العراق بين مطرقة أمريكا وسندان إيران: جيل شاب قلق وفساد مستشر وبلد نفطي يستورد الكهرباء

إبراهيم درويش
حجم الخط
1

قال المبعوث الأمريكي السابق للتفاعل مع سوريا والممثل الأمريكي في التحالف الدولي لهزيمة تنظيم “الدولة” الإسلامية جيمس جيفري، إن إدارة جوزيف بايدن المقبلة ليست بحاجة لاستراتيجية جديدة في الشرق الأوسط، ذلك أن إدارة دونالد ترامب الراحلة تعاملت مع المنطقة بشكل جيد.

وفي مقال نشرته دورية “فورين أفيرز” (15/1/2021) قال فيه إن السياسة التي اتبعها ترامب في الشرق الأوسط تختلف عن السياسات التي اتبعها الرؤساء الأمريكيون الثمانية قبله حيث كان همهم دعم الحلفاء وتأمين تدفق النفط والتخلص من أسلحة الدمار الشامل ومكافحة الإرهاب. وعلى خلاف كل من جورج دبليو بوش وباراك أوباما اللذين اتبعا سياسة تحويلية للمنطقة بنتائج جرت الولايات المتحدة إلى حروب لا نهائية، اعتمد ترامب على سياسة تقوم على أهداف محدودة والرد على التحديات كلما ظهرت. ودافع عن المصالح الأمريكية بالتعاون مع الحلفاء. ويرى جيفري أنه ورغم الخلافات الحزبية والمواقف داخل الكونغرس من الشرق الأوسط يجب أن يكون هذا المعيار أساسا لتعامل الإدارة المقبلة مع المنطقة لأنه يقدم الخيار الأفضل لاحتواء التحديات في الشرق الأوسط ومنح الأولوية للتحديات الجيوسياسية. ويقول إن كل الإدارات الجديدة تعمل على إعداد استراتيجية للأمن القومي لكي تقوم بوضعها على الرف، إلا أن إدارة ترامب وضعت في 2017 استراتيجية تحول من الحروب الدائمة للتركيز على التنافس بين القوى الكبرى مثل الصين وروسيا. وعنى هذا بالنسبة للشرق الأوسط تجنب التورط في المشاكل المحلية ودفع المخاطر الإقليمية. وعنى أيضا احتواء كل من إيران وروسيا وتأثيرهما في المنطقة. أما المبدأ الثاني من استراتيجية ترامب فقد قام على إنهاء دور أمريكا المركزي والاعتماد على القوى المحلية لمواجهة التحديات وتركها لمواجهة واحتواء مخاطر مثل إيران. وظلت الإستراتيجية تتراوح بين تقليل القوات في العراق وأفغانستان ومنح الأولوية لمكافحة الإرهاب أو التركيز على الإرهابيين وإيران في نفس الوقت. وانتهت الإدارة في النهاية إلى تخفيض عدد القوات الأمريكية إلى النصف تقريبا في العراق وأفغانستان وتوجيه عمل ما تبقى من القوات إلى مكافحة الإرهاب واحتواء التأثير الإيراني. وكان ترامب واضحا في دعمه للقوات الإسرائيلية والتركية في أعمالها ضد إيران وروسيا في سوريا واعتماده على دول الخليج والأردن والعراق وإسرائيل للوقوف في وجه طهران. وكان دور أمريكا هو دور متمم لعمل هذه من خلال إمدادات السلاح وقتل الإرهابيين ومعاقبة نظام بشار الأسد. وكانت الإدارة الأمريكية حذرة في استخدام القوة خاصة عندما لم يكن الأمريكيون عرضة للخطر. ولو اضطرت للتحرك كانت تضرب بحزم نظام الأسد والمرتزقة الروس وتنظيم “الدولة” والميليشيات التابعة لإيران. ومقابل ذلك تجاهلت السلوكيات المحلية للأنظمة في مصر وتركيا والسعودية حتى بعد مقتل جمال خاشقجي في اسطنبول. ووقفت مع إسرائيل ضد الفلسطينيين.

