العراق وأسطورة انتهاء معاهدة لوزان

حجم الخط
10

مع اقتراب تموز/يوليو 2023 تتصاعد في صفحات التواصل الاجتماعي ومجموعات الواتساب أسطورة أو خرافة مفادها أن معاهدة لوزان التي وقعتها الجمهورية التركية مع دول الحلفاء بعد الحرب العالمية الأولى، سوف ينتهي العمل بها، لأن صلاحيتها تنتهي بعد مرور 100 عام على توقيعها، الذي تم في يوليو 1923، وتعزو نظرية المؤامرة لهذه المعاهدة عدة نقاط لم تتضمنها فقرات الاتفاقية المنشورة والمتوفرة في شبكة الانترنت بالعديد من اللغات بينها العربية.
من النقاط التي يروجها المنادون بنظرية المؤامرة حول انتهاء العمل بمعاهدة لوزان، أنها ضمت في مقرراتها بنودا مجحفة مثل: أن مصطفى كمال رئيس الجمهورية التركية الوليدة حينذاك قد تنازل عن أراضي الدولة العثمانية في البلقان والشرق الأوسط وشمال افريقيا، وأنه خضع لضغوط الأوروبيين فألغى نظام الخلافة الإسلامية، ونفى الخليفة الأخيرالسلطان محمد السادس، الذي عزله البرلمان الجمهوري الجديد عام 1922، ومن ثم تم إعلان علمانية الدولة الجديدة في دستور عام 1924. أما في الجانب الاقتصادي فيدعي مروجو نظرية المؤامرة تلك، أن معاهدة لوزان منعت الدولة التركية من التنقيب عن الثروات الطبيعة كالنفط والغاز في أراضيها.
في الجانب العراقي من أسطورة «نهاية معاهدة لوزان» يمكننا القول إن الأمر يتمحور حول ما عرف تاريخيا بـ(قضية ولاية الموصل) التي حصل عليها نزاع قانوني بين المملكة العراقية الوليدة، التي تم وضعها تحت الانتداب البريطاني، والجمهورية التركية. نزاع حدودي تحول إلى نزاع قانوني بين البلدين أحيل إلى لجان تابعة لعصبة الأمم المتحدة لحله، كما تمت استشارة محكمة العدل الدولية وخبرائها للتوصل إلى حل سلمي للنزاع. يمكننا أن نشير إلى أن بين العرب فريقين يروجان لنظرية مؤامرة «نهاية معاهدة لوزان» ومساعي تركيا أردوغان للسيطرة على المناطق التي كانت خاضعة للدولة العثمانية، أولهما فريق من خصوم الإسلام السياسي المدعوم تركيا، يحاول أصحابه تسويق فكرة البعبع التركي المقبل عام 2023 الذي سيعيد احتلال مناطق الشرق الأوسط التي كانت تابعة للعثمانيين إلى تركيا المعاصرة، وسيتم ذلك بغزو تركي بانت بوادره في التدخل التركي في سوريا والعراق وليبيا، وهذا الأمر يتعكز على وقائع موجودة على الأرض، لكنه في حقيقته يمثل نوعا من حرب التحشيد الإعلامية وتضخيم الأخطار، حتى إن كان ذلك عبر ترويج نظريات المؤامرة. أما الفريق الثاني، فهو بعض تيارات الإسلام السياسي العربية، التي أصبحت ذات هوى وميول عثمانية أكثر من السلطان العثماني، فهم يحلمون بعودة الخلافة، ويدعون لذلك من دون مواربة، ويهاجمون علمانية جمهورية أتاتورك، ويروجون الاتهامات لمؤسسي الدولة التركية الحديثة، على إنهم سبب النكسة الإسلامية، لذلك ينشرون نظرية «نهاية معاهدة لوزان» ويبشرون بعهد عثماني جديد مقبل.

عندما دخلت تركيا التفاوض في معاهدة لوزان خرجت بنتائج مشرفة مقارنة بمعاهدة سيفر، واستعادت الكثير من أراضيها، وتم ترسيم كل حدودها، إلا الحدود العراقية

عندما نتمعن في وقائع مجريات الأحداث يمكننا التأكد من أن ما حدث مختلف تماما عما يروجه أصحاب نظرية المؤامرة، وما يلصقونه بـ»معاهدة لوزان» من صفات سلبية، فالدولة العثمانية التي خرجت مهزومة من الحرب العالمية الأولى، كان حالها كحال حلفائها في الحرب: الامبراطورية الألمانية وامبراطورية النمسا والمجر، هذه الأمبراطوريات الثلاث المهزومة، تعرضت للاحتلال من جيوش الحلفاء، وبالتالي تفتت وتقاسمها المنتصرون، وقد وافقت حكومة الداماد محمد فريد، أخر رئيس وزراء في عهد السلطان محمد السادس العثماني، على معاهدة سيفر عام 1920، وكانت معاهدة مذلة تم توقيعها، والجيوش البريطانية والفرنسية واليونانية تسيطر على مختلف أرجاء الدولة العثمانية، وبضمنها العاصمة إسطنبول، تاركين للأتراك مساحة صغيرة في هضبة الأناضول ليقيموا فيها دولتهم، إلا أن الأحداث اللاحقة التي عرفت في التاريخ التركي الحديث بحرب التحرير، غيرت مجريات الواقع على الأرض بين 1920 و1923 على يد الجنرال مصطفى كمال، الذي أطلق عليه الاتراك لقب (أتاتورك) أي أبو الأتراك، الذي حاكم أفراد حكومة الداماد محمد فريد بتهمة الخيانة العظمى، وعزل آخر سلاطين العثمانيين، وأعلن الجمهورية التركية عام 1923، وأعلن علمانية الدولة وإنهاء نظام الخلافة عام 1924
للنهوض بالدولة الوليدة
وعندما دخلت تركيا التفاوض في معاهدة لوزان خرجت بنتائج مشرفة مقارنة بمعاهدة سيفر، واستعادت الكثير من أراضيها، وتم ترسيم كل حدودها مع الدول المجاورة بناء على ما ورد في فقرات معاهدة لوزان، إلا الحدود العراقية التي أشارت لها المعاهدة بالفقرة التالية:»ترسم الحدود بين تركيا والعراق وفق ترتيبات ودية يتم إبرامها بين تركيا وبريطانيا في غضون تسعة أشهر، وفي حالة عدم التوصل إلى اتفاق بين الحكومتين خلال الوقت المذكور، يحال النزاع إلى مجلس عصبة الأمم، وتتعهد الحكومتان التركية والبريطانية بشكل متبادل، بأنه ريثما يتم التوصل إلى قرار بشأن موضوع الحدود، لن تحدث أي تحركات عسكرية أو تحركات أخرى قد تعدل بأي شكل من الأشكال الحالة الحالية للأراضي التي سيعتمد مصيرها النهائي على هذا القرار».
في 30 أيلول/سبتمبر 1924 قررت عصبة الأمم، تأليف لجنة دولية لتقديم المعلومات والاقتراحات الخاصة بقضية الموصل، التي تساعد مجلس عصبة الأمم على إصدار قراره في حل المشكلة الدولية بين العراق وتركيا. وصلت لجنة تقصى الحقائق الدولية إلى الموصل في 27 كانون الثاني/يناير 1925، وبدأت أعمالها على نطاق واسع، إذ قامت بمسوح ميدانية في مختلف مدن نواحي وأقضية لواء الموصل، كما أجرت اتصالات عديدة مع السكان للتعرف على رغباتهم وآرائهم حول مستقبل منطقتهم. وفي 19 آذار/مارس 1925 أنهت اللجنة أعمالها وقررت مغادرة العراق إلى جنيف حيث مقر عصبة الأمم المتحدة، وقدمت تقريرها في 16 يوليو 1925 عن «قضية الموصل»، وقد أوصت فيه بعدم تقسيم ولاية الموصل التي تشمل حاليا محافظات نينوى وأربيل ودهوك والسليمانية وكركوك، واقترحت اللجنة ضم ولاية الموصل إلى العراق، والتأكيد على دور الانتداب البريطاني في تهيئة البلد حتى يحظى بسيادته الكاملة ويصبح عضوا في المنظمة الدولية في غضون 25 عاماً، مع مراعاة رغبة الأكراد في ما يتعلق بإشغال الوظائف في الإدارة والقضاء والتعليم. وفي 16 كانون الأول/ديسمبر 1926 أقر مجلس عصبة الأمم، بقاء ولاية الموصل ضمن حدود العراق، واعترفت الجمهورية التركية بالقرار الدولي، كما ألزمت عصبة الأمم بريطانيا بعقد معاهدة جديدة مع العراق. إن أي مراجع لبنود اتفاقية لوزان لن يجد أية إشارة إلى مدة المعاهدة، أو تحديد صلاحيتها بـ100عام، لكن هل يعني كل الكلام أعلاه نفي التدخلات التركية في دول المنطقة؟ بالتأكيد لا، لأن تركيا تعد دولة كبيرة إقليميا ولها مصالحها وأجنداتها السياسية في المنطقة، لذلك نجد الأتراك يتدخلون ويضغطون سياسيا من أجل مصالحهم الاقتصادية، وتحديدا من أجل الحصول على اتفاقات مناسبة في قطاعات الطاقة التي تتعطش لها أنقرة. كذلك هناك الملفات الساخنة التي أفرزت تدخلا عسكريا تركيا في دول الجوار الإقليمي، أبرزها مناطق شمال سوريا وشمال العراق، التي تسعى أنقرة لأن توجد فيها شريطا حدوديا عازلا تحت سيطرتها يحميها من هجمات حزب العمال الكردستاني المعارض، وكذلك لخلق منطقة تفصل بين كردستان العراق وسوريا من جهة، وكردستان تركيا وطموحها في الحصول على حكم ذاتي، والذي يمثل ورقة تهديد كبرى بالنسبة لأنقرة. وعلى الصعيد الاقتصادي تسعى حكومة حزب العدالة والتنمية، التي تمسك بالسلطة في أنقرة منذ عشرين عاما، إلى فرض سطوة تركيا في حقول غاز شرق المتوسط، لأنه يمثل منطقة الخلاص التركي في مجال الطاقة، التي تسعى أنقرة جاهدة للاستثمار فيه، لأن هذا الأمر سيمثل إنقاذا من الكثير من التبعات السياسية المرتبطة بملفات الطاقة.
كاتب عراقي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    لننتظر ونرى !
    فهذا التأريخ يراه الأتراك عليه كثيراً لعدة أسباب !! ولا حول ولا قوة الا بالله

