لعل العراق واحدا من الدول القليلة في العالم التي ازدادت فيها العطل، الدينية منها خاصة، حسب الهوى السياسي وبسرعة كبيرة. فعطلة عيد الأضحى المكونة من اربعة ايام، عادة، صارت تسعة ايام، في عام 2011، مثلا، ارضاء للاحزاب السياسية المؤسسة على الطائفية لاغير. وتشير الدلائل الى ان ربع ايام السنة، حاليا، هو ايام عطل موزعة اما تحت مسميات دينية مختلفة تراوح ما بين ايام ميلاد ومقتل وزيارة أئمة آل البيت او العطل ذات العلاقة بالانواء الجوية. وبينما ترتبط عطل التغيرات الجوية بعدم توفير الخدمات الاساسية كالكهرباء وفيضانات المجاري وعقود الفساد المستشري، لا تخلو ظاهرة العطل الدينية من التسييس الممنهج للعادات والتقاليد الدينية، المرتبط ارتباطا وثيقا بحاجة التحالف الحاكم الى قاعدة شعبية ما كان بامكانه استقطابها بدون الارتكاز على الالتفاف المذهبي المستخدم طائفيا.
واذا ما وضعنا وجوب دفع الخمس جانبا حيث (يُقسَّم الخمس نصفين: نصف للإمام عليه السّلام ويلزم رفعه على الأحوط إلى المرجع الأعلم المطّلع على الجهات العامة أو وكلائه، وعليهم ان يصرفوه في موارد إحراز رضا الإمام)، باعتباره واجبا دينيا، واذا ما وضعنا مسألة الزيارة الى المراقد والأضرحة كتقليد موروث وحق من حقوق ممارسة الطقوس والشعائر الدينية، فان النظر الى صناعة السياحة الدينية يقتضي منظورا مختلفا، يجمع ما بين التجارة والاقتصاد لأنها تحتل مكانة مهمة كمورد مالي يعتبره البعض في المنزلة الثانية بعد النفط. هذا المنظور التجاري الاقتصادي هو الذي يقرب الطقوس الدينية كزيارة الائمة في الاماكن المقدسة من التوظيف السياسي ويبعدها عن الاحساس الفردي والجماعي الديني الخالص. ونرى ذلك بوضوح في الدول الرأسمالية حيث يتم استثمار المناسبات الدينية، بأيامها المعدودة، الى اقصى حد لتصبح مناسبة استهلاكية وسوقا للبيع والشراء باستحقاق. ويشكل عامل معدودية الايام الفرق بينها وبين العراق الذي زحفت فيه ايام ممارسة الطقوس الدينية لتحتل ما يزيد على ربع العام، مؤسسة بذلك لتعطيل العمل والتعليم والحياة، عموما، ولتكون عبئا على الاقتصاد لا عاملا لتحسينه وتنميته، في بلد يعاني مواطنوه من سوء الخدمات تعليما وصحة. وفي وقت تزداد فيه الهوة الطبقية ما بين الفقراء والاغنياء بشكل فاضح.
ولننظر الى الزيارات الدينية وكيفية تسيسها. أعلنت رابطة السياحة والفندقة في كربلاء، أن 55 ألف زائر عربي وأجنبي وأكثر من ثلاثة ملايين زائر عراقي أدّوا الزيارة الشعبانيّة الماضيّة في كربلاء. وفي خلال أربعينيّة الإمام الحسين السنة الماضية، زار كربلاء أكثر من 18 مليون شخص، من بينهم 350 ألف زائر عربي وأجنبي من 36 دولة مختلفة. وهي أرقام تثير الكثير من التساؤلات حول مقدار صحتها وبالتالي استغلالها السياسي الطائفي، خاصة وان عدد الفنادق في مدينتي كربلاء والنجف، حسب رئيس رابطة السياحة يبلغ نحو 500 فندق فقط. ورقم كهذا يسهل التحقق منه في غرف التجارة أو سجلات الدولة، بعكس عدد الزائرين.
واذا ما تركنا جانبا قلة عدد المرافق الصحية العامة التي لا تتسع عادة لسكان المدينة المقدسة عادة، وهم الذين عانوا الأمرين من فيضانات المجاري اثر سقوط الامطار في الاسابيع الماضية، لكان تساؤل البعض عن كيفية قضاء 18 مليون شخص لحاجاتهم الطبيعية، امرا يستحق النظر. وقد انتشرت، بعد الجدل المصري الحاد حول الاعتصامات المليونية في ساحة التحرير، حسابات مساحة الساحات العامة حسب غوغل ايرث. فقام احد الباحثين بحساب اطول المسافات بين طرفي المساحتين المحيطتين بمقامي الامام الحسين والامام العباس وهي 550 مترا وعرض الساحة الممتدة بينهما 130 مترا، وقدر عدد من يمكنهم الوقوف ملتصقين ببعضهم البعض بكثافة 4 أشخاص للمتر المربع، فتبين بانها تتسع لثلاثمائة ألف فرد. ومن الصعب قياس مساحة شوارع المدينة كلها، ولكن الافتراض الايجابي في هذه الحالة انها قد تسع عددا مشابها من الزوار إذا أمتلات، ليصبح الرقم الكلي ستمائة الف شخص.
وقد بدأ عدد من مجالس المحافظات، بالتنافس على إعلان عطل دينية جديدة. فلكل امام وولي من الاولياء محبوه، والرغبة في التقرب من الناس عبر مخاطبة المشاعر والعواطف سلاح فاعل في بلد يخفت فيه صوت العقل ازاء ضجيج المزايدات الطائفية السياسية.
ويمتد التشجيع الحكومي ابعد فابعد حيث يتم تكريس منح حكومية سخية بالاضافة الى الحزبية لكل من يقيم سرادقا او يطبخ طعاما او يوزع الماء والشاي لمسيرات الزوار. بالاضافة الى حجم الاستثمارات المحلية والاقليمية في بناء المشاريع وتوسعة رقعة المساحات المحيطة بالمراقد والحوزات وجعلها مناطق مغلقة، الى حد دعوة البعض الى استقلال المنطقة جغرافياً وأمنياً وأقتصادياً بتأثير من الأمانتين الحسينية ا يتم إدارتها بنفوذ ديني وسياسي لتكون مركزاً للقرار لما تحويه من مشاريع تجارية وفنادق ودوائر ومفاصل الدولة الأخرى تعود لأشخاص لهم نفوذ في هذه المنطقة مرتبطة بأروقة الحكومة والبرلمان وكبار مسؤولي الدولة لأغراض تجاريةب حسب موقع نقاش الالكتروني. وتتعدد اشكال المهن والحرف ذات العلاقة بالسياحة الدينية. فمن الدليل او متعهد الزيارة والفنادق وشركات السياحة الدينية الى باعة التربة الحسينية المستخدمة للسجود اثناء الصلاة (طين مجفف بالشمس يؤخذ من أرض كربلاء) والمسابح اليدوية والعطور الى طباعة كتب الزيارات والسرادق والاعلام والرايات والبيارق وهي اما مصنوعة محليا او مستوردة من ايران (ترواح اسعارها بين 80-100 دولار) والصين، وتصل أعدادها إلى أكثر من مليوني علم. وقد اخبر مسؤول وحدة الدوشمة والتطريز في العتبة الحسينية مراسل انقاشب أن تصنيع الرايات واللوحات المطرّزة هو لغرض الأستثمار حيث يكون البيع مباشرا عن طريق قسم الهدايا والنذور ويكون ريع أيراداتها لدعم مشاريع العتبة الحسينيةب.
وقد ادى انبثاق الهيئات الحسينية وتشكيل المواكب، بشكل لامثيل له، الى ما يشبه المباراة في كبر حجم الرايات وزخرفتها والانفاق على الاقمشة السوداء وخياطتها لتتماشى مع اجواء الحداد شبه المزمنة. وفي الفترات السابقة للانتخابات او لتبييض الوجوه يقوم كبار مسؤولي الدولة بتوزيع الرايات على الزائرين. ويتزايد عدد الزوار كلما اعلنت محافظة كربلاء عن معجزة جديدة تتعلق بالمكان وطقوسه. ففي 26 تشرين الثاني/نوفمبر 2012، مثلا، أبلغت الامانة العامة للعتبة الحسينية كافة وسائل الاعلام ‘لتصوير ونقل معجزة ظهور دم في قارورة وضع بها جزء من تراب قبر الأمام الحسين وهي معروضة في متحف الامام داخل الصحن الحسيني الشريف’ وقد سارع عدد من المسؤولين والساسة بزيارة القارورة وتأكيد ظهور المعجزة. ويشكل الايرانيون نسبة عالية من زوار المراقد وممارسي الطقوس وان كانت زياراتهم لاتتم بشكل فردي، كما غيرهم، بل عبر قوافل خاصة وتحت إشراف منظّمة الحجّ والزيارة التابعة للحكومة الإيرانيّة. مما يعني اعتماد السياحة الدينية العراقية على الإرادة السياسيّة والوضع الاقتصادي الإيراني. حيث ادى انخفاض قيمة العملة الايرانية بسبب الحصار الى تقليل عدد الزوار الايرانيين والتأثير على الوضع الاقتصادي في النجف مثلا. ومن جهة أخرى يزداد تذمر الناس من تعطيل الأعمال، مع أنهم بصرف النظر عن درجة تدينهم أو مذهبهم او دينهم، متسامحين الى أقصى الدرجات مع من يريد ممارسه طقوسه دون إيذاء الآخرين.
ان الاقتصاد الديني السياحي مهم بشرط ان يكون جزءا مكملا للاقتصاد السياحي العام، خاصة وان العراق يضم ما يزيد على العشرة آلاف موقع أثري، وبشرط ان تكون السياحة جانبا مكملا للاقتصاد الوطني العام والا أصبح اداة استغلال على كافة المستويات بضمنها الاستغلال العاطفي وشعبوية المشاعر. كما ان الحكومة التي تعتاش على عوائد النفط وحدها بلا مشاريع انتاج او صناعة وطنية او خطة للتنمية البشرية والاقتصادية، وبإرتكازها على قوى الإمن والشرطة والحمايات التي وصل مجموعها المليون من القادرين جسديا على العمل، تشبه بيتا يستند على اعمدة وهمية بلا اساس. ومصيره السقوط حالما تهب الرياح ومهما كان اتجاهها.
‘ كاتبة من العراق
لم تملي ولم تتعبي الله يعطيكي العافية يبدوا ان حبكي للعراق عارم واكبر من حب الكثير من رجال السياسة في العراق الحبيب
أستاذتنا القديرة…شكراً لمقالك المهم…في واقع الامر “أنفجار” السياحة الدينية في العراق بالذات جاء بعد “حرمان” بلغ أكثر من 30 عاماً من النظام السابق وأنت أعلم بتطرّف تصرفاتنا كشعب يحكمه المزاج و العاطفة في اَنٍ معاً.
أنا لا أعتقد أن موضوع السياحة الدينية سينفع الاقتصاد الوطني الذي يكاد أنتاجه التصنيعي أو الزراعي يقارب الصفر حالياً وذلك لانه مرتبط بشكل عام بالمراجع الدينية في كربلاء و النجف والكاظمين في بغداد.
مقاله رائعه ، ومعلومات مثيره للاهتمام فعلا .. الرجاء من الكاتبه القديره اذا امكن تزويدي بالمصادر التي اعتمدت عليها في تقدير اعداد الزوار واعداد الفنادق في كربلاء ، حيث ان تلك المعلومات مفيده جدا لي في دراستي ..
مع الشكر والتقدير
هديل فارس
باحثه في السياحه الدينيه