العراق: هل انتهت القصة بإعدام الرئيس؟

يقول العالم الأسكتلندي جيمس جورج فريزر، إن بعض المجتمعات البدائية كانت تقتل الحاكم إذا أظهر بعض الضعف بسبب كبر سنه، كي تنتقل روحه إلى خلفه، لأن حالة الحاكم الفكرية والجسدية، كانت تعكس دائما حالة هذه المجتمعات. فمن قتل صدام حسين؟ هل المجتمع أم سلطة العهد الحالي أم الولايات المتحدة؟ ولماذا؟
مرت قبل أيام الذكرى الخامس عشرة لإعدام الرئيس العراقي الراحل صدام حسين. وكما في كل مرة يتبارى القوم بين من يحتفي بالذكرى باعتبارها نصرا لهم، ويذهبون لتعداد مساوئ كثيرة ينسبونها للرجل، وآخرين يرون فيها جريمة كبرى، ويذهبون لتعداد صفات حميدة وأفعال خيرة قام بفعلها خلال فترة حكمه. ومع أن اليقين الذي يتمسك به المنصفون من الناس، هو أن التاريخ هو الفيصل في هذا الموضوع، لكن البعض اعتادوا أن يطلقوا الأحكام مأخوذين بالهوى، وبذلك يقعون في المحذور منه وهو، أن «عين الرضا عن كل عيب كليلة وعين السخط تبدي المساويا». كما أن الفريقين ينسون بأن الحُكم فعل بشري يقبل الصواب كما يقبل الخطأ، وأن التقييم الموضوعي والعادل يمكن الحديث عنه وتحقيقه، خاصة أننا في العصر الحديث عصر العقل والفكر، الذي لا يقبل بفكرة أن السلطة هي ظل الله في الأرض، وهي منزّهة عن كل عيب، كما يفضح الكذب والتدليس والتزوير أيضا. وبغض النظر عن هذا الجدل القائم على تعداد المساوئ وتعداد المحاسن، يمكن القول إن المجتمع كان مُغيّبا تماما عن هذه الواقعة، فلم يكن ما حصل نتيجة ثورة شعبية، أو حتى انقلاب عسكري، بل نتيجة غزو واحتلال أتى بسلطات يصنفها قانون العقوبات العراقي، بأن أغلبهم تخابروا مع الخارج، وعملوا تحت أمرته، ويُشرع لهم عقوبة الإعدام. فكيف يمكن الركون إلى من صنّفه القانون خائنا لبلده وشعبه، أن يشكل محكمة ويكون حكما فيها؟ وإذا كان البعض يقول إن الاحتلال هو الذي أوعز بإعدام الرجل، وليس السلطات الحاكمة، إذن كيف يمكن القول إن المحاكمة والحُكم مضيا في طريق العدالة؟ أليس الطرفان في خصومة مع الرجل؟
لقد قيل الكثير في أسباب واقعة الإعدام، حتى إن البعض كان يُراهن على أنها لن تقع، لكن المعطيات التي سيقت كمبررات للغزو، كانت تعطي مؤشرات واضحة على أن الإبقاء على حياة الرجل شيء مستحيل، فكما ثبت أن أسلحة الدمار الشامل لم تكن موجودة، وكانت لعبة دولية كبرى، وأن العلاقة بين النظام وتنظيم «القاعدة» كانت فرية، لغرض إشراك العراق بمسؤولية أحداث 11 سبتمبر/أيلول، وعليه لا يمكن إبقاء الرجل على قيد الحياة، فانكشاف التزوير في مبررات الغزو في ظل وجود الرجل حيا، يختلف تماما عن انكشافها وهو ميت. صحيح أن الولايات المتحدة كانت متفردة في قيادة العالم تلك الفترة، وتستطيع فعل كل شيء، لكن ظهور التزوير والكذب إلى العلن يحرجها أمام الرأي العام، ويضعها أمام إشكالية كبرى، متمثلة في أن الرئيس والنظام السياسي اكتسبا الشرعية على مدى أكثر من أربعين عاما، وبالتالي هي حاولت قتل أي حديث أو مطالبة باتجاه إعادة النظام السياسي الشرعي، وهنا يمكن الإشارة إلى ما حدث بعد الإطاحة بالنظام الملكي في العراق.. تقول الوثائق البريطانية، إن حكومة المملكة المتحدة بعثت برقية إلى سفارتهم في بغداد، تطلب الرأي بشأن التحرك لإعادة الشرعية بالتعاون مع أحد أقطاب الحكم، فجاء جواب السفارة أن الثلاثة الكبار قد قتلوا، والمقصود الملك والوصي ورئيس الوزراء، وبذلك ألغت بريطانيا فكرة التدخل لإعادة الشرعية الملكية، لأنه لم يعد أحد من رؤوس النظام الملكي موجودا.

انكشاف التزوير في مبررات غزو العراق في ظل وجود صدام حسين حيا، يختلف تماما عن انكشافها وهو ميت

هنالك سبب آخر فرض على الأمريكيين إعدام الرئيس، وهو أن خطة الغزو كانت تقوم على تدمير الدولة العراقية وليس النظام وحسب، والدلائل التي تؤكد هذا الاتجاه، أنها أسست الحكم على أعمدة هوياتية صغرى وليس هوية وطنية. كما أنها سمحت للعدو الإيراني بالتغلغل وبسط سيطرته على البلاد، كذلك استهدفت المؤسسات والأجهزة التي تمثل القوة الصلبة للدولة، وهي الجيش والأجهزة الأمنية والاستخباراتية وقامت بحلها، ولان مؤسسات صنع القرار في الولايات المتحدة وبريطانيا، تعرف جيدا أهمية الرمزية في تشكيل المجتمعات الشرق الاوسطية، وأن غياب الرمزية التي يمثلها رأس الدولة يعني اضمحلال الدولة، كما غياب رئيس القبيلة يعني تبعثر القبيلة، وغياب حتى رب العائلة يعني تشظيها في بعض الأحيان، فقد ذهبت للقضاء على الرئيس كي تنتهي من هذا الكيان المسمى الدولة العراقية.. الآن دعونا نتساءل هل انتهت القصة بإعدام الرئيس؟
يقينا لا، لم تنته القصة بتلك الواقعة، يقول الرئيس الفرنسي الراحل جاك شيراك، قلت لبوش إنك ستحقق نصرا سهلا وستحتفي بذلك، لكنك أنت وجنودك ستدفعون ثمنا غاليا من التضحيات في العراق، ولن تنتهي القصة كما تريدون. المشكلة أن الولايات المتحدة كذبت على نفسها، وعلى حلفائها في الغزو، عندما تصورت أن بإمكانها تشكيل واقع يقول بوجود طبقة سياسية تابعة لها في الجزء العلوي من الدولة، تستطيع أصطحاب العراقيين إلى نمط سياسي واجتماعي وفكري هي من تريد تشكيله، لكن تبين أنها ووكلاءها اصطحبوا العراقيين في جولة من القتل والتدمير والإقصاء، والجوع والحرمان والتهجير، والأمية والتخلف الاجتماعي والكوارث الاقتصادية والفساد والسرقات، وإنهم يفعلون ذلك مرة بعد مرة، من دون البدء في إعادة ولو جزء يسير من المعايير الاخلاقية إلى السياسة، إلى أن ألقوا بالبلد والشعب كله تحت الحافلة. لقد انتهكوا كل القواعد السياسية والأخلاقية والتربوية والإنسانية والدينية عن عمد، وسخروا من كل التضحيات والدماء التي سقطت على أرض الوطن، ما أدى إلى تحطيم اليقين الذي كان يتمسك به الناس في كل شيء، وغابت الثقة تماما بكل من هو في الجزء العلوي من الدولة والسلطة. اسألوا رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء ورئيس البرلمان ورئيس السلطة القضائية.. اسألوا المراجع الدينية التي تفتي وتتحدث في شؤون الوطن وتحث الناس على الانتخابات.. اسألوهم جميعا من هو القادر منهم على تولي القضايا الأكثر إلحاحا التي تواجه البلد؟ ببساطة لا أحد منهم يستطيع تقديم أي شيء أو دفع أي ضرر أو جلب أي منفعة، وبذلك بات الخيار الوحيد والصحيح والأخلاقي المتبقي لهم هو الاختفاء من المشهد.
أليس من العار على طبقة سياسية تتولى المسؤولية لمدة 18 عاما، أن يسمعوا أبناء شعبهم يمجدون علانية بشكل واضح لا لبس فيه في الفضائيات، نظاما سياسيا ورئيسا أعدموه، في حين ادعوا أنهم حرروهم منه؟ أي ضحالة سياسية وسقوط أخلاقي ذلك الذي وقعت فيه الولايات المتحدة وبريطانيا وبقية الحلفاء عندما قالوا إنهم محررون، في حين يرتكبون هم وعملاؤهم المجازر يوميا في العراق؟ ما الذي كسبه العراقيون في الجنوب الذي كان أصحاب السلطة يتاجرون بهم تحت شعار المظلومية؟ ألم يخرجوا في ثورة تشرين مطالبين بوطن فقتلوا منهم أكثر من 800 شاب؟
كاتب عراقي وأستاذ في العلاقات الدولية

