قلنا في مقال سابق إن الفاعلين السياسيين الشيعة القابضين على السلطة في العراق، يستخدمون الأساليب نفسها التي استخدمها نظام البعث في بناء جمهورية الخوف، وذلك عبر تخادم نظام كلبتوقراطي/ زبائني شكلته أوليغارشية تستخدم القانون والقضاء والميليشيات المسلحة من أجل فرض الإذعان على الجميع، ومنع أي مظهر من مظاهر المعارضة والاحتجاج والنقد.
في تشرين الأول عام 2019، انطلقت حركة احتجاج واسعة، والملاحظة الأولى في هذه الاحتجاجات أنها كانت شيعية بالأساس؛ ذلك أنه لم يعد متاحا للجمهور السني القيام بأي حركة احتجاجية بعد ما تعرض له من تنكيل حين قام بحركته الاحتجاجية نهاية عام 2013 ضد السياسات التمييزية والطائفية التي اعتمدتها الدولة العراقية (وليس الحكومة وحدها) يومها، فأي احتجاج بعد ذلك كان يقابل القائمون به بالتهم الجاهزة: بعثيون أو دواعش، ويُهدر دمهم، ويلاحقون من القانون والقضاء اللذين يستخدمان في العراق كأدوات سياسية للعقاب!
مع ذلك تعاملت الدولة مع حركة تشرين بوحشية مفرطة؛ فقد استخدم الرصاص الحي في مواجهة المحتجين، كما استخدمت قنابل الدخان كأسلحة للقتل من خلال إطلاقها بشكل أفقي، فضلا عن عمليات الدهس المتعمد، والإخفاء القسري. وخلصت إحصائية رسمية أعلنتها لجنة حكومية أن قرابة 560 ضحية قد سقطوا في تلك الاحتجاجات، إضافة لوجود جثث أخرى لم يُتعرف على أصحابها، وفي المؤتمر الصحافي الذي أعلن تلك النتائج، تحدث مستشار السيد رئيس مجلس الوزراء عادل عبد المهدي حينها، عن لجنة تقصي حقائق ستتولى التحقيق في هذه المقتلة، ولكن تلك اللجنة لم تتشكل، ولم تعلن أي نتائج أخرى! وقد أصدر المرصد العراقي لحقوق الانسان تقريرا بعنوان «احتجاجات تشرين: شهادات وأرقام» كشف فيه أن عدد الضحايا بلغ 624 ضحية، 48٪ منهم سقطوا في بغداد.
أما عدد الجرحى فكان صادما (حسب ما أعلنته جنين هينيس بلاسخارت رئيسة بعثة الأمم المتحدة في العراق في إحاطتها في مجلس الأمن في كانون الأول 2019) فقد بلغ عددهم 19 ألف جريح، وقد أشارت المفوضية العليا لحقوق الانسان في العراق إلى أن أكثر من 3 آلاف منهم قد أصيبوا بعاهات دائمة نتيجة بتر الأطراف أو فقدان البصر أو إصابات أخرى.
وفي آخر تقرير صدر عن منظمة العفو الدولة في أيلول 2024 قالت المنظمة إنه بعد خمس سنوات على تلك الاحتجاجات، لا يزال مناخ الإفلات المستحكم من العقاب والمصحوب بافتقار السلطات العراقية للإرادة السياسية لتحقيق العدالة والكشف عن الحقيقة، هو سيد الموقف وأن الدولة العراقية فشلت في تحقيق المساءلة وسط مناخ من الخوف!
في يومي 22 و 23 تشرين الثاني 2024، عقدت الجامعة الأمريكية في دهوك مؤتمرا بعنوان «مفارقة السلام في الشرق الأوسط» وسط حضور سياسي وأكاديمي عراقي وأجنبي واسع، إذ كان من بين الحضور رئيس الجمهورية السيد عبد اللطيف رشيد، ورئيس مجلس النواب محمود المشهداني، والسيد مسعود البارزاني ورئيس حكومة إقليم كردستان. وفي إحدى جلسات اليوم الثاني تحدث الزعيم السني خميس الخنجر عن أزمة الدولة العراقية، أزمة النظام السياسي، وعن دروس داعش التي لم يتعلمها أحد، وأنه لا يمكن الحديث عن سلام أو استقرار وتنمية دون معالجات حقيقية لهذه الأزمات.
في اليوم التالي للمؤتمر، قامت هيئة المساءلة والعدالة بإرسال كتاب إلى المفوضية العليا المستقلة للانتخابات/ دائرة الأحزاب، تصف فيه المتحدث بأنه «متهم» بجرائم خطيرة متعددة لما قاله في ذلك المؤتمر!
