عندما ينعقد حوار بين أطراف عربية أمريكية فإنه غالباً ما يشبه حوار الطرشان. أقول هذا من طول ما شاركت في لقاءات حوارية من هذا النوع، التوقعات منها غالباً ما تكون كبيرة من جانب العرب ومتواضعة من جانب محاوريهم الآخرين. ومما أذكره في هذا المقام أحد المؤتمرات التي نظمها في الدوحة معهد بروكينغز الأمريكي (وما يزال يوالي ذلك سنوياً) في عام 2003 للحوار بين أمريكا والعالم الإسلامي، كما جاء في العنوان والدعوة. وقد التأم لشمل ذلك اللقاء نفر من كافة أنحاء ديار الإسلام، من اندونيسيا إلى المغرب. وفي ذلك المؤتمر، وقد كان كما تذكرون عام غزو العراق وكانت الانتفاضة الفلسطينية الثانية ما تزال مشتعلة، تقدم بعض كبار المنظمين الأمريكيين بطلب ألا يطرح موضوع العراق ولا موضوع فلسطين على طاولة البحث. وكانت الحجة إن المحاورين الأمريكيين ليس بيدهم شيء لعمله تجاه هاتين المشكلتين العصيتين، وعليه فإن طرحهما سيضيع الوقت ويؤزم الجو دون أن تكون لذلك فائدة ملموسة. فقال قائلنا: وما الفائدة إذن من الحوار إذا كانت أهم القضايا غير مطروحة؟
وفي بدايات ومنتصف الشهر الجاري، استضافت الدوحة، إلى جانب ذلك المؤتمر السنوي الذي ينظمه معهد بروكنيغز لقاءً آخر، نظمه هذه المرة المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات لمناقشة العلاقات العربية الأمريكية. وبخلاف ذلك المؤتمر الذي يركز على الدبلوماسية والتحديات العملية ويشهده نفر من كبار المسؤولين من الجانبين، فإن مؤتمر المركز العربي كان أكاديمياً في جوهره، تناول بتعمق خلفيات وتعقيدات تعامل أمريكا مع العالم العربي وبالعكس. وكثيراً ما تضيق الفوارق مع ذلك، لأن بعض «الأكاديميين» الذين حضروا كانوا دبلوماسيين سابقين، كما أن كثيراً من مراكز الأبحاث التي شارك منسوبوها من الجانبين لها علاقات وثيقة بالدبلوماسية (عربياً وأمريكياً). وكما هو متوقع فقد كانت القضايا الشائكة حاضرة كلها هذه المرة، بما في ذلك العراق وفلسطين وسوريا ومصر. مع الفارق طبعاً، هو أن الجانب الأمريكي هو الذي كان يصر على إثارة مسألة العراق هذه المرة.
وكان هناك ما يشبه التوافق على ضعف وتراجع التأثير الأمريكي في المنطقة العربية. وقد رأى بعض المشاركين العرب أن هذا الضعف الظاهر هو استمرار للسياسة الأمريكية القديمة وفق معطيات جديدة. وبحسب هؤلاء أن الزهد الأمريكي في العالم العربي يعود من جهة إلى تراجع الحاجة إلى نفط المنطقة وغازها، وأن الولايات المتحدة هي التي «سمحت» لإيران وإسرائيل بالتمدد في المنطقة، وتعمدت عدم التدخل في سوريا، كما أنها تعاملت مع الثورات العربية بصورة مختلفة عن تعاملها مع ثورات أوروبا الشرقية، وفي الحالين مراعاة لمصلحة إسرائيل. أما المحللون الأمريكيون فقد نسبوا هذا التراجع لعوامل داخلية، أهمها الاكتواء بنار الحروب والملل منها، إضافة إلى عودة الاكتفاء بالحفاظ على الاستقرار، خاصة في الدول الحليفة.
وقد كان التحدي الذي طرحه المؤتمر هو السعي إلى تطوير نظرة عقلانية إلى العلاقات العربية ـ الأمريكية، وخلق التوازن المطلوب بين «المصالح والمخاوف» في بيئة متغيرة، كما جاء في عنوان المؤتمر. وقد استهل الدكتور عزمي بشارة المؤتمر بمداخلة اعترف فيها بإشكاليات طرح المؤتمر، حيث أن الولايات المتحدة بلد له نظام موحد، وسياسة تحدد من الأعلى للتعامل مع العالم الخارجي، بينما لا يوجد كيان عربي مماثل يتعامل مع الولايات المتحدة. فهناك تضارب، بل صراعات، بين العرب، وأساليب مختلفة بل ومتعارضة في تعامل الدول العربية مع الخارج. وبالتالي ليس من السهولة تحديد موقف عربي موحد من القضايا الخلافية، بما في ذلك القضية الفلسطينية، قضية العرب المحورية. وقد أكد بشارة على نقطة تكاد تكون بديهية، وهي أن الإشكالية الرئيس في العلاقات العربية الأمريكية تبدأ من الجانب العربي، وأن الحل يبدأ من هناك.
ولكن كثيراً من مداولات المؤتمر اللاحقة نحت نحواً من التلاوم المتبادل بين الجانبين العربي الأمريكي، حيث مال معظم المتداخلين من الجانب الأمريكي إلى التبرير للسياسات الأمريكية، والدفاع عنها، بينما مال معظم المتداخلين العرب إلى تحميل الولايات المتحدة وزر كل المصائب التي عانى ويعاني منها العرب، خاصة في المناطق المشتعلة مثل العراق وسوريا ومصر.