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول د. مثنى عبداللله:

    خالص الود والتقدير لجميع القراء وخاصة الذين وضعوا تعليقا على المقال. لكني أود التوضيح للاخ الكروي وسعادة فلسطين من الصين , أنا لم أبدي أي رأي بشان الرجل في المقال لاسلبا ولاأيجابا ولم أقارن كما ظن الكروي . أنا فقط وضعت تحليلا عن أسباب أعدامه لا أكثر ولا أقل . لذا أرجو فراءة المقال كما هو…مع التقديير

    1. يقول الكروي داود النرويج:

      لم أكن أقصدك يا دكتور حفظكم الله!
      كنت أقصد بالمقارنة بين السيئ والأسوأ البعض ممن يقارنوا بين صدام وهؤلاء!!
      المفيد هو بمقارنة بين العهد الملكي الدستوري الديموقراطي وبين عهد العسكر والدم والإحتلال!! ولا حول ولا قوة الا بالله

    2. يقول سعادة فلسطين الصين:

      ‏بكل مودة دكتور مثنى . و مرة أخرى، ‏برأيي المتواضع اعتقد أن هناك ‏سبب آخر للإسراع في اتخاذ قرار إعدام الرئيس لم ينتبه إليه كثيرون ، وهو مسألة بدأت ملامحها تظهر في الشهور الأخيرة من محاكمة الرئيس، ‏ولنتذكر أن المحاكمة استمرت ثلاث سنوات وهي ليست فترة قصيرة عموما، ‏وهي ان بعض محبي الرئيس بدأوا يحبونه اقل وكارهيه بدأوا يكرهونه اقل ، ‏وذلك لأنهم ايضا بدأوا ‏ينتبهوا ‏إنما يجمع كلا الطرفين وهو الوطن الأم العراق اكبر من الرئيس و أكبر من أي النظام السياسي الحاكم برمته ، ‏وهذا على الأغلب ما لم يرق إلى بعض القوى الرئيسية في الطبقة السياسية الحاكمة في ذلك الوقت ، ‏لان ذلك كان سيضع قيودا وقواعد ديمقراطية جديدة في الحكم لم يكونوا راغبين في الالتزام بها . وهنا المفارقة ان مسؤولية نسبية اكبر تقع على طرف محبي الرئيس الذي كان الحاكم الفعلي في البلد لاكثر من ثلاث عقود ، ‏وهي أن هدف بناء الهوية الوطنية العراقية الجامعة تفرض عليهم التضحية قليلا وأن يحبونه اقل .

  2. يقول S.S.Abdullah:

    من هنا ضحك على من، أو من كان أخبث مِن مَن، بين الشعب والحاكم، أو بين ممثلي (آل البيت) كسلطة إدارة وحوكمة، وبين (شعب الرّب المُختار)،

    هو أول ما خطر لي عند قراءة ما نشره (د مثنى عبدالله) تحت عنوان (العراق: هل انتهت القصة بإعدام الرئيس؟)، في جريدة القدس العربي، البريطانية، والأهم هو لماذا، وما دليلي على ذلك؟!

    ما معنى الإدارة، وما معنى الحوكمة، وما الفرق بين أتمتة الإدارة، وبين أتمتة الحوكمة، في أي دولة في الشرق مثل الصين أو اليابان، أو الغرب مثل روسيا أو فرنسا أو أمريكا؟!

    ثم الآن في عام 2022، تشغيل الآلة بواسطة الكهرباء أرخص، أم تشغيل الآلة بواسطة مواد الطاقة أرخص،

    وبعد الأتمتة للإدارة والحوكمة، هل نحتاج إلى موظف مسؤول أم يكفينا ذكاء الآلة ( ممثلاً في برامج الترجمة الآلية من أجل البحث في غووغل/بينغ وغيرها من مكتبات الخبرة والحكمة الإنسانية، في أي مضمار) مستقبلاً؟!??
    ??????

  3. يقول سفيان عبد الوهاب:

    الوضع الحالي للبلد خير دليل على إفلاس كل اعداء النظام السابق وفسادهم. لا مقارنة اصلا. رحم الله صدام حسين.

