجهه الفرد العراقي من أزمات اقتصادية وإنسانية وشعورا مستمرا بالقهر والتهميش والظلم، لكن العراق كدولة كان محافظا على مؤسساته وجيشه وبناه التحتية وأمنه الداخلي، إلا أن سرطانا خفيا في الأعماق كان ينهش جسد الدولة والمواطن ببطء ويمهد للفجيعة المرتقبة، فكان النسيج متخلخلا، والفجوات عميقة، والمربعات الضعيفة يسهل اصطيادها على الرقعة، إلى أن جاءت الحرب الأمريكية عام 2003 وهي متأكدة من انتصارها السياسي لتتوجه بنصر عسكري سهل، وفق الاستراتجية التي أعدتها مسبقا والتي انتظرت في سبيل اكتمالها وتحققها عقدا أو أكثر من الزمن.
ما حققته الديمقراطية الأمريكية في العراق الجديد من خراب وتشرذم كان مبهرا وفي زمن قياسي جدا: – حل الجيش العراقي وقادته، والذي كان يعتبر خامس أقوى جيش في العالم قبل عقد التسعينيات – حرب طائفية أهلية راح ضحيتها آلاف الأبرياء – التبعية الكاملة لإيران وسلطة المعممين داخل البلد – اغتيال العلماء في كافة المجالات والأطباء والأساتذة الأكاديميين والشخصيات المعروفة – انعدام الأمن والخدمات العامة وتقسيم الثروات بين الأحزاب وفق محاصصة طائفية – تقسيم جيوسياسي داخلي حسب الانتماءات العرقية والمذهبية – غياب الوعي الاجتماعي والانهيار النفسي للمواطن العراقي – تفشي البطالة والمخدرات والجنس والتجارة بالبشر والأعضاء البشرية – جرائم بشعة مقززة في الآونة الأخيرة ضد كل من يعبر عن حريته في الفكر أو المظهر أو السلوك، وخصوصا كل من يشتهر في مواقع التواصل الاجتماعي والسوشيال ميديا – إرهاب الميليشيات وسيطرتها على مفاصل الدولة الحيوية وبث الرعب والهلع في نفوس المواطنين – عزلة العراق وخروجه من محيطه العربي واتهام كل من ينادي بالعروبة وقضية فلسطين بالانتماء للبعث أو «داعش» – تغيير في التركيبة الديموغرافية والثقافية للعاصمة بغداد عن طريق الهجرة المتواصلة لأهل الريف والقرى من المحافظات الأخرى – كوارث بيئية تتهدد البلد منها: تسمم المياه الصالحة للشرب في الجنوب، وانخفاض المنسوب المائي لنهر دجلة، الذي قد يهدد بكارثة جفاف مقبلة، وفقا للدراسات والتقارير العالمية.
مفهوم الدولة بعيد كل البعد عن العراق بعد 2003 من حكومة إياد علاوي إلى حكومة عادل عبد المهدي.

مفهوم الاستراتيجية ينجح في الحرب السياسية ذات الخطة طويلة الأمد عكس التكتيك الذي ينجح في الحروب العسكرية القصيرة

يحتاج العراق إلى حلول جذرية وجوهرية يمكن تلخيصها في عدة نقاط: بناء الإنسان فكريا وثقافيا واجتماعيا – فصل الدين عن الدولة ونبذ الطقوس والخرافات التي تشوه معالم المدينة وحصرها في أماكن معينة – صنع قرار مستقل وفاعل في المنطقة وجيش قوي مبني على أساس وطني حقيقي يحافظ على وحدة الوطن والهوية المركزية، والتخلص من التبعية لدول الجوار والأجندات الخارجية – تحجيم دور الميليشيات العقائدية وتقليص نفوذها ثم دمجها في الجيش في ما بعد – إنشاء الجسور والطرقات، وإقرار قوانين جديدة وحازمة تنظم السير والمواصلات – النهوض بمستوى التعليم في المدارس والجامعات والمعاهد وإجراء اختبار شامل /تطبيقي ونظري/ قبل تعيين الخريجين وتسلم مواقعهم الحكومية – محاسبة الفاسدين إعلاميا وعلى القنوات الفضائية في محكمة عادلة وبعيدة عن اي انتماءات، حيث القضاء يجب أن يكون سلطة مستقلة – المباشرة بمشروع دولي استثماري في إعادة بناء العراق تشرف عليه لجان وشركات دولية.
هذه الأمور لن تتحقق على المدى القريب، لأنها تحتاج إلى عقل يفكر تفكيرا سليما ومنطقيا في القرارات الحاسمة والصعبة، ويرسم خطة طويلة الأمد يبدأ العمل عليها على أرض الواقع، كما أن العراق لا يمكن أن يحكمه حاكم واحد الآن، فموضة الأنظمة الشمولية انتهت، كما كان مقررا لها في استراتيجية البيت الأبيض، ولا يمكن أن تقوم ثورة شعبية تمتلك منهاجا حقيقيا في الإصلاح والتغيير، أو على غرار ثورات الربيع العربي، رغم اشتعال شرارتها في البصرة وبغداد، لكن طالتها اغتيالات وجرائم من العصابات الموالية لإيران وصار هناك تحريف في مسارها من قبل عناصر مخابراتية مندسة مع المتظاهرين، وإحراق السفارة الايرانية هو أحد هذه الخطط لإجهاض تظاهرات الشعب المطالب بحقه المشروع. ولا يمكن للعراق أن يكون دولة ليبرالية مبنية على مفهوم الحداثة، ولا دولة دينية قوية موازية لإيران ومشروعها في المنطقة.
إذن ما هو العراق الآن؟
هل هو ولاية دينية تابعة لإيران أم مستعمرة أمريكية للتجارب والنفايات؟ هل هو كانتونات طائفية متشرذمة ومتشتتة ومتناحرة؟ ربما كان على الأغلب مقبرة كبرى، أو أرضا تصلح فقط للموت أو الانتحار أرضا مرعبة خارج خرائط التاريخ والجغرافيا.

كاتب عراقي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية