مرت على العراق مراحل مهمة ومفصلية من تاريخه من اواخر العهد الملكي الى العهد الجمهوري وما رافقه من تغيرات دراماتيكية سواء في العهد الجمهوري الاول الذي امتد من 14 تموز 1958 حتى 17 تموز 1968 ثم العهد الجمهوري الثاني الذي امتد حتى 30 تموز 1979 والعهد الجمهوري الثالث الذي لم ينته الا بالاحتلال الامريكي عام 2003 ومنذ ذلك التاريخ ولحد الان يعيش العراق في تيه لا مثيل له. لقد شهدنا وعايشنا النظام الدكتاتوري للشخص الواحد والرأي الواحد والقرار الواحد ورأينا بأم اعيننا الانهيار الاقتصادي والاجتماعي والحروب العدوانية طيلة اكثر من عقدين تمزق النسيج الاجتماعي العراقي فانتشرت الرشوة والمحسوبية والمنسوبية وضعفت مؤسسات الدولة. فضل الرئيس العراقي صدام حسين ان يجعل الدولة والمجتمع في خدمة مغامراته ورغباته الشخصية. بدأ ذلك العهد المشcوم بالحرب العراقية الايرانية التي لم تضع اوزارها الا بعد ثمان سنوات وتبعها بعد اقل سنتين غزو الكويت وما تبعه من قرارات ظالمة لم يتضرر منها غير الشعب العراقي سواء في ترسيم الحدود مع الكويت او الحصار الظالم الذي انهك قوى الشعب العراقي دون تمييز طيلة اثنتي عشرة سنة. ان الذي رسم معالم ذلك الحصار بالطبع الولايات المتحدة الامريكية وبريطانيا تحت عباءة الامم المتحدة وساهم في استمراره اضافة الى النظام العراقي نفسه كل من ايران والسعودية وتركيا وسوريا والاردن ومصر. لقد رأينا تفكك الدولة العراقية وضعفت اثر ذلك المؤسسات الصحية والتعليمية والخدمية وشاهدنا كذلك اضمحلال الارادة الوطنية التي لم تعد تسيطر الا على العاصمة وبعض المدن الكبرى مما سمح للامريكان والبريطانيين والاسرائيلين التدخل في الشأن الداخلي العراقي. فبدأنا نسمع لاول مرة اثر غزو الكويت بمشاريع الفيدرالية والتقسيم والاقاليم الشيعية والسنية والكردية بل طبق هذا المبدأ على الارض من خلال اقليم كردستان في ذلك الوقت وقد كان محميا من قبل طائرات الحلفاء من الامريكان والبريطانيين. وليعلم العراقيون ان معرب وبطل مشروع تقسيم العراق منذ التسعينات هو نفسه جوزيف بايدن نائب الرئيس الامريكي الحالي بالتعاون مع وزيرة الخارجية مادلين اولوبرايت وكل من موفق الربيعي واحمد الجلبي ومن لف لفهم. من جهة اخرى كانت تصلنا من العراق رسائل مقلقة جدا بعد ان ضاق الشعب العراقي ضرعا بسياسات النظام الرعناء وغير المسؤولة والتي لا تهتم بأنين الاطفال والمرضى والشيوخ والمعاناة اليومية للمواطنين وانغلاق كل الافق امام تطلعاتهم المستقبلية التي قد تؤمل الناس للخروج من المأزق الذي هم فيه والطريق المسدود الذي يعانونه. حتى بدأنا نسمع من يقول بأن بعض ابناء الشعب العراقي يريدون تغيير النظام حتى لو كان على يد الصهيوني شارون فالغريق لا يسأل عن هوية اليد التي تمتد لانقاذه. شهدنا وشهدت اجيال الستينات والسبعينات والثمانينات والتسعينات مرحلة الغزو الامريكي الذي حطم الدولة وفكك مؤسساتها. كالجيش والشرطة واشاع الفوضى الخلاقة وغير الخلاقة وانتهك الاعراض وهدم المرافق العامة والخاصة واسس لبدعة كان ينظر لها منذ اكثر من عقد من الزمان ويشعر ان الوقت قد حان لتطبيقها تهدف لتقسيم العراق على اسس قومية ودينية ومذهبية ومناطقية وحزبية. وتخلى الاحتلال عن كل وعوده وعهوده التي قطعها على نفسه وعلى حلفائه من العراقيين او غيرهم. لقد وقعت المعارضة العراقية المتأمركة في الفخ وبدأت تردد كالببغاء المصطلحات الامريكية الوافدة وشرعوا في التنظير الاسلامي وغير الاسلامي وبحثوا في بطون الكتب الفقهية لتبرير التقسيم القومي والمذهبي على اعتباره لا يتعارض مع الاسلام فظهرت على الملأ تنظيرات حول اهمية الفيدرالية والاقاليم وأقيمت ندوات كبرى حول ضرورة تأسيس البيت الشيعي وغيبت بصورة متعمدة هوية العراق العربية وتراجع