العراق: عندما يتم إغراق الدولة بالديون في صمت!

في هدوء وصمت، صوّت مجلس النواب العراقي في جلسته يوم الثلاثاء على قانون الاقتراض الخارجي والداخلي لعام 2020، وذلك بعد تواطؤ جماعي على عدم انجاز قانون الموازنة لهذه السنة. تماما كما حدث في العام 2014، حين سكت الجميع عن إلغاء إقرار الموازنة الاتحادية للدولة في تلك السنة!
ولم يناقش المجلس في هذه الجلسة، الأسباب الموضوعية التي تستدعي هذا الحجم الكبير من الدين الخارجي (5 مليارات دولار) والداخلي (15 مليار دولار)، أو على الأقل تخفيض حجم هذا الدين الذي ورد في مشروع القانون الذي تقدمت به الحكومة، وكل ما سعى اليه النواب هو تضمين هذا القانون مواد إضافية حرصا منهم على استقطاع جزء من هذا المبلغ (15٪ من إجمال المبلغ) من أجل دعم المشاريع الاستثمارية التي هي المورد الرئيسي للفساد، مع تضمينه فقرات تخدم مصالح فئوية هي بمثابة دعاية انتخابية من خلال الإصرار على أن يدفع جزء من هذا المبلغ كرواتب لعقود التوظيف، الزبائنية، التي جرى تمريرها في وزارة السيد عادل عبد المهدي!
لم يكلف نائب واحد نفسه عناء سؤال الحكومة عن مخاطر إضافة هذا الدين الكبير إلى مجموع الديون الخارجية والداخلية التي تثقل كاهل الدولة العراقية، بل تعامل نواب الشعب مع الأمر بالارتجالية وعدم المبالاة نفسها التي تعاملوا بها مع مسألة الدين الخارجي والداخلي خلال السنوات الماضية كلها!
فوفقا لأرقام البنك المركزي العراقي بلغت قيمة الدين الخارجي المعترف به 37 مليار دولار حتى نهاية العام 2019، يضاف إليها دين خارجي لدول الخليج، لا يزال موضع جدل، تزيد قيمته عن 41 مليار دولار! فضلا عن دين داخلي وصل إلى 34 مليار دولار. وكان يفترض أن تدفع هذه الأرقام الحكومة العراقية إلى التعامل بحذر مع مسألة الدين الخارجي على الأقل، والبحث عن وسائل أخرى أكثر نجاعة، ولكن هذا لم يحدث.
في السنوات الماضية كلها، وتحديدا بداية من عام 2006، تعاملت الدولة بارتجالية مفرطة، واستسهال غير مسوغ، في التعاطي مع مسألة الدين الخارجي والداخلي، ولم تكن الحكومة وحدها مسؤولة عن هذا الارتجال، بل مجلس النواب أيضا الذي كان يصوت على قانون الموازنة الاتحادية دون تحديد أو تدقيق جدي في مسألة الديون! ومراجعة قوانين الموازنة الاتحادية للسنوات 2006 ـ 2019 تكشف بوضوح عن هذه الحقيقة الصادمة!

لا يمكن اليوم أن نحلم بإصلاحات أو إعادة هيكلة اقتصادية في العراق مع هكذا سياسة مالية واقتصادية تتعامل مع المال العام بهذا الاستهتار والارتجالية، ومع الدين الخارجي والداخلي بهذا الاستسهال