لهذا السبب كانت هناك حاجة للتأكيد تكراراً على أن العرب هم مشكلة السياسة الأمريكية، وليس العكس. فحتى لو أخذنا القضية الفلسطينية، على سبيل المثال، فإن التساؤل يظل لماذا يظهر الفلسطينيون أمام العالم على أنهم الفئة الباغية رغم أن قضيتهم هي أعدل القضايا؟ فبينما يعترف العالم كله بالظلم الذي تعرض له اليهود على يد النازيين، والأرمن على يد الأتراك، والمسلمون في البوسنة على يد الصرب، والتوتسي في رواندا على يد الهوتو، رغم أن مظالم هؤلاء أقل فداحة بكثير من مظلمة الفلسطينيين، إلا أن العالم كله، بمن فيه كثير من العرب، يعامل الفلسطينيين على أنهم هم المشكلة. فهل هذه مسؤولية العالم، أم أنها مشكلة العرب وخطابهم؟
إشكالية الخطاب العربي هي التبجح الكاذب، وادعاء البطولات والقدرة في مقام العجز. على سبيل المثال، من كان يستمع للرئيس العراقي صدام حسين أيام أزمة الكويت، وغريمه الرئيس جورج بوش الأب، كان يكون معذوراً لو اعتقد أن العراق هو الذي كان يحشد الجيوش للهجوم على واشنطن، ويسير حاملات الطائرات باتجاه نيويورك ولوس انجيليز. فقد كان الرئيس العراقي ومساعدوه يتحدثون عن سحق أمريكا وتلقينها درساً لن تنساه، بينما كان بوش ومساعدوه يتحدثون في مسكنة ولطف عن ضرورة الحل السلمي للأزمة وتجنب العنف وسفك الدماء.
بنفس القدر، فإن من يستمع إلى خطاب حماس أو حزب الله تجاه إسرائيل، لا يملك إلا أن يشفق على الإسرائيليين المساكين من بطش هذه القوى العظمى التي تهدد إسرائيل بزوال وشيك، واليهود المستضعفين بإبادة جماعية ناجزة!
بنفس القدر، فإن ضعف العرب وقلة حيلتهم تضعف يد الإدارات الأمريكية وأي جهة خارجية تسعى لحل عادل ومنصف للقضية الفلسطينية. فالمطلوب من أوباما مثلاً أن يتحول إلى زعيم لمنظمة التحرير الفلسطينية، وينازل إسرائيل وحده لإجبارها على تقديم تنازلات، في حين يجلس عباس في المقاطعة يشرب القهوة المشتراة بأموال تبرع بها الأوروبيون والأمريكيون، ويتعهد بقمع أي انتفاضة فلسطينية تقلق إسرائيل! والمعروف أنه لكي تتدخل جهة خارجية للتوسط، فلا بد من أن يكون هناك ضغط ما حتى يتاح لها طرح حلول وسط. على سبيل المثال، في العراق قبل التطورات الأخيرة، كان بوسع رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي أن يملي شروطه، ولم يكن بوسع الولايات المتحدة ولا غيرها أن تطلب منه تقديم تنازلات للعرب السنة.
أما اليوم، فإن إيران نفسها تتحدث عن الحلول الوسط، لأن الواقع تغير على الأرض. وقبل ذلك فإن باراك لم ينسحب من جنوب لبنان وشارون من غزة لطيبة قلبيهما وإشفاقهما على أهل فلسطين ولبنان، وإنما لأن الضغوط أجبرتهما صاغرين.
بالمقابل نجد اليوم العرب، حكومات وشعوباً، تتوسل إلى أمريكا لتتدخل في سوريا وتضغط على إسرائيل، وأن تدعم طرفي الصراع في العراق، وأن تسقط نظام السيسي، وتعيد الأمن إلى ليبيا، والسلم في السودان. وفي نفس الوقت، تتعرض أمريكا للهجوم والاتهام بأنها سبب الأزمات في كل بلد عربي! وليس هناك أدل على العجز من ذلك، وهو تذكير بأن العرب هم مشكلة أنفسهم وأمريكا والعالم، ولا بد أن يغيروا ما بأنفسهم قبل أن يتغير العالم نحوهم.
٭ كاتب وباحث سوداني مقيم في لندن
د. عبدالوهاب الأفندي
كلام من ذهب وأغلى من الذهب
والمشكلة في خطاب العرب
ففي زماننا هذا لا مجال للعنتريات بدون وجود عنترة بنفسه وأقصد هنا القوه
الصراخ والعويل من جهه واللطم والزنجيل من جهة أخرى لا يفيدان أنفسنا
ولا حول ولا قوة الا بالله
ألا لا فض فوك , كلام فى الصميم..
و الله يا دكتور ما شاء الله,, كلام جميل و منطقي و عقلاني لأبعد درجة,, لا أسكت الله لك حساً
كعادتك دائما دكتور عبد الوهاب تتحفنا بأفضل مقالاتك العقلانية، نحن بحاجة إلى نقد ذاتي لم تفد الشعاراتية ولم تقددم لنا إلا الويلات والمصائب جزاك الله عن القراء خيرا
صح, صح, أحسنت