    1. يقول محمد شهاب احمد:

      ستُبدي لك الأيامُ ما كنت جاهلاً
      و يأتيك بالأخبار من لم تزوّد!

      مع تحياتي

  2. يقول Omar Ali:

    مقال جيد. أدعو السياسين الاتراك ان يفكروا مليًا. العالم تغير والعراق كان عضوا في عصبة الامم وهو من الدول المؤسسة للامم المتحدة. وان اعادة الامجاد الإمبراطورية كما تفعل روسيا اليوم في اوكرانيا سيجلب الدمار للجميع. في نفس الوقت ارحب كل.الترحيب بالتعاون وتعزيز الارتباطات بين الدول الاسلامية ولكن عن طريق المساواة بين الدول والشعوب الاسلامية.

    1. يقول من الححاج الى بريمر:

      الكلام والواقع يختلفان، في ظل تعددية طائفية وقومية وعشائرية قد يكون هناك “عصية” على الأمريكان والانكليز من قبل بعض، ولكن مع هؤلاء الغربيين والصفويين قلبا وقالبا وفي مقدمة جحافلهم وعلى ظهور دباباتهم من قبل بعض آخر. ما يتأمل هو ليس حسب الأهواء والتنطع، ولكن ما فيه مصلحة للبلاد والعباد في الدنيا والآخرة. “وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان” والشقاق والنفاق.

