العراق: الدين والسياسة وسلطة جمهور الناخبين!

حجم الخط
0

ستبقى الانتخابات ثقافة جديدة علينا نحن العراقيين بفضل خمسين سنة من انقلابات حزب البعث وديكتاتورية صدام وحروبه الداخلية والخارجية التي هدّت كيان الدولة وتركت العراق أنقاضاً، ناهيك عن استمرار التدخل الأمريكي والايراني سياسياً وأمنياً وبتواطؤ علني من قبل الأحزاب الدينية الحاكمة! وكل هذه الامتحانات القاسية أثّرت سلبياً على الثقافة العامة للعراقيين، فالمواطن الذي تخذله دولته وتصبح أجهزتها الأمنية مصدر تهديد لأمنه وحريته، لا يمكن أن تترسّخ في وعيه ومشاعره الثقة بالآخرين! فكيف له أن ينتخبهم ويساهم في تسليمهم زمام السلطة!
فبدل أن تعمل الأحزاب الحاكمة بعد 2003 على خلق ظروف سياسية تنقذ المواطنين من آثار الحروب والحرمان وتكرس مفهوم المواطنة كأساس لبناء الدولة الجديدة، قامت بإستغلال الخلل النفسي والسياسي الذي تركته الديكتاتورية في نفوس العراقيين، فكرّست الطائفية والعرقية عبر (المحاصصة) ما جعل الدولة فريسةً للأحزاب، ثم توّجت ذلك بقرار تحوّل العراقيون بموجبه من مجتمع يمتد تاريخه لآلاف السنين إلى مجرد مكونات طائفية وعرقية ليتم إخضاعها لوصاية أحزاب طائفية وعرقية متعفنة!
والمفارقة إن أحزاب المحاصصة هي نفسها تُدير العملية الديمقراطية وتشرف على الانتخابات! وبعلامة تعجب أو بدونها، فهذه هي شروط التطور الاجتماعي الصعبة، فالتطور لا يهبط علينا فجأة، بل ينشأ عبر قوانين صراع المتناقضات الذي يمتد لعشرات ومئات السنين، يستمر ويتفاعل داخل هذه المعمعة ذاتها، فمن داخل هذا الخراب والفساد يترسخ وعي الأجيال الجديدة بضرورة التبادل السلمي للسلطة تحت سقف القانون ورقابة القضاء المستقل لتحل الديمقراطية رغم نواقصها محل الاستبداد وشروره، الاستبداد الذي يريد المالكي تكريسه عبر التجديد له مرّةً ثالثة!
إن طرق التفكير التي أدمنها العراقيون، لن يستطيعوا التخلص منها بسهولة. هذا ما يحدث عادةً عند جميع الشعوب التي أصيبت بداء الديكتاتورية لعقود متتالية. وفي سياق سلوكنا الانتخابي، فإن أخطر العادت الثقافية الموروثة هي:
أولاً: الولاء الحزبي المطلق، أو ثقافة (أما معي أو ضدي)! ما يجعل أحزابنا أقرب للقبائل السياسية منها للأحزاب المتعارف عليها في البلدان الديمقراطية.
ثانياً: الخوف من المعارضة! أي عدم التمييز بين النقد وبين العداوة، لأن الكائن الحزبي في ثقافة القبيلة السياسية لا يميّز بين ما هو شخصي وما هو شأن عام يتعلق بسياسات الحزب التي قد تتغير بين مرحلة وأخرى. إن سبب العصبية القبلية هو تماهي الفرد (المسحوق عادةً) وذوبانه بالقبيلة، وهو نفس السبب الذي يفسر العصبية الحزبية في البلدان المتخلفة حيث غالباً ما يطمح بعض المحرومين إلى التحول إلى جلاوزة للسلطة الجديدة للإنتقام من الآخرين.
لقد ارتبطت هاتان الصفتان الواحدة بالأخرى، بل كانت الثانية نتيجة للأولى. ولكي نوضح تخلف وخطورة هاتين الصفتين، نقول: إذا كانت مؤسسات الدولة ذات صفة حيادية تخضع للدستور في النظم الديمقراطية، فهي في أنظمة الاستبداد تصبح مُلكاً للحزب أو الأمين العام! لأن الدولة برمتها تعتبر (غنيمة) لذاك الحزب أو الإتجاه! ففي الدول التي تتصارع فيها أحزاب انقلابية على السلطة، لا يُعتبر الحزب (منتصراً) لأنه أستولى على الدولة فقط، بل وأيضاً لأنه (هزم) الأحزاب الأخرى التي حاولت وفشلت.
