هل لم يعد لنا مكان في هذا العالم؟ هل نحن مجرد مستهلكين لكل ما يصنعه الآخر؟ هل فعلا نعيش على ما يبتكره الغرب بدءا مما يوجد في بيوتنا وجيوبنا وسياراتنا وشوارعنا ومؤسساتنا العمومية والخاصة، ومرورا بكل ما نستخدمه من أدوية وتكنولوجيا وأسلحة، إلخ، ووصولا إلى قبورنا؟ هل فعلا كل حياتنا اليوم متعلقة بالآخر؟
أكيد أننا ما زلنا نعيش على حلم الماضي. في كل محاضراتنا ودروسنا وخطبنا وكتاباتنا، نؤكد حضارة العرب ببغداد (مرحلة العباسيين) ومحطة الأندلس ومحطات أخرى في الشام وغيرها. هي محطات حضارية عربية قديمة انتهت. صحيح قد ساهمت في بناء حضارة الغير. لكننا اليوم فقدنا البوصلة، لم نطور ما تركه الأجداد، ولم نبتكر أساليب جديدة في حياتنا اليوم.
هل انقرضنا فعلا؟
لنضع خريطة بلداننا العربية أمامنا. لنتأمل حالها وتمزقاتها المتعددة. لنفكك حال العرب الثقافي والعلمي والاقتصادي والتعليمي والبحثي والسياسي، إلخ، سنخلص وبسهولة إلى أننا خرجنا من بوابة التاريخ منذ عدة قرون، ثم لنعد تأمل الخريطة العربية، ستجد العديد من التطاحنات والعديد منها، طبعا، هو من صنع الغرب، دون نسيان ما صنعته أيادينا الملوثة بحروب طائفية عديدة. من «حق» هذا الغرب أن يفعل ذلك، لأنه لم يلدنا ولم يولد لكي يخدمنا. الحياة هي هكذا.. تاريخيا، القوي دوما يقود القافلة، طبعا نستثني هنا بعض الأصوات الغربية العقلانية والحقوقية والديمقراطية، التي تدافع عن المغلوبين في هذا العالم، ونحن جزء منهم. وهي أصوات لها قيمتها الإنسانية الخالدة على الدوام.
مستعدون دوما لقتل بعضنا بعضا من أجل اختلاف في فهم آية قرآنية أو حديث نبوي شريف. ما زلنا على أتم الاستعداد لنحرق حدودنا من أجل التباهي بكوننا غلبنا جارنا/أخانا. متفرغون من أجل أن نتطاحن ونتقاتل مذهبيا وسياسيا، ودون ملل ولو حرقنا أرضنا. المهم لن نستسلم، في حين أننا غير مستعدين لنحارب الجهل والأمية والتخلف، ونحفز الباحث والعالم والكاتب والمبدع، وغير هذا. في حين من الممكن أن «نبدع» ومن غير هؤلاء، العديد من «النجوم» الساطعة، نمنحها ما لذ وطاب من العيش، وبجانب هؤلاء يعيش الباحث والعالم والمفكر والمعلم، حياة بؤس، لكونهم اختاروا السير في طريق غير مرغوب فيه من لدن مجتمع ألِف الاستعداد فقط من أجل التطاحن المذهبي والديني والعرقي والسياسي.
العولمة لا ترحم ولا تغازل أحدا
نعيش في عولمة، لا مكان فيها للضعيف، يقال له هذا بعدة صيغ. صحيح، أن هذا الضعيف حينما يقر بضرورة اختيار طريق العلم والمعرفة، لن يجد الطريق مفروشا من لدن مؤسسات دولية عديدة، وربما هذا ما يجعله يستمر في لذة نومه العميق، لكن، ركوب الصعاب والمخاطر، أملا في تحقيق طريق النهضة الحقيقية المؤجلة، أفضل من السير في طريق الكسل والتخلف وانتظار الحلول تأتي من لدن الغرب القوي.
عولمتنا اليوم لا ترحم ولا تغازل الضعيف أو المقهور، كل شيء يباع له، بما في ذلك «الصدقة» التي تعطى له. حتى الديون التي تشطب لفائدة دولنا المدانة، يتم استخراجها من خلال الديون الجديدة، أو من خلال معاملات أخرى مدروسة بدقة وعناية. قد نتباكى نحن البلدان العربية، بكون هذا الغرب، هو ديمقراطي وإنساني فقط مع نفسه، وحينما يتعلق الأمر بدول العالم الثالث يكون غير ديمقراطي، فهل ولدنا، دون أسماء بلداننا العربية في سجله المدني، لكي نطلب منه هذا التعامل المثالي؟ وهل تعاملنا نحن بالمثل في محطات تاريخية سابقة، لاسيما حينما كنا نصول ونجول في بلدان عديدة؟ لنكن واقعيين.. الغالب دوما يفرض شروطه، لنتأمل جيدا مسارات التاريخ العالمي ولنستخرج منه العبر والدلالات.
لن نقفز نحو المستقبل، دون القطع مع ثقافة القتل المتعمد وغير المتعمد للتراكمات التي علينا التفكير في بنائها وتعليمها لأطفالنا. أعتقد أن ترسيخ ثقافة بناء التراكمات، وفي كل مناحي الحياة المادية وغير المادية، لا يمكن أن تتحقق دون خلخلة حقيقية لمنظوماتنا التربوية العربية.
العرب والتخصص في قتل التراكمات
قصدي بالتراكمات، وببