عشية الاتفاق على تعيين المالكي رئيسا لمجلس الوزراء لولاية ثانية بموجب تقاسم السلطات الذي تمخض عن اتفاقية أربيل في عام 2010، سأل أحد أتباع التيار الصدري زعيمهم عن جدوى موافقته على ذلك، وهو الذي قال بأن ما تعرض له التيار من قتل واعتقالات على يد المالكي يفوق ما تعرض له على يد النظام السياسي السابق، على حد وصفه. كان جواب الصدر، نعم أعلم ذلك لكن دعونا نعمل معه لعلنا نهديه الى طريق الصواب.
فهل شعر الصدر بوزر ذلك القرار الخاطئ فآثر دفع الثمن تطوعاً كي يبقى زعيماً روحياً لاتباعه المُحبطين؟ أم أنه هروب مسؤول من ضغوطات دينية عليا في قم وطهران، باتت تدفعه كي يتخلى عن النقد اللاذع لرئيس الوزراء، الذي مهما فعل فهو ابن البيت السياسي الشيعي؟ يقينا لقد شعر الصدر بالاحباط الشديد منذ أن تولى المالكي السلطة في الولاية الاولى وحتى اليوم، وأن مصدر الاحباط هو شعوره بأن الاقلية تتحكم في الاكثرية في البيت السياسي الشيعي، وأن الزعامة السياسية هي من تقود الزعامة الدينية في هذا البيت.
فعلى الرغم من أن مقاعده الاربعين في البرلمان وحجمه السياسي الآتي من شعبية تياره الاكثر بين الاخرين، كان لها الاثر الفاعل في وصول المالكي، الذي كان مجهولا في ما سبق، الى السلطة، لكن الاخير يسعى جاهدا الى تجاهله وتفضيل خصومه المنشقين عنه، ‘عصائب اهل الحق’ كي يكونوا الاقرب اليه نكاية به.
كما أن عمامته الموروثة من عائلة دينية معروفة لم يجد الصدر أنها أعطته امتيازا أو هيبة أكثر من ربطة عنق المالكي، بدليل أن رئيس الوزراء وعددا من أعضاء كتلته تهجموا على التيار وزعيمه بكلمات لم يجروء أحد من الساسة الاخرين على قولها مرات عديدة. ففي أغسطس/آب من العام الماضي أُعلن عن اعتكاف الصدر واعتزاله الحياة السياسية، والغائه الدوائر المرتبطة به وعدم المشاركة بأي عمل سياسي مباشر، وبينما هبّ الاخرون لمناشدته للعودة لمزاولة العمل السياسي، دعاه المالكي الى ‘الاعتزال وأجراء أصلاحات كبيرة في التيار الصدري’، وتحدث بشكل مباشر عن تحول ‘التيار الصدري الى وسيلة للاساءة لمدرسة الصدرين الاول والثاني’، على حد تعبيره، بل ان تصريحات احدى النائبات عن دولة القانون في ذلك الوقت بأن ‘اعتزال الصدر كشخص لا يعني شيئا للعملية السياسية’، وتساؤلها عن ‘ما معنى اعتزال السيد مقتدى الصدر العمل السياسي وهل هو رئيس جمهورية او رئيس وزراء او حتى وزير ليعتزل’، كانت قد اُعتبرت اهانة كبرى له ولتياره، مما أشعره بأن المركز الاول في السلطة وحزب الدعوة يحاولون بكل الوسائل تسقيطه في عيون اتباعه، واظهاره بمظهر العاجز عن الثأر حتى لنفسه من المتقوّلين بهذه التصريحات، خاصة بعد أن فشلت محاولاته السابقة بسحب الثقة عن المالكي في تحالف أربيل مع الاكراد والقائمة العراقية، وعدم مقدرته على الايفاء بوعوده باقناع السلطة باطلاق سراح العديد من أتباع التيار المعتقلين منذ سنوات، وكذلك استمرار التفجيرات التي تحصد الكثير من البشر في المناطق التي تعتبر معاقل له، مضافا اليها ذهاب العديد من مبادراته على الصعيد العربي والاقليمي والداخلي أدراج الرياح، مثل قضية الاعتصامات في المحافظات المنتفضة، لذلك كان لابد من اتخاذه موقفا يحسم لعبة الوجود غير الفاعل في المشهد السياسي، بعد أن أدرك أن استحقاقات الوجود المشلول يُرتب عليه خسائر كبرى في المركز الروحي الذي يحتله في نفوس أتباعه، وقد لمس ذلك عندما بدأ بعض نوابه ينزلقون الى نفس المزالق التي كان يحذر منها الاخرين.
ففي الوقت الذي كان يهاجم السلطة وبعض القوى السياسية الاخرى التي تُمرر قوانين امتيازات النواب وكبار المسؤولين في الدولة، تبيّن أن البعض من نوابه ووزرائه هم مشاركون أيضا في تمرير تلك القوانين، كما حصل في قانون التقاعد الاخير الذي أقره البرلمان والذي تضمن امتيازات كبرى للطبقة السياسية، مضافا الى ذلك تهم الفساد التي طالت بعض المحسوبين عليه في الوزارة والبرلمان والمؤسسات الاخرى، لكن ذلك ليس المشهد الوحيد في صورة انسحاب الصدر من العمل السياسي، بل نرى أن الوضع السياسي الراهن في المنطقة وتحولات الموقف الاقليمي والدولي من القضية السورية، والانفتاح المتبادل الايراني ـ الغربي، وحرب المالكي المدعوم من الولايات المتحدة والغرب في الانبار، كلها عوامل اعادة انتاج فيلم استحقاق المالكي لولاية ثالثة.
ولان الصدر بات من أشرس الداعين الى قطع دابر هذا الموضوع بعدم التجديد له، فقد عادت المرجعيات الدينية – السياسية في ايران ـ خاصة من يقلدهم الصدر ـ الى الضغط على الرجل للكف عن الاعتراض، كي يبقى الموقف السياسي للاسلام السياسي الشيعي موحدا من طهران حتى الضاحية الجنوبية في بيروت، مرورا بالعراق وسورية، لكن المواقف السياسية غالبا ما تكون لها مخالب وأنياب لا يستطيع السياسي الفكاك منها، فأما الجُهّال فانهم يتنازلون عنها من دون مقابل فيسقطون سقوطاً مدوياً، وأما غيرهم فيعرفون كيف يحصلون على ثمن أكبر مقابل التنازل كي يبرروا تبدل مواقفهم أمام جمهورهم.
فهل سيحصل الصدر على ثمن أكبر لو عاد المالكي الى ولاية ثالثة بتزكية منه؟ وكيف له أن يتنازل عما قال علناً، الى الحد الذي باتت أقواله شعارات يتغنّى بها أتباعهُ؟ لا يظن الرجل ذلك اطلاقا وهو الذي عرف المالكي جيدا بقدرته على التنصل من جميع تواقيعه ومواثيقه وتعهداته مع الساسة الشيعة والسنة والاكراد وغيرهم، لذلك اتخذ قراره بترك العمل السياسي كي ينظف رداءه مما علق به من سوء تصرف بعض المحسوبين عليه، وكي يتجنّب تصريحات بعض أطراف البيت السياسي الشيعي المسيئة اليه، خاصة حزب الدعوة وقائمة دولة القانون، ولعله اليوم يلوم نفسه كثيرا لان ابن عمه النائب السابق جعفر الصدر قد سبقه في فهم اللعبة السياسية، ولم يشأ أن يبقى شاهد زور على ما يحصل من محسوبية ومحاباة بين أطراف الطبقة السياسية، في وقت تُرك فيه المجتمع يواجه مصاعب جمة، لذلك دعا الى امتلاك الشجاعة الادبية والصراحة في القول للشعب بأن السياسات الفاشلة منذ عام 2003 تتحمل مسؤولية ما وصل اليه الوضع، على حد قوله في بيان الاستقالة، لكن هل انتهى تماما دور السيد مقتدى الصدر في العملية السياسية؟
‘ باحث سياسي عراقي
جواباً على تساؤلك الاخير د. مثنى…(وقد كتبت ذلك في تعليق على مقال اَخر أمس في القدس العربي…
أعتقد و الله أعلم أن القاعدة الشعبية الصدرية ستضل متماسكة و بالتالي فأنني أتوقع أن يستجمعوا أتباعهم ويختاروا مرشحيهم ويدخلوا الانتخابات القادمة وهم جميعاً يمثلون مبادئ التيار الصدري ولكن من دون أسم أو عنوان !!! وأذا كانت القاعدة الشعبية الصدرية التي ذكرناها مستنفرة و منظمة بشكل صحيح فبالامكانها أن تحصل على أكثر بكثير من ال 40 مقعد “اليتيمة” للدورة الماضية … أنت تعلم أن أتباع الصدريين يقدّرون بالملايين فيما بين بغداد و المحافظات الجنوبية وبالتالي فهم أكبر مكون شيعي عراقي أصيل في البلاد.