من أهم ظواهر الدولة في منطقتنا العربية، ظاهرة المكرمات/العطايا، وهي سياسة تنتمي إلى الدولة السلطانية ما قبل الحديثة؛ حيث الحاكم هو المالك للدولة، وليس مجرد موظف فيها، وحيث لا مكان للمواطنين فيها بل للرعايا! وتبعا لابن خلدون فإنّ السلطان (أو رئيس الجمهورية هنا) هو «المالك للرعية القائم في أمورهم عليهم» كما يعرفه ابن خلدون، الذي يستخدم عبارة «صاحب الدولة» لوصفه، لأن الملكية هنا ملكية حصرية لا يشاركه فيها أحد!
وعن سياسة المكرمات يحدثنا ابن خلدون أيضا عن «الموالي والمصطنعين» وهو ربما يكون أول توصيف للزبائنية، وهؤلاء «يخصهم بمزيد من التكرمة والإيثار»!
قطعا فإن الدولة السلطانية الحديثة قد تطورت اليوم وعمدت إلى استنساخ أدوات «مبتدعة» مثل الدستور والمؤسسات الدستورية والانتخابات وغيرها، لكن المفاهيم الحاكمة بقيت هي نفسها؛ فالدستور ليس سوى «سطر يُكتبُ وسطر يُمسح» متى شاء السلطان/ رئيس الجمهورية، والمؤسسات الدستورية ليست سوى دكاكين لصاحبها، والانتخابات مجرد مسيرات للبصم على نتائج محددة سلفا!
هكذا يعمد الحاكم إلى تعديل الدستور في مسألة تقليل عمر رئيس الجمهورية المحدد من أجل إتاحة المجال للابن لخلافة أبيه في جمهورياتنا الوراثية، أو تعديل الدستور لمد سنوات ولاية رئيس الجمهورية وعدم حساب الولايات التي قبل ذلك، كي يبقى رئيس الجمهورية مدة 18 عاما بالتمام والكمال، وهي مدة قابلة للتمديد مرة أخرى إذا ما بقي حيا، إذا لم يقرر توريث الجمهورية!
التطور نفسه لحق سياسة «المكرمة والإيثار» السلطانية، فلم تعد مقتصرة على أهل «الحق والعقد» الذين يتولون «جليل الأعمال والولايات من الوزارة والقيادة والجباية» كما افترض ابن خلدون، بل توسعت هذه الدائرة لتضم رجالات حزب رئيس الجمهورية ورجال الأعمال والإعلاميين وفئات اجتماعية أخرى لا بد منها لبناء النموذج الزبائني الذي يتسق مع الدولة السلطانية الحديثة!
في العراق، الدولة التي تعد نفسها «النموذج الديمقراطي الأكثر تطورا في المنطقة» حيث الدستور ليس سوى «خرقة» بالية من كثرة ما انتهك وديس عليه! وسلطات الدولة ومؤسساتها ليست سوى إقطاعيات لأصحابها في سياق نظام طائفي/ زبائني، تحولت سياسة المكرمات إلى نظام متكامل، والمفارقة هنا أن الأمريكيين أنفسهم كانوا مشاركين فاعلين في هذا السياق، ومراجعة المكرمات والعطايا التي قام رئيس سلطة الائتلاف المؤقت بتوزيعها على أعضاء مجلس الحكم ثم على أعضاء المجلس الوطني العراقي المؤقت، تكشف هذه الحقيقة!
بعد 30 حزيران/ يونيو 2004، وهو موعد تسليم الاحتلال السلطة، شكليا، إلى الحكومة العراقية المؤقتة، تحولت المكرمات إلى سياسة عراقية خالصة، ونجد ذلك موثقا من خلال صحيفة الوقائع العراقية التي كانت تنشر قرارات الحكومة التي كانت «تملك» السلطتين التنفيذية والتشريعية معا!
في مشروع قانون الموازنة لعام 2023 والذي لا يزال يُناقش في مجلس النواب، وردت مادة تنص على تخصيص مبلغ 3.6 تريليون دينار عراقي تقريبا (2.76 مليار دولار تقريبا) لما سمي «البرامج الخاصة»
على سبيل المثال لا الحصر أصدر أياد علاوي، رئيس الحكومة المؤقتة، الأمر رقم رقم (7) لسنة (2005) الخاص بمخصصات (عضو المجلس الوطني المؤقت) وفيه قرر أنه: (يستحق عضو المجلس الوطني المؤقت مكافأة لا يزيد مقدارها عما يتقاضاه الوزير من راتب ومخصصات) فضلا عن مكافآت الحماية الخاصة به. علما بان أعضاء هذا المجلس كانوا معينين وليسوا منتخبين أولا، وأن مدة خدمتهم لم تتجاوز خمسة أشهر لا غير، ولا يمكن فهم مثل هذا السخاء بالمال العام إلا وفق منطق الدولة السلطانية ومكرماتها!