  3. يقول ??أبو تاج الحكمة الأول: هدهد الأناضول وارث الخاتم النبوي الشريف /باريس Abu Taj Al-Hikma I: The Hoopoe of Anatolia the inheritor of the noble Prophet’s seal / Paris:

    بسم الله الرحمن الرحيم
    العثمانية الجديدة قادمة بلا شك في نظري حيث تم التمهيد الرباني لذلك بتركيا المتزعمة للمحور السني والمتصالح مع المحور الشيعي في إيران وكذلك النهضة الصناعية والتجارية والحربية المذهلة.
    قدوم العام 2023 الموعد الذي به تزول العقوبات الدولية على السلطنة العثمانية كما يتيح لها استخراج ثرواتها
    تركيا 2023هي: تركيا العظمى على الخريطة العالمية وسيظهر ذلك مكتوبا على وجه العملة الوطنية التركية وجواز السفر التركي والطوابع التركية و المصنوعات الصادرة من تركيا وإن كانت الدول الكبرى لن تسمح لها بالانضمام للدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي لكنها ستبقى دولة عظمى فريدة

  4. يقول تاريخ حروب الغرب وأتباعهم:

    تصفيق للورنس وغيرترود بل Grtrud Bell وبلفور وهيرتزل وسايكس بيكو ولوزان وبقية الأشخاص والمعاهدات!

  5. يقول محمد شهاب احمد:

    مقال أرجو أنه يضع النقاط على الحروف …
    لا أعرف مدى صحة ما يقال أنه لا يزال هناك بند في ميزانية تركيا السنوية “لولاية الموصل” للتدليل على تمسّك تركيا بعائدية الولاية لها …

    1. يقول الكروي داود النرويج:

      ستُبْدي لكَ الأيّامُ ما كنتَ جاهلاً
      ويأتِيكَ بالأخبارِ مَن لم تُزَوِّدِ

      ويَأتِيكَ بالأخبارِ مَنْ لم تَبِعْ له
      بَتاتًا، ولم تَضْرِبْ له وقتَ مَوعِدِ

      طرفة بن العبد

      مع تحياتي دكتور

  6. يقول سلام عادل _المانيا:

    الا اذا أرادت تركيا ان يكون مصيرها كما مصير. عراق صدام بعد غزوه الكويت او مصير روسيا حاليا حيث ستحاصر بعقوبات ومهما يكن فالعراقيون سيحاربون معهم الاكرادوهناك النجف ومر جعيته

  7. يقول ابن بغداد:

    شكرا للكاتب المحترم السيد الطائي على هذا المقال، راجياً ان يساهم ولو قليلاً في دحض نظريات المؤامرة المبنية على جهل بالتاريخ والتي تروج لها جهات وافراد على علم ودراية وتتابع نشرها الجموع عن جهل وقلة وعي.
    ذكرني ما كتبته بما يكتبه الكثير من العرب بمن فيهم بعض كثير من العراقيين عن احتلال عربستان/خوزستان من قبل ايران متجاهلين عن ما حصل فعلا عام ١٨٣٤ عندما وقعت الامبراطوريتان العثمانية والفارسية اتفاقية ارضروم الثانية حيث تبادلا عن طيب خاطر اقليم خوزستان مقابل سنجق السليمانية… وبذلك تخلص العثمانيون من اقليم بعيد ذو مذهب معارض وحصلت بالمقابل على اقليم قريب سني المذهب، والعكس بالعكس مع الدولة الفارسية. راجيا من الكاتب المحترم ان ينورنا وينور الجمهور بهذا الموضوع في احدى مقالاته القادمة…

إشترك في قائمتنا البريدية