إن الثقافة الإنقلابية التي أنتجت هذا المفهوم المشوَّه للهزيمة والإنتصار في الصراعات الداخلية، هي التي انتجت لوثة (الولاء الحزبي المطلق)، فنحن هنا أمام صراع قبائل سياسية وليست أحزاباً بالمعنى الديمقراطي. قبائل سياسية يتحول ولاؤها الى تديّن بالمعنى البدائي للكلمة. أي إنتماء لا فكاك منه! ومن هنا جاءت مقولة (القصر أو القبر)!
نسمي (الولاء الحزبي المطلق) لوثةً لأن الحزب لا يمكن أن يكون ديناً كي يُصبح ولاؤنا له مطلقاً، إلا إذا كانت الجهات النافذة فيه تعتبره وسيلة للهيمنة على الدولة حتى في ظل النظام الديمقراطي! ومن هنا تشعر الأحزاب الخاسرة في الانتخابات بنوع من الفضيحة، وهذا ما يكشف تعطّشها اللامحدود للسلطة، تشعر بالفضيحة لأنها تعتبر ما جرى هزيمة لها، رغم إن الإنتخابات وما يتبعها من تبادل سلمي للسلطة هو إنتصار لإرادة الناخبين وانتصار للنظام الديمقراطي ضمانة مستقبل العراق ووحدته.
وبالعودة للخلفيات نرى قوة الموروث الثقافي المتخلف عند الأحزاب التي وجدت نفسها فجأة أمام نظام ديمقراطي فُرض عليها فرضاً. ولذلك فهي حين تمكّنت من خداع الجمهور في انتخابات 2005 و2010، واستولت على إدارة المحافظات وتقاسمت الوزارات سرعان ما مارست كل أنواع الفساد والمحسوبية انطلاقاً من فكرة الغنيمة المترسخة في ثقافتها.
لا يمكن أن يكون الحزب ديناً إلا عند العقول المأزومة، بل تلك التي استعبدتها الأزمة، فيصبح الاتباع عبيداً للحزب، دينياً كان أم مدنياً، وهذا ما يتناقض مع الثقافة الديمقراطية التي تعتمد على حرية الاختيار. لأن الإنتماء لأي حزب أو مناصرته، في الأعراف الديمقراطية، هو مسألة تقترن بالاختيار الحر ومشروطة بخط الحزب في مرحلة معينة، فإذا ثَبُتَ فشله في إدارة شؤون الدولة لا يعود للولاء معنى إلا إذا كان هوساً مرضياً أو عبودية، وهذه حالات شاذة.
إن العبودية المطلقة للحزب هي إحدى صفات الاحزاب الإنقلابية تلك التي تقود نفسها مثلما تقود البلاد من كارثة إلى كارثة، إلى أن تسقط هي نفسها في اتون الكارثة كما فعل حزب البعث الذي ما يزال بعض أعضائه يلهثون متدافعين في جرائمهم جنباً لجنب مع الارهابيين، غير قادرين على التخلص من عبوديتهم للحزب ولتلك الأوهام القاتلة، أوهام التسلط على الآخرين!
لا يمكن أن يكون الحزب ديناً، كما لا يمكن تحويل الدين إلى حزب، لأن الثقافة الدينية أساسها المقدس وقياسها يتراوح بين المقدس والمدنس، وفي هذا العرف تتسع عباءة المقدس باستمرار للمزيد من الأتباع بينما عراء المدنس هو مصير المختلفين أو المعارضين! وهكذا عندما يدخل الدين في السياسة بصفته حزباً فهو يُحوّل الحياة السياسية إلى جحيم، حيث تحل معادلة العقاب والثواب محل فكرة النقد والتواصل بالاحتكام للمصلحة العامة. إن اضطراب ثقافة الأحزاب الدينية وعقوباتهم الجاهزة لا تشمل المختلفين والمعارضين فقط، بل تشمل أتباع الحزب أنفسهم أيضاً حيث تُسيطر على عقولهم الوساوس والأوهام وهذه عقوبة بحد ذاتها ولكنهم لا يُدركون خطورتها.
لنتأمل أتباع الأحزاب الدينية عندنا من حملة الشهادات المزورة وأولئك الذين أغرقوا ضمائرهم بالفساد المالي والإداري، ولنتساءل: أين سيذهبون من ضمائرهم إذا كانوا مؤمنين بالله حقاً؟! وأين يذهبون من القانون إذا لم يكونوا كذلك؟! وفي الحالتين أين يذهبون من عيون ضحاياهم العراقيين، عيون العراقيين التي ستظل تلاحقهم في كل مكان حتى لو هربوا إلى لندن أو الصين وأصبحوا يملكون مؤسسات عقارية فيها! إنهم في أفضل الأحوال سيلتحقون بأولئك الوزراء وأعوانهم الذين نهبوا أموال الدولة ثم غادروا العراق واختاروا العيش في الخفاء كالخفافيش، فما أتعس حياتهم.
لا يمكن تحويل الدين إلى حزب بحكم طبيعته الإنسانية الشاملة وصفته الروحية التي تحدّدها علاقة الإنسان بخالقه. وهنا يمكن القول إن وجود أحزاب عديدة يدعي كل منها أنه يمثل الدين نفسه وهي تصارع بعضها بعضاً بالحق والباطل، إنما يدل على أزمة تلك الأحزاب وليست أزمة الدين. لأن الدين الواحد يجمع ولا يفرق بينما الأحزاب الدينية تفعل العكس!
وإذا كان الاستبداد يستنزف الدولة والمجتمع معاً، فإن الديمقراطية تصبح وسيلة وغاية لأنها ضمانة لوجود دولة حيوية ومجتمع قابل للتطور باستمرار لأن مبدأ تكافؤ الفرص يَطلق طاقات المواطنين الخلاقة، إذ تصبح الكفاءة والخبرة هي القياس وليس الإنتماء لهذا الحزب أو تلك الطائفة. إن الديمقراطية تجدد الثقافة الحقوقية للدولة وتعزز الرأسمال السياسي للمجتمع.
وبوسعنا إدراك أصول اللعبة الديمقراطية لنكرسها لمصلحتنا مجتمعاً ودولة عبر التخلي عن مفهوم الاستقطاب المطلق لهذا الحزب أو ذاك، وأن نحدد خيارنا الانتخابي من خلال الانحياز لمصداقية الجهة التي نريد إنتخابها، مصداقيتها من خلال النزاهة والكفاءة وليس الهوية الأيديولوجية أو الطائفية. لا بدَّ للعراقي أن يتخلى عن عادة الولاء المطلق لهذا الحزب أو ذاك، والذي كثيراً ما تحول إلى هوس سياسي يظل يغذي حالة التناحر المعروفة في تاريخ العراق الحديث.
إن ولاء المواطن الدائم يجب أن يكون لسلطة القانون والنظام الديمقراطي، وولاؤه الانتخابي مرهون بمن يحقق مصالحه المشروعة، أي الاتجاه القادر، من خلال برنامج واضح ومحدد، على إنقاذ العراق مما هو فيه، أي الفساد والفاسدين.
ولأن المجتمع أكبر من جميع الأحزاب، فإن تكريس هذه المبادىء يجعل الأحزاب خاضعة لإرادة المجتمع، ويحول دون جعل جمهور الناخبين رهينة بيد هذا الاتجاه أو ذاك. ولكي تصبح هذه المبادىء جزءاً من ثقافة انتخابية عامة تتطور دورة بعد أخرى، سيكون بوسعنا نحن جمهور الناخبين، أي الأغلبية المغلوبة على أمرها، أن نخلق تكتلنا الواسع، تكتل الناخبين في مواجهة التكتلات والقوائم الحزبية، تكتلنا هذا هو الذي سيفرض شروطنا على تلك الأحزاب والتجمعات. أي ان نتيجة الانتخابات يجب أن تكون لمصلحة المهدورة حقوقهم، ولا يهم إن خسر هذا الحزب أو ذاك. بهذه الطريقة فقط نستطيع تحقيق أفضل مفهوم لشعار (العراق أولاً)، لأننا بهذه الطريقة فقط نحافظ على صمام أمان المجتمع والدولة، أي النظام الديمقراطي وسلطة القانون فبدونهما لا يمكن تحقيق العدالة.

‘ كاتب عراقي مقيم في لندن

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية