تحدثنا كثيرا عن خرافة استقلالية الهيئات «المستقلة» التي شكلها الأمريكيون في العراق بعد 2003، إذ يفترض أن ترتبط هذه الهيئات بعلاقة خاصة مع السلطتين التشريعية والتنفيذية، لكنها لا تتبعهما مباشرة، ولا تتلقى أوامر منهما! وقد أصدرت سلطة الائتلاف المؤقتة أوامر لتشكيل هذه الهيئات بينها «المفوضية العراقية المعنية بالنزاهة العامة» التي تشكلت بموجب الأمر رقم 55 لسنة 2004، والتي تغير اسمها لاحقا إلى «هيئة النزاهة» وهي «جهاز مستقل مسؤول عن تنفيذ وتطبيق قوانين مكافحة الفساد ومعايير الخدمة العامة».
وتبنى الدستور العراقي لعام 2005 هذه «الهيئات المستقلة» وأفرد لها بابا مستقلا بعد ذكر السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، وعد هيئة النزاهة ضمن الهيئات التي تخضع لرقابة مجلس النواب، ولا ترتبط بالسلطة التنفيذية كما هو الحال مع دواوين الأوقاف مثلا.
لكن النخب السياسية في العراق وأدت هذه الاستقلالية؛ فمفهوم السلطة في ذهن هذه النخب يعني السلطة المطلقة، لذلك احتكرت السلطة التنفيذية هذه الهيئات تدريجيا. ويتضح مسار هذا الاحتكار من خلال قرارات المحكمة الاتحادية المتناقضة؛ ففي العام 2006 ردت المحكمة الاتحادية على استفسار وجهه مجلس النواب العراقي حول الجهة التي ترتبط بها هيئة النزاهة بالقول: «إن الهيئة تخضع لرقابة مجلس النواب… [وهو] يملك لوحده محاسبتها» وأن «الهيئة تدير نفسها بنفسها وفقا لقانونها… دون تدخل من إحدى الجهات» (القرار288/ اتحادية/ 2006). لتعود المحكمة الاتحادية نفسها، بقضاتها أنفسهم، لتصدر في العام 2011 قرارا مناقضا تماما، بالتساوق مع صعود هيمنة رئيس مجلس الوزراء نوري المالكي، أطاحت فيه بالتمييز الموجود في الدستور العراقي حول حدود استقلالية الهيئات المستقلة، عبر تجريدها من صفة الاستقلالية بكل مطلق، واخضاعها جميعا لسلطة مجلس الوزراء (القرار 88/ اتحادية/ 2011)! لنصل إلى نسف المحكمة الاتحادية مفهوم الاستقلالية نفسه حين سمحت لأعضاء الأحزاب تولي إدارة الهيئات المستقلة. وأصرت على فكرة أن الاستقلالية لا تعني عدم الانتماء للأحزاب، بل تعني الاداء المستقل داخل المؤسسات (القرار 129/أتحادية/ 2017)!
ويفترض أن قرارات المحكمة الاتحادية أن تكون كاشفة وليست منشئة، وإلا تحولت إلى تشريعات وليس مجرد قرارات تتعلق بالتفسير أوالرقابة الدستورية. لكن التواطؤ الجماعي أتاح للسلطة التنفيذية السيطرة المطلقة على الهيئات المستقلة بمعزل عن قوانينها التي تمنع ذلك؛ فقانون هيئة النزاهة رقم 30 لسنة 2011 لايزال ينص على أنها «هيئة مستقلة» يشترط فيمن يرشح لرئاستها «أن يكون مستقلا لا ينتمي لأية جهة سياسية» (المادة 5/ سادسا)! ولكن الجميع يعلم أصبحت أداة سياسية من خلال تعيين شخصيات حزبية لرئاستها بخلاف ما يقرره القانون!
لكن الواقع مختلف تماما؛ فكل من تسلَموا هذه الهيئة، قبل تحولها إلى هيئة تدار من شخصيات حزبية، قد اصطدموا بالسلطة التنفيذية التي تمكنت من إزاحتهم من مواقعهم. فأول رئيس لهيئة النزاهة، والذي عينته سلطة الائتلاف المؤقتة 2004، أجبر على الاستقالة في 2007 ولجأ إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وقد اتهم رئيس مجلس الوزراء نوري المالكي أمام لجنة الرقابة الحكومية في مجلس النواب الأمريكي أنه يعرقل باستمرار التحقيقات في الفساد!
نحن أمام فضيحة تؤكد الطبيعة الكلبتوقراطية/ اللصوصية للنظام السياسي في العراق، وكيف أن التلاعب والانتهاكات والسرقات لا تظهر إلا عند تصادم السلطات أو الفاعلين السياسيين فيما بينهم
ثم تكرر الأمر مع الرئيس الثاني الأصيل للهيئة (الذي تسلم منصبه 2008 إلى 2011) فقد خرج هو أيضا باستقالة إجبارية، واصفا المالكي بأنه استخدم القانون والقضاء اللذين أخضعهما لمصلحته، وهو ما جعل القضاء العراقي يحكم عليه غيابيا بسبع سنوات سجن بتهمة إهانة القضاء العراقي رغم أنه كان هو نفسه قاضيا!