التوأم الإيراني-العراقي

 لكن الامتحان الحقيقي لإستراتيجية ترامب كانت إيران التي فرضت عليها عقوبات قاتلة شلت الاقتصاد وقدرتها على تصدير النفط ومنعت الدول الكبرى من مساعدتها مثل الصين وروسيا والاتحاد الأوروبي الذي وإن تمسك بالاتفاقية النووية التي ألغاها ترامب من جانب واحد إلا أنه لم يستطع التحايل على العقوبات المشددة. ويرى جيفري أن ثمار سياسة أقصى ضغط برزت من خلال تأثيرها على السلوك الإيراني ودعمها للجماعات الموالية في العراق وسوريا ولبنان. مع أن البعض يختلف مع جيفري في تحليله. ولعل الساحة التي كانت محلا لامتحان إستراتيجية ترامب هي العراق وسوريا. ففي سوريا دعمت إدارة ترامب تركيا لحرمان الأسد من الانتصار وإسرائيل لمنع إيران ولكن النتيجة كانت انسدادا في الأفق وحرب استنزاف ستظل متواصلة. وفي العراق حاولت الولايات المتحدة عزل جهودها ضد تنظيم “الدولة” الإسلامية عن معركتها الأوسع مع الجماعات الموالية لإيران والتي صعدت من حملتها ضد القوات الأمريكية في العراق بشكل قاد لاغتيال القائد العسكري وزعيم فيلق القدس قاسم سليماني، بداية العام الماضي. وردت إيران بشن هجمات بالصواريخ الباليستية بدون أن تؤدي إلى خسائر بين القوات الأمريكية بشكل أبعد شبح مواجهة شاملة بين أمريكا وإيران على الساحة العراقية. ولكن العراق ظل في مركز المواجهة بين واشنطن وطهران حيث ظل ترامب يهدد ويرسل البوارج والمقاتلات إلى منطقة الخليج لتحذير طهران من أي حركة ضد قواتها أو حلفائها. وردت إيران بدعوة قواتها الموالية في العراق لخفض التوتر حتى لا تمنح واشنطن الذريعة للضربة. وكما أظهرت تقارير في موقع “ميدل إيست آي” (5/1/2021) فالقائد الجديد لفيلق القدس الجنرال إسماعيل قاآني لم يكن قادرا على التحكم بالميليشيات الموالية لإيران أو لم يكن راغبا ببناء علاقات مع القادة المحليين. ولكنه اكتفى بإبلاغ قادتها بضرورة ضبط النفس. ورغم مطالبة البرلمان العراقي بسحب القوات الأمريكية خاصة بعد اغتيال سليماني إلا أن الأمريكيين لم ينسحبوا بالكامل ولا تزال ميليشيات مثل كتائب حزب الله تمثل تهديدا على القوات الأمريكية مما يعني أن العراق يظل بمثابة نقطة مشتعلة بين واشنطن وطهران. وظلت إستراتيجية أمريكا تجاه العراق تقوم على التهديد والضغط، التهديد بإغلاق السفارة الأمريكية لو لم يتخذ العراق الإجراءات الكافية ضد جماعات الحشد الشعبي وفرض عقوبات لو لم يوقف العراق استيراد الغاز والطاقة الكهربائية من إيران. وفي الفترة الأخيرة باتت إسرائيل تحول غاراتها نحو الحدود العراقية تحت ذريعة استهداف قوات القدس التي انتشرت على الحدود السورية- العراقية بعيدا عن إسرائيل. وأشار يوسي ميلمان في تقرير لموقع “ميدل إيست آي” (15/1/2021) إلى أن غارة الثلاثاء والتي خلفت 57 قتيلا حسب المرصد السوري لحقوق الإنسان في بريطانيا هي محاولة لزيادة الضغط على إيران ودفعها لتخفيض وجودها العسكري في سوريا وعدم سيطرتها على الحدود السورية مع العراق.