والأمثلة على ذلك كثيرة، حيث تكشف مراجعة قانون الموازن لعام، 2006 مثلا، عن وجود دين خارجي للبنك الدولي قيمته 500 مليون دولار تم منحه في العام 2005، وللبنك الإسلامي بالمبلغ نفسه، منح للعراق في العام 2005 أيضا. ولكن بداية من العام 2007 و 2008 بدأ الحديث عن سندات دين داخلي من دون تحديد قيمتها! وهو ما يعني أن الحكومة العراقية كانت تلجا إلى الاقتراض الداخلي دون أن تدرج ذلك في قانون الموازنة الاتحادية! وهو ما دفع مجلس النواب إلى تضمين قانون الموازنة الاتحادية للعام 2009 مادة تنص على أنه « لا يحق للحكومة ممارسة نشاط الدين الداخلي عن طريق إصدار سندات إلا بعد استحصال موافقة مجلس النواب بالأغلبية المطلقة لعدد أعضائه»! ولكن بداية من عام 2010 بدأت الحكومة العراقية في الاعتماد على الاقتراض الخارجي والداخلي بشكل كبير لتمويل العجز في الموازنة. ومراجعة قانون الموازنة لعام 2010 تكشف لجوء العراق إلى دين خارجي يبلغ 9.8 مليار دولار دفعة واحدة من صندوق النقد الدولي (4.5 مليار دولار)، و(2 مليار دولار) من البنك الدولي، واستخدام حقوق السحب الخاص من احتياطي صندوق النقد الدولي SDR (2.8مليار دولار)! والأخطر من ذلك أن مجلس النواب أعطى صلاحية مطلقة للحكومة بالاقتراض الداخلي بموجب حوالات الخزينة دون تحديد مبلغ أو سقف هذا الدين! وقد وجدنا الأمر نفسه يتكرر في قانون الموازنة لعام 2012 و 2013 الذي أتاح، مرة أخرى، للحكومة الاقتراض الداخلي بموجب حوالات الخزينة دون تحديد قيمة هذا الدين، أو تحديد سقف له!
مع موازنات السنوات 2015 و2016 و2017 و2018 أصبح اللجوء إلى الاقتراض الخارجي والداخلي لتغطية عجز الموازنة غير مفهوم إطلاقا، وقد كشفت عنه الأرقام المتعلقة بحجم هذه الديون الخارجية؛ ففي موازنة عام 2017 على سبيل المثال، تضمن قانون الموازنة الاتحادية قروضا خارجية من كل من: البنك الدولي 1.5 مليار دولار، وصندوق النقد الدولي 2.٪ مليار دولار، والوكالة اليابانية للتعاون الدولي 1.5 مليار دولار، ثم قروض ضمان من بريطانيا وفرنسا وكندا بقيمة 700 مليون دولار، وقرض من الاتحاد الأوربي بقيمة 100 مليون دولار، وقرض من البنك الياباني للتعاون الدولي بقيمة 500 مليون دولار، وقرض من البنك الدولي لدعم المناطق المحررة بقيمة 140 مليون دولار، وقرض أمريكي بقيمة 2.7 مليار دولار، وقرض بريطاني بقيمة 100 مليون دولار، وقرض صيني بقيمة 2.5 مليار دولار، وقرض ألماني 500 بقيمة مليون دولار، وقرض سويدي بقيمة 150 مليون دولار، وقرض البنك الإسلامي للتنمية بقيمة 800 مليون دولار، وقرض إيطالي بقيمة 160 مليون دولار! بالإضافة إلى دين داخلي يزيد عن 8 مليارات دولار!
وقد ترافقت هيستيريا الاقتراض الخارجي والداخلي هذه، مع استنزاف كبير للاحتياطي النقدي في البنك المركزي العراقي! فقد تم استخدام هذا الاحتياطي النقدي في «صمت»، وبتواطؤ الجميع، لينخفض هذا الاحتياطي، من 81.6 مليار دولار في نهاية العام 2013، إلى 43 مليار دولار فقط نهاية العام 2016. وكان من الملفت آنذاك أن الحكومة العراقية في مذكراتها إلى صندوق النقد الدولي، كانت تعترف صراحة أنها تعمد إلى تمويل العجز في الموازنة الاتحادية «من خلال سحب مبالغ كبيرة من الاحتياطات الرسمية للعملة الأجنبية» كما ورد في مذكرة رفعها وزير المالية في 22 كانون الأول/ ديسمبر 2016!
لا يمكن اليوم أن نحلم بإصلاحات أو إعادة هيكلة اقتصادية في العراق مع هكذا سياسة مالية واقتصادية تتعامل مع المال العام بهذا الاستهتار والارتجالية، ومع الدين الخارجي والداخلي بهذا الاستسهال.

كاتب عراقي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    المشكلة الإقتصادية بالعراق بعد الفساد هي بالرواتب الفلكية التي تدفع لمن هب ودب بدون أي إعتراض من مجلس النواب!
    أما المتقاعدون الحقيقيون فيوزع عليهم الفتات بعد إستقطاع نسبة من رواتبهم بعدة حجج واهية!! ولا حول ولا قوة الا بالله

  2. يقول مواطن صالح:

    مثال فردي من متعدد للاستعمار الاقتصادي للبنك الدول لمن لا يملك ارادته من الدول الهشة.

  3. يقول S.S.Abdullah:

    من وجهة نظري عقلية الموظف وربطها مع عدم الإحساس بالانتماء أو بأي مسؤولية، تؤدي إلى على أرض الواقع، ما ورد تحت عنوان (العراق: عندما يتم إغراق الدولة بالديون في صمت!) والأهم هو لماذا؟!

    أول سؤال يا (د يحيى الكبيسي): هل يحق إلى أي رئيس أن يصدر قانون، يسمح بالدين، داخلياً أو خارجياً،

    والسؤال الثاني هل الرئيس العراقي، الذي هو منصب رمزي، أي بلا صلاحيات مثل صلاحيات رئيس الوزراء على الأقل، حق قانوني أو دستوري، حتى يُصدر هذا القانون؟!

    فمن يضحك على من، أو من هو أخبث مِن مَن، وعلى حساب من هذا الغش، للدائن الداخلي أو الدائن الخارجي، لسرقة أمواله بالمحصلة، لتسديد ما تحتاجه أي ميزانية من أموال قبل أو أثناء أو بعد كورونا في عام 2020؟!??
    ??????

  4. يقول ابو عبدالله:

    نقتبس من المقال”لا يمكن اليوم أن نحلم بإصلاحات أو إعادة هيكلة اقتصادية في العراق مع هكذا سياسة مالية واقتصادية تتعامل مع المال العام بهذا الاستهتار والارتجالية، ومع الدين الخارجي والداخلي بهذا الاستسهال.”…استاذ يحيى من جاء به الاحتلال بعد 2003، هو اداة هدم ، ولم يكونوا ولن يكونوا ، ادوات بناء في يوم من الايام، يعني بالتعبير العراقي، الي جاؤنا بعد 2003 جايين يبوكون (يسرقون) مو يبنون ، والدليل على ما اقول ، ان ارصدتهم ، واستثماراتهم ، وممتلكاتهم ، وعوائلهم ، كلها خارج العراق ، فهؤلاء على يقين بانهم سراق ، وان هناك ساعة حساب قادمة لامحالة ، ولذلك فقد استعدوا لتلك الساعة، اما بالنسبة لتدوير الدين بدل حل المشكلة ، فالاقتراض يعني ضمان استمرار السرقة ، اما التفكير بالحل فبكل بساطة يعني توقف السرقات ؟ لذلك الافضل للحرامي هو استمرار السرقة…وهؤلاء بيدهم السلطة ، وهم من يقرر الاصلح لهم وليس للبلد…والا كيف تفسر لي : عشرين برلماني عراقي يتعالجون حاليا بالاردن من كورونا؟ كان بامكان كل واحد منهم من الفلوس المنهوبة يبني مستشفى بالعراق؟

إشترك في قائمتنا البريدية