بعد هاتين التجربتين، تناوب على هيئة النزاهة 5 رؤساء عيِنوا في موقعهم كمرشحين لأحزاب أو فاعلين سياسيين، وهو ما عطل، عمليا، أي دور حقيقي لهيئة النزاهة في مكافحة الفساد، بل جعلها هي نفسها جزءا من بنية الفساد الحاكمة في العراق!
في 2022 عين رئيس مجلس الوزراء القاضي حيدر حنون رئيسا لهيئة النزاهة، وهو قاض سبق أن أعفاه مجلس القضاء الأعلى من منصب رئيس محكمة استئناف ميسان «لفشله في تلك المهمة بارتكابه عددا من المخالفات الإدارية والمالية التي أحيل بسببها إلى اللجنة الانضباطية في مجلس القضاء الأعلى لإجراء محاكمته عليها وفق القانون» وفقا لبيان الناطق الرسمي باسم مجلس القضاء الأعلى 2016! ليظهر الرجل لاحقا مرشحا لانتخابات مجلس النواب لعام 2018 ضمن تحالف الفتح الذي يرأسه هادي العامري رئيس منظمة بدر! ثم ظهر اسمه ثانية 2021 في بيان لمجلس القضاء الأعلى يعلن فيه توليه منصب رئيس محكمة استئناف ميسان ثانية!
يوم أمس الأول ظهرالقاضي حيدر حنون في مؤتمر صحافي في أربيل، مدافعا عن نفسه ضد تهم فساد موجهة اليه، ومتهما القاضي ضياء جعفر (المسؤول عن قضية سرقة القرن) بأنه أحال المتهم الرئيسي بالسرقة «نور زهير» على قضية واحدة هي تزوير صك، وأنه أخفى 113 قضية تزوير صكوك أخرى! وشكك ضمنا بقرار إطلاق سراح المتهم من خلال قوله: «نور زهير عبارة عن العربة التي حملت الأموال، إخراج نور زهير هو من صلاحيات القاضي ضياء جعفر ويجب أن يسأل عن قراره»!
كما اتهمه باخفاء قضية ثانية المتهم الرئيسي فيها «نور زهير» نفسه، وهي سرقة أرض مساحتها 724 دونم في منطقة شط العرب في البصرة، وفجأة تقرر نقل القضية إلى بغداد، وبالتحديد إلى يدي القاضي ضياء جعفر، ثم اختفت»!
واتهمه باخفاء قضية ثالثة هي سرقة الأمانات الجمركية والودائع الجمركية بوكالة مزورة وانتقلت هذه القضية أيضا من البصرة إلى بغداد واختفت هي الأخرى عند القاضي ضياء جعفر»! ثم اتهمه أيضا بعدم اتخاذ أي إجراء في سرقة سكك الحديد مع أن الخسائر التي ترتبت عليها قدرت بـ 18 مليار دولار (في هذه القضية بيعت سكك الحديد كلها) … وقال إنه قدم هذه القضية أيضا للقاضي ضياء جعفر، وعلى خطورتها، لم يتم أي إجراء بخصوصها!
قبل اسبوعين قلت في مقالة بعنوان «الفساد المحصن» أن مراجعة الوقائع المتعلقة بما أطلق عليه سرقة القرن تظهر أن هذه الفضيحة لم تكتشف إلاَ بسبب الصراع السياسي بين المتنفذين الكبار على حصصهم، وتظهر أيضا أن سلطات الدولة التنفيذية والتشريعية والقضائية، والمؤسسات المعنية بمكافحة الفساد (هيئة النزاهة وديوان الرقابة المالية) فضلا عن مصرف الرافدين والبنك المركزي، كلها كان لها دور مباشر أو ضمني في هذه السرقة، وفي محاولة التغطية عليها! وأشرنا إلى موضوع الأمانات الجمركية التي لم ترشح أي معلومات عنها حتى لحظة كتابة المقال، وإلى أنه ليس ثمة ضمانة على عودة المتهم الرئيس لحضور محاكمته، بعد أن أطلق سراحه، ورفع الحجز عن شركاته وممتلكاته، ورفع منع السفر عنه من دون مسوغات قانونية واضحة!
نحن إذا، مرة أخرى، أمام فضيحة تؤكد الطبيعة الكلبتوقراطية/ اللصوصية للنظام السياسي في العراق، وكيف أن التلاعب والانتهاكات والسرقات لا تظهر إلا عند تصادم السلطات أو الفاعلين السياسيين فيما بينهم على المصالح والاستثمارات الشخصية، ومحاولة كسر الأذرع بينهم!
كاتب عراقي