ولهذا وجد رئيس الوزراء العراقي نفسه أمام تحديات مفروضة عليه من الداخل، أي محاولة احتواء الحشد الشعبي الذي باتت بعض فصائله تلاحق المتظاهرين وتغتال الناشطين وإرضاء أمريكا ومنع أي مواجهة بينها والعراق على التراب العراقي. كل هذا وسط انتشار فيروس كورونا الذي لن يتوفر اللقاح ضده إلا الشهر المقبل. وكغيره من الدول الفقيرة فلن يكون العراق قادرا على تطعيم كل العراقيين إلا بعد عدة أشهر، هذا ان توفر المال لشراء اللقاح. ورغم خفوت وتيرة التظاهرات التي أطاحت بحكومة عادل عبد المهدي إلا أنها مستمرة وبشكل متفرق في الجنوب حيث يعاني من الفقر وقلة الخدمات. وشهدت مدينة الناصرية احتجاجات عنيفة بعد اعتقال قوات الأمن ناشطا عراقيا.

أزمة اقتصادية

ويواجه رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي عدة تحديات اقتصادية بسبب تراجع أسعار النفط العالمي وتراجع الطلب عليه، بالإضافة إلى ملف الجماعات الموالية لإيران وكون بغداد تتعرض لضغوط من الطرفين. وقالت صحيفة “نيويورك تايمز” (4/1/2021) إن العراق يواجه أكبر تهديد مالي منذ الإطاحة بالرئيس العراقي صدام حسين. ويعتمد اقتصاد العراق على نسبة 90 في المئة من موارد النفط مما عقد مهمة الحكومة العراقية لتوفير الرواتب للموظفين في قطاعاتها المختلفة ولعدة أشهر. وفي الشهر الماضي خفضت الحكومة من الدينار الدينار، لأول مرة منذ عقود، مما أدى لرفع أسعار كل شيء في بلد يستورد كل شيء. ولعدم قدرة العراق على دفع رسوم الكهرباء فقد قطعت إيران الإمدادات عنها حيث خيم الظلام على أجزاء من البلاد. ويحاول العراق الحصول على مصادر أخرى من الكهرباء عبر مشاريع لربط شبكاته مع الأردن أو التعاون مع مصر ولكنها تحتاج لوقت ولا يستطيع في الوقت الحالي فك اعتماده على إيران، وهو مطلب أمريكي مستمر، وورقة مساومة للإدارة في إستراتيجيتها لعزل طهران.

ويخشى العراقيون من تخفيضات قادمة فيما يحذر اقتصاديون من أوضاع خطيرة باتت فيها “النفقات أكثر من الدخل”. ولم يعد أحد راغبا في البيع أو الشراء. ورغم دهشة الكثير من العراقيين من تخفيض قيمة العملة العراقية إلا أن الأزمة الاقتصادية قديمة وتتراكم منذ سنين. وتبلغ رواتب القطاع الحكومي والمتقاعد 5 مليارات دولار في الشهر، وبالمقابل انخفضت موارد البلاد النفطية إلى 3.5 مليار في الشهر، وهو مبلغ غير كاف لتغطية نفقات القطاع العام الأكبر في البلاد. ولتغطية العجز اعتمدت الحكومة على الاحتياطي العراقي والذي يقول الخبراء إنه ليس كافيا. وفي كانون الأول/ديسمبر استنتج صندوق النقد الدولي أن الاقتصاد العراقي انكمش بنسبة 11 في المئة في عام 2020 وطلب من الحكومة العراقية تحسين أداء الحكم ومعالجة الفساد.