  4. يقول ابراهيم خليل:

    الدولة العراقية سقطت في17تموز و ما نشاهده اليوم هو تداعيات حزب البعث او الحكام الصدامي الأرعن ولذلك يجب أن تعترف بأن السقوط الحالي هو امتداد لحقبة البعث الفوائد

    1. يقول عبله وعنتر:

      ردا على ابراهيم خليل
      هذا فساد مستشري في العراق ولا دخل لصدام فيه
      صدام كان ظالم وليس فاسد
      ملالي الدين اللي تفننو في الفساد

  5. يقول Yuyu:

    عفيه كاتب محايد . القتل والتدمير للعراقيين والتكنولوجيا وضخ الاموال
    لليابان وكوريا الجنوبيه وخطه مارشال
    لاعاده بناء اوروبا بعد الحرب….هكذا
    هم الاميركان ضد كل ماهو اصيل عربي و/او مسلم

  6. يقول أسامة كلّيَّة سوريا/ألمانيا:

    شكرًا أخي مثنى عبد الله. حاولت أن أنظر إلى الحالة السورية اليوم من منظار الحالة العرلقية حتى اليوم. الجيش السوري الحر برغم كل مساوءه طبعًا في الصراع مع النظام ومحاولته التغيير في سوريا، اشترط محاربة النظام ورفض العمل مع الأمريكان لمحاربة داعش دون ربط ذلك بمحاربة النظام، لكن الأمريكان لم رفضوا. ومع أن النطام السوري استخدم الأسلحة الكيملئية والقى البراميل المتفجرة على المدن وعلى الأحياء ودمرها فوق رؤوس الناس العزل وفعل ماشاء بالشعب السوري. لكن كما نرى بشار الأسد حامي حدود إسرائيل كان الخط الأحمر الفعلي. وهو طبعًا من حلفاء إيران كما حلفاءها في العراق. ماتبقى واضح للجميع في الحقيقة لماذا بقي بشار وتم احتلال العراق. مع أنه من الواضح أن لا أرى أي فرق بين نظام البعث السوري والعراقي فكلاهما لايستحق إلا جهنم في الدار الأخرة وفي الدنيا كذلك.

  7. يقول منصور الكبير - الجزائر -:

    من قتل صدام حسين؟ أو بالأحرى من إغتال مشروع مجتمع عراقي متطور و دولة قوية بمؤسساتها ؟ . سؤال عميق يا أستاذ تكتنفه صعوبة في الإجابة الصحيحة ، ربما و الله أعلم أن أخطاء الرئيس العراقي كثيرة و غير مسموحة ، إنتهزها المتربصون للقضاء على العراق ، فرغم النية الحسنة و العمل الصادق للرئيس العراقي إلا أنها لا تكفي .. في عالم تحكمه المصالح الإقتصادية ،، فالمرّجح أن صدام حسين هو الذي جنى على نفسه بنفسه بغير قصد .

  8. يقول انا لله وانا اليه راجعون:

    لا اريد الخوض في تفاصيل المقال
    مع قرأتي له مرتين بدل المره الواحده
    مع كل تأكيد مني على كل كلمه فيه

    ولكن ما جذب انتباهي
    القول بأن الشهيد صدام حسين المجيد
    كان ظالمآ او دكتاتوريآ !!!!!!!!!!!!!

    بأختصار القول اقول انا لله وانا اليه راجعون

    فليس اكثر من هذا عُقمٍ فكري

    فلو تابعنآ جيدآ جلسات محاكمة الشهيد صدام حسين المجيد
    الهزليه و المحسومه مسبقآ كـ نتيجه

    لعلمنا من هو صدام حسين
    ولتيقنا بأن الرجل كان بالمعنى الحرفي حاكم
    وبأنه خير عادل
    اخبروني اين هي الدوله التي يذهب المواطن فيها الى قصر الحاكم
    و يقابله في يومه ويوصل
    مظلمته للحاكم
    ويأخذ حقه
    و امام الحاكم
    وفي اقرب وقت اذ
    لم يكن في نفس اليوم
    لم يحصل هذا ولا في بلد
    ولا في دولة تدعي الديمقراطيه
    وتمارس القتل والظلم في نفس الوقت
    امريكا لا لا لم يحدث هذا في البيت الأسود

    فالنفيق من سُباتنا
    ولن نفيق. دام اننا نصدق انفسنا بالكذب
    على انفسنا
    و بعضنا
    انا لله وانا اليه راجعون
    والحمدُ لله ( خير امه اخرجت للناس )
    .

  9. يقول Raed Aldubouni:

    أحسنت ..مقال صادق ورائع ودقيق التشخيص …بارك الله فيك .

1 2

إشترك في قائمتنا البريدية