والواقع أن إرسال هذا الكتاب هو في حد ذاته انتهاك لقانون الهيئة وتصرف خارج اختصاصاتها المحددة وصلاحياتها القانونية؛ فبموجب قانون «حظر حزب البعث والكيانات والأحزاب والأنشطة العنصرية والإرهابية والتكفيرية رقم 32 لسنة 2016» فإن دائرة الأحزاب في مفوضية الانتخابات هي المسؤولة حصريا عن «مراقبة ومتابعة الأحزاب والكيانات والتنظيمات السياسية والتحقق من عدم ممارستها أي من الأنشطة المحظورة بموجب هذا القانون». لكنَ هيئة المساءلة والعدالة «تبرعت» بهذا الكتاب، الأمر الذي يعكس استهدافا سياسيا واضحا كُلفت به الهيئة من أطراف سياسية معروفة للجميع!
لم يعد للمواطن العراقي اليوم إلا أن يكون مستكينا للطبقة الأوليغارشية القابضة على السلطة، ومذعنا تماما لها فأي خروج على هذا الإذعان، سيواجه بقسوة مفرطة قنصا أو اغتيالا أو اخفاء قسريا
فالهيئة ترى أن ينتقد سياسي «سني» في مؤتمر سياسي الانقلاب على المبادئ الدستورية الحاكمة… والمحاولات المنهجية لاستخدام القانون كأداة سياسية، والمحاولات المنهجية لتقويض النظام الفيدرالي في العراق، والمحاولات المنهجية لتحويل العراق إلى دولة دينية ذات هوية مذهبية أحادية، والمحاولات المنهجية لبناء دولة موازية مسلحة ذات طبيعة عقائدية لضمان هيمنة تلك الهوية الأحادية، والمحاولات المنهجية لاحتكار المجال العام لصالح سردية أحادية وتسويقها على أنها «الحالة الطبيعية» والمحاولات المنهجية لصناعة جمهورية خوف ثانية تسحق كل المكتسبات التي تحققت بعد عام 2003، في مجال حقوق الإنسان والحريات العامة فإن هذا في نظر الهيئة هو عمل محظور « كونه يمثل خطابا طائفيا وعنصريا من شأنه تقويض النظام السياسي في العراق والمساهمة في تأجيج وتحريض النعرات الطائفية»!
ولا تكتفي الهيئة بذلك، بل اعتبرت أن المتحدث مجد تنظيم داعش حين قال في مداخلته إن «داعش نتاج «لأزمة احتكار السلطة ونتاج لغياب مفهوم الأمن الجماعي» وإن ذلك يمثل جريمة لأن المتحدث «لم يصف داعش بأنها عصابات إرهابية وبرر جرائمها الإرهابية المرتكبة في العراق! وهو ما يستوجب تطبيق أحكام المادة 10 من قانون حظر حزب البعث التي تعاقب بالسجن لمدة تصل إلى عشر سنوات «كل من انتهج وتبنى العنصرية أو التكفير أو التطهير الطائفي أو التطهير القومي أو حرض عليه أو مجد له أو حرض على تبني أفكار أو توجهات تتعارض مع مبادئ الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة»!
والحقيقة أن الهيئة بتصرفها هذا، تثبت أن كل ما قاله المتحدث كان دقيقا تماما، حول استخدام القانون في العراق بطريقة ملتوية كأداة سياسية، وما ذكره من احتكار المجال العام لصالح سردية أحادية وتسويقها على أنها «الحالة الطبيعية» وصناعة جمهورية خوف لا تتيح لأحد الاحتجاج ورفض الأمر الواقع القائم!
وبسبب من هذه الممارسات، لم يعد للمواطن العراقي اليوم إلا أن يكون مستكينا للطبقة الأوليغارشية القابضة على السلطة، ومذعنا تماما لها فأي خروج على هذا الإذعان، سيواجه بقسوة مفرطة قنصا أو اغتيالا أو اخفاء قسريا، أو حكما قضائيا مرتجلا يستند إلى مدونة قانونية شمولية.
أما سياسيا فالأمر أشد تعقيدا في سياق الدولة الطائفية التي أنتجت طبقة سياسية يقف الفاعل السياسي الشيعي المسلح على رأسها، في حين يصطف «الآخرون» وفقا لمستوى إذعانهم، ويقف السياسيون السنة، في قاع هذا التصنيف، وأي خروج عن التبعية للفاعلين السياسيين الشيعة، والإذعان المطلق لهم، سيواجه بالإقصاء وسيل من الاتهامات المرسلة!
كاتب عراقي