جيل ضائع

وعلى مدى السنوات الـ 18 الماضية استخدمت الحكومات المتعاقبة الموارد النفطية لبناء قاعدة دعم لها وتوزيع الوزارات والمناصب السياسية على الفصائل الموالية وأعطي الوزراء حرية واسعة لخلق الوظائف مما زاد من قطاع الخدمة المدنية لثلاثة أضعاف منذ عام 2004. واليوم تعتمد نسبة 40 في المئة من قوة العمل في العراق على رواتب الحكومة. وأدى توزيع الحصص وموارد النفط على الجماعات السياسية لإهمال البنية التحتية، وأضر فيروس كورونا بالقطاع الخاص وخسر العاملون فيه وظائفهم. ولعل أزمة الكهرباء التي يعاني منها بلد يعد من كبار منتجي النفط ومصدريه في العالم علامة على العجز والفشل الحكومي، فبدلا من توفير الطاقة عبر الشبكات الحكومية يستورد العراق الطاقة من إيران، وكان هذا العجز سببا في التظاهرات التي أطاحت بالحكومة السابقة. وعانى قطاع الطاقة من آثار ثلاث حروب خاضها العراق منذ الثمانينات من القرن الماضي حيث تم تدمير مصافي النفط والمنشآت الحيوية، لكن نخبة ما بعد الغزو الأمريكي الفاسدة شلت قدرة الحكومة على إصلاح قطاع الطاقة الكهربائية بشكل كامل. وهناك مشكلة أخرى تسهم في أزمة الكهرباء وهي أن معظم المحطات الكهربائية لا تشغل عبر النفط ولكن من خلال الغاز الطبيعي. وبالنسبة للعراقيين الذي لا يستطيعون الحصول على الطاقة الكهربائية من المولدات الخاصة، فانقطاع الطاقة وزيادة الأسعار يعتبران ضربتين موجعتين. ولا تتوقف مواجع العراق على الأسعار والكهرباء بل على أثار الحرب مع تنظيم “الدولة” الإسلامية، فقد تركت الحرب التي دمرت معظم مدن شمال العراق السنية، جيلا ضائعا من النازحين داخل بلادهم يعيشون في مخيمات متفرقة. وهناك أكثر من 60.000 مهجر في هذه المخيمات حيث أعلنت حكومة الكاظمي عن خطط لإغلاقها تحضيرا للانتخابات. وانتقدت منظمة “هيومان رايتس ووتش” إغلاق المخيمات بشكل يدفع إلى المزيد من الحرمان والتشرد والفقر. ويعتقد أن الكاظمي دفع بإغلاقها قبل الانتخابات المزمع عقدها في حزيران/يونيو المقبل. ومع أن عقد الانتخابات كان مطلب الحراك العراقي إلا أن دراسة مسحية أجراها المعهد الجمهوري الدولي في كانون الأول/ديسمبر كشف عن تشاؤم من وضع البلاد. وقالت نسبة 52 في المئة أن وضع الديمقراطية في البلاد “سيء جدا”. وقالت نسبة 86 في المئة أن البلاد تحكمها فئة قليلة. ووافقت نسبة 62 في المئة على أهمية المشاركة في الانتخابات. وعلى العموم فحزمة المشاكل التي عانى منها العراق في العام الماضي والسنوات التي سبقته ستظل تحوم حوله هذا العام، بمزيد من العراقيل والعجز عن تطبيق حكم القانون، وتحقيق العدالة للمهجرين الذين احتل أفراد الميليشيات بيوتهم ويمنعون من العودة إليها بتهم تعاطفهم مع تنظيم “الدولة”. ورغم إعلان العراق انتصاره على التنظيم قبل ثلاثة أعوام إلا أن من نجا من أفراده ينتظرون في الظل لأية فرصة. وفي ظل الوضع الإقتصادي فهناك المزيد من الفقر حسب برنامج التنمية التابعة للأمم المتحدة الذي قال إن تراجع أسعار النفط وكوفيد-19 يزيدان من مخاطر عدم المساواة. أما البنك الدولي فقد أشار في تقرير نشره في تشرين الثاني/نوفمبر 2020 إلى إمكانية مواجهة 5.5 مليون عراقي لخطر الجوع. والأخبار الجيدة هي أن العراق قد يجد مساحة للتركيز على مشاكله الداخلية مع وصول بايدن إلى السلطة ويخف عليه الضغط والتنمر الذي مارسته إدارة دونالد ترامب ووزير خارجيتها مايك بومبيو. وطالما لم تحل أزمة الفساد والمحسوبية فستستمر تظاهرات العراقيين المحبطين، خاصة أن سكان البلد من الأجيال الشابة أسوة ببقية الدول العربية. وستظل الانتفاضة المقبلة تنتظر من يشعلها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول نايف المصاروه. الأردن:

    هذه وعود أمريكا.. للعراقيين بالديموقراطية.. والحياة الفضلى…

    عندي سؤال.. لكل العراقيين… أيهما أفضل للعراق ولكل عراقي.. عهد صدام… أم ما بعده..

إشترك في قائمتنا البريدية