مفهوم المواطنة لتحل محلها الهويات الفرعية المذهبية المناطقية الحزبية. بات العراقي غريبا في وطنه فاذا اردت وظيفة ما او اذا رغبت الدخول جامعة او ان اردت ان تفتح مصنعا فعليك ان تعرف نفسك مذهبيا او حزبيا او مناطقيا. فالهويات الفرعية بدأت تطغى على المواطنة ولم تتوقف على الشيعة والاكراد والسنة. ان الانقسامات اليوم توسعت اكثر مما مضى فهي الان ما بين الشيعة انفسهم وما بين السنة انفسهم وما بين الاكراد انفسهم من خلال الاحزاب والمرجعيات الدينية والمذهبية. الشيء المخزي والمؤلم بنفس الوقت ان هناك قطاعا فعالا في المجتمع العراقي هو الاخر همش ظلما وعدوانا رغم انه لا يشكل خطرا على المثلث السكاني التي جاء به الاحتلال واعوانه شيعة سنة اكراد. أنهم مسيحيو العراق الذين يمثلون الاصل الاصيل لهذا البلد فقد دفعوا نتيجة قلة عددهم او لعدم اعتمادهم على مليشيات او على أية قوة اجنبية ثمنا غاليا سواء من العمليات الارهابية او التهجير القسري على الرغم من خدماتهم الجليلة في بناء العراق الحديث. وكذلك الامر بالنسبة الى الصابئة، بل همش كذلك التركمان الذين يعدون بالملايين في بلدهم لان المعادلة الامريكية الطائفية القومية لا تسمح لهم الدخول في اللعبة بمرور السنين تجذرت الطائفية المذهبية السياسية وغير السياسية مجسدة في احزابها وشخوصها وكتلها ومرجعياتها فاصبحت ثروات العراق الغزيرة من النفط معول هدم وتدمير وموت ودماء للعراقيين بعد ان استحوذت عليها المليشيات والاحزاب مستغلة اياها في النهب والسرقة وشراء الذمم فتحولت الوزارات الى اقطاعيات خاصة وأصبحنا اقرب الى ملوك الطوائف قبيل انهيار الاندلس منه الى الدولة الحديثة. أضحى هم كل مجموعة حزبية جاءت مع الاحتلال الاستحواذ على اكبر قدر ممكن من المال العام حراما كان او حلالا لتوسع قاعدتها وتحاول ان تفرض واقعا على الارض شاء الاخرون ام ابوا وتراهن على كسب المزيد من الوقت لفرض قواعد قد تكون شاذة لحظة تطبيقها لكن الزمن كما تعتقد كفيل لاستيعاب الناس لها فيما بعد. لقد تأسست تلك الاحزاب منذ بداية تكوينها على اسس طائفية او عرقية مما جعلها تلغي بصورة مباشرة او غير مباشرة مفهوم الاغلبية والاقلية السياسية المعمول به في جميع الدول الديمقراطية. لقد تغير الزمن فنحن لسنا على استعداد ان نمر كما مر الفرنسيون ابان ثورتهم على الملكية كما ان الشعب العراقي لا يتحمل ايضا ان يمر بلده بحرب اهلية شبيهة بما حدث في امريكا. اليوم ونحن نقترب من العام الحادي عشر من احتلال العراق لا بد ان نميز بين الاولويات التي يجب معالجتها قبل غيرها وازعم واعتقد بأن اول الاولويات التي ينبغي العمل من اجلها هي تفكيك المحاصصة الطائفية لانها هي التي اوصلتنا الى ما وصلنا اليه من تخريب وسرقة وغش وخداع وتهجير وقتل على الهوية. لعل اولى خطوات الغاء الطائفية السياسية يمر عبر الاحزاب السياسية الحاكمة نفسها. ينبغي ان يدرك السياسيون العراقيون بأن البقاء على هذا الحال سيؤدي حتما الى التقسيم والتشتت وسيدفعون ثمنا باهظا لذلك فمن مصلحتهم ومصلحة العراق ان يراجعوا برامجهم اليوم قبل غد من خلال عمل تاريخي شجاع. يعلنون فيه تحويل احزابهم الى تنظيمات سياسية مدنية وطنية وتفك ارتباطها بالمذهبية والطائفية. لقد بلغ السيل الزبى ولا يمكن ان نخرج من عنق الزجاجة ما لم نعط لكل ذي حق حقه ويكون المعيار هو الكفاءة بغض النظر عن الدين والمذهب والقومية والحزب والمنطقة. من الضرورة ايضا بالمقام الاول ترسيخ العدالة الاجتماعية بين ابناء الشعب الواحد بعد فقر وجوع وتخلف وحصار في العهد البائد وعذاب ودماء ودموع وتهجير وقتل على الهوية وسرقة وفساد في العهد الحالي ألا يكفي ظلما طيلة ثلاثة وثلاثين عاما مضت فارحموا من في الارض يرحمكم من في السماء.
رحم الله، الهواشم، ملوك العراق.