وسارت الحكومة العراقية المؤقتة التي تشكلت في كانون الثاني/ يناير 2005 على الدرب نفسه، حيث أصدرت القانون رقم 12 لسنة 2005 تضمن «تخصيص منحة مالية لكل من رئيس الجمعية الوطنية ونائبيه وعضو الجمعية مبلغا قدرة (50) ألف دولار أو ما يعادله بالدينار العراقي بغرض «توفير مستلزمات الوضع الأمني والاجتماعي لعضو الجمعية الوطنية»!
ومع بداية عام 2007، أصبحت المكرمات أكثر تقنينا عبر بدعة «المنافع الاجتماعية»! فبداية من قانون الموازنة العامة لعام 2007 مُنح رئيس الجمهورية ونوابه، ورئيس مجلس الوزراء ونوابه، ورئيس مجلس النواب ونوابه، صلاحية صرف ملايين الدولارات، كمكرمات شخصية لهم، دون الخضوع لأي رقابة أو تدقيق، ولم يتوقف هذا الصرف نسبيا إلا عام 2011 عندما تضمن قانون الموازنة العامة لعام 2011 فقرة تقول: «تلغى تخصيصات المنافع الاجتماعية للرئاسات الثلاث»! لكن من الواضح أن القائمين على الأمر قد تحايلوا على هذه المادة، لهذا جاء قانون الموازنة العامة لعام 2012 ليتضمن العبارة التالية: «إلغاء جميع تخصيصات المنافع الاجتماعية إلى الرئاسات الثلاث»!
في مشروع قانون الموازنة لعام 2023 والذي لا يزال يُناقش في مجلس النواب، وردت مادة تنص على تخصيص مبلغ 3.6 تريليون دينار عراقي تقريبا (2.76 مليار دولار تقريبا) لما سمي «البرامج الخاصة» وخُصِّص ما يزيد على 40٪ من هذا المبلغ «لأولويات البرنامج الحكومي» وبالعودة إلى الجداول الملحقة سنجد أن هذا المبلغ قد قُيِّد في جدول (ب) المتعلق بالنفقات حسب الوزارات، في الحقل (3 ) المتعلق برئاسة مجلس الوزراء، وهذا يعني عمليا أن رئيس مجلس الوزراء هو المسؤول شخصيا عن صرف هذا المبلغ!
بالعودة إلى قوانين الموازنة العامة السابقة، نجد مثل هذه الفقرة قد وردت في موازنة العام 2021 حصرا، وكان المبلغ حينها 1.26 تريليون دينار، أي ما يقرب من 850 مليون دولار تقريبا. فيما لم ترد أي إشارة إلى «البرامج الخاصة» في أي موازنة أخرى!
والسؤال هنا، كيف يُخصَّص مبلغ مقداره 2.76 مليار دولار دون أن تُحدد هذه «البرامج الخاصة»؟ ومن يحدد طبيعة هذه البرامج؟ وكيف سيصوت أعضاء مجلس النواب على برامج لا يعرفون عنها شيئا؟ وكيف يمكن الحديث عن «أولويات برنامج حكومي» في حين أن الموازنة بمجملها، وهي تزيد على 152 مليار دولار يُفترض أنها مصممة وفقا للبرنامج الحكومي وأولوياته؟ وأخيرا لماذا لم تقف اللجنة المالية على هذا الموضوع بدليل أنه لم يرد مطلقا في تقريرها المتعلق بالموازنة؟
لا يمكن فهم هذه الأحجيات إلا من خلال مقدمتين حاكمتين، الأولى هيمنة سياسة المكرمات غير المحددة، وتخصيصاتها، والثانية عدم اهتمام أعضاء مجلس النواب بقانون الموازنة إلا بما يتعلق بمصالحهم الشخصية والسياسية، والمقايضات المرتبطة بذلك، وبالتالي استعدادهم للتصويت على ما عداها حتى من دون قراءته!
كاتب عراقي