هذا الأسبوع استمع العراقيون إلى تصريح متكرر للمرجع الشيعي الأعلى السيد علي السيستاني، عند لقائه بالممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة في العراق، تحديدا في إشارته إلى «تحكيم سلطة القانون وحصر السلاح بيد الدولة». بعدها بأيام صدر بيان عن هيئة الحشد الشعبي تحدث عن تنفيذ «معاونية الاستخبارات والمعلومات سلسلة من العمليات النوعية تكللت بالنجاح من خلال تنفيذ أوامر قبض واعتقال بحق «29» متهما بالانتماء والترويج لحزب البعث المحظور» ودعت الى الإبلاغ عن «الحالات المشبوهة» مع التأكيد على «أن هوية المتصل ستبقى طي الكتمان والسرية»!
لا يمكن فهم التناقض الصارخ بين الأمرين إلا في دولة فاشلة مثل العراق، حيث علاقات القوة تحكم كل شيء، وحيث التواطؤ الجماعي مع انتهاكات الدستور والقانون هو الأصل!
منذ إعلان فتوى «الجهاد الكفائي» في حزيران/ يونيو 2014 التي نصت على أنّ «المواطنين الذين يتمكنون من حمل السلاح ومقاتلة الإرهابيين دفاعا عن بلدهم وشعبهم ومقدساتهم عليهم التطوع للانخراط في القوات الأمنية». والتي استخدمها الفاعل السياسي الشيعي لشرعنة وجود ميليشيات مسلحة خارج نطاق القوات العسكرية والأمنية الرسمية، والسيد السيستاني يدعو إلى ضرورة حصر السلاح بيد الدولة وأجهزتها الرسمية، من دون أن يستمع اليه أحد!
على سبيل المثال لا الحصر فقد صدر بيان بعد يوم واحد من إعلان الفتوى دعا إلى «ضرورة الاجتناب عن المظاهر المسلحة خارج الأطر القانونية». ثم تضمنت أول خطبة جمعة بعد الفتوى تأكيدا على أنها «للانخراط في القوات الأمنية الرسمية وليس تشكيل ميليشيات مسلحة خارج إطار القانون» وفي خطبة الجمعة يوم 4 تموز/ يوليو 2014 كان هناك تأكيد على «ضرورة تنظيم عملية التطوع وإدراج المتطوعين ضمن تشكيلات الجيش والقوات الأمنية الرسمية وعدم السماح بحمل السلاح بصورة غير قانونية» وفي خطبة يوم الجمعة التالية كان هناك حديث صريح عن عدم قبول فكرة تشكيل الحشد الشعبي نفسه، من خلال التأكيد على «عدم السماح بوجود مجموعات مسلحة خارج الأطر القانونية تحت أي صفة أو عنوان»! وعلى الرغم من ذلك كان الفاعل السياسي الشيعي ينفذ على الأرض خطته المنهجية لتشكيل دولة موازية عبر شرعنة ميليشيات كانت قائمة قبل الفتوى، والسماح بتشكيل ميليشيات أخرى، كلاهما له مرجعياته الدينية والسياسية ولا يأتمر بأوامر الدولة بالمطلق!
وحتى بعد تشريع قانون هيئة الحشد الشعبي في نهاية العام 2016، والذي عمد إلى شرعنة وجود هذه الميليشيات بعد أكثر من سنتين ونصف على عملها على الأرض، وتمويلها من المال العام، من دون أي إطار قانوني يسمح بذلك، لم تستطع الدولة العراقية أن تحتكر سلاح الميليشيات، أو تحتكر السلطة عليها! وهو ما اضطر كلا من رئيسي مجلس الوزراء الأسبقين حيدر العبادي وعادل عبد المهدي إلى إصدار أوامر ديوانية لفك ارتباطها بمرجعياتها السياسية والحزبية والدينية والاجتماعية، وضمان السلطة الفعلية عليها، ولكنها فشلا في تحقيق ذلك!
إن مراجعة الوقائع على الأرض تكشف أن استخبارات الحشد، وأمن الحشد، ومنذ مدة ليست بالقصيرة، يمارسان أدوارا تضاهي ممارسات السلطات الأمنية في أي دولة شمولية
هكذا كانت تتمأسس الدولة الموازية التي شكلتها هذه الميليشيات، خاصة بعد أن تمكنت الرئيسية منها، وبخلاف القانون، من أن تكون لها تمثيل في مجلس النواب، وفي الحكومة. بل استطاعت بعد انتخابات العام 2021 أن تسيطر على مجلس النواب والحكومة معا.
وكان من بين أدوات هذه المأسسة تجاوز الإطار القانوني الحاكم لها، والذي وصف هيئة الحشد الشعبي بأنها «تشكيل عسكري» وأنها «جزء من القوات المسلحة» وأنها تتكون من قيادة وهيئة أركان وصنوف وألوية مقاتلة» لتتحول إلى جهاز استخباري (استخبارات الحشد) وأمني (أمن الحشد) ينازع الأجهزة التابعة للحكومة صلاحياتها، بل أصبحت لديها سجونا وقضاة تحقيق خاصة بها (قاضي الحشد) من دون أن يكون هناك أي إطار قانوني يسمح بهذا التغول سوى قوة السلاح من جهة، والتواطؤ الجماعي مع هذه الانتهاكات من جهة ثانية!
إذ ما كان بإمكان ذلك أن يمر من دون تواطؤ الحكومة وأجهزتها التي سمحت بهذه الانتهاكات، ومن دون تواطؤ القضاء الذي كان وما زال يتعاطى مع أجهزة غير قانونية، ويقوم بتنسيب قضاة للنظر في الدعاوى غير القانونية التي تتولاها هذه الأجهزة غير القانونية، وفي أماكن غير قانونية للاحتجاز من الأصل!
بالعودة إلى بيان هيئة الحشد الشعبي، سنجد أنه لم يتحدث فقط عن تنفيذ أوامر «إلقاء قبض» بل عن «اعتقالات» وهذا يعني القاء القبض على أشخاص من دون مذكرات رسمية، وهو ما يفضح طبيعة التغول الذي بدأت تمارسه هذه الأجهزة غير القانونية، لضمان مأسسة جمهورية الخوف التي يسعون اليها، ولضمان سطوتهم على المجتمع، ليس السياسية فقط، بل العقائدية أيضا! ففي بيان صادر عن هيئة الحشد الشعبي في أيلول/ سبتمبر 2022 ذكرت أنها ألقت القبض على «44 متهما من الجماعات الدينية المنحرفة، وفقا لمذكرات قضائية» وهذه المجموعات هي مجموعات شيعية لديها تأويلاتها الخاصة عن التشيع ولم تنتهك القانون من الأصل (في الوقت نفسه تدعم هذه الميليشيات جماعات سنية لها تأويلاتها الخاصة عن التسنن لأغراض سياسية ولا تعدها منحرفة)!
إن مراجعة الوقائع على الأرض تكشف أن استخبارات الحشد، وأمن الحشد، ومنذ مدة ليست بالقصيرة، يمارسان أدوارا تضاهي ممارسات السلطات الأمنية في أي دولة شمولية، وإن أجهزة الدولة المعنية بالضبط القضائي تخلت عن مسؤولياتها القانونية لهذه الجهات غير القانونية أصلا، وهي تستخدم هذه السطوة لأغراض سياسية ومالية (تتعلق بالابتزاز والتمويل) أكثر من ارتباطها بضمان الأمن الذي هو ليس من سلطتها أواختصاصها أصلا!
لم يعد موضوع ميليشيا الحشد الشعبي يتعلق بحصر السلاح بيد الدولة، بل بحصر إلقاء القبض بيد الأجهزة الأمنية المكلفة بذلك قانونا. وحصر الحجز في الأماكن القانونية التابعة للدولة (وهما وزارة العدل ووزارة الداخلية حصرا) وحصر التحقيق في الأجهزة القضائية، وفي الأماكن المخصصة لذلك وفقا للإجراءات الدستورية والقانونية. وهذا الأمر يتطلب مواقف حازمة، وليس مجرد تصريحات إعلامية. وكما قلنا في مقال سابق فإن على السيد السيستاني نفسه أن يرفع الغطاء عن هذه الدولة الموازية، وبلغة صريحة وواضحة وغير قابلة للتحريف أو التأويل، فيحرجَ بذلك حماة الدولة الموازية من سياسيين وقصيري النظر، ويمنح الدولة/ الحكومة زخما للتعاطي معها بكل حسم، وبعكس ذلك على الجميع أن يتحمل مسؤولياته في الخراب الذي ينتظرهم!
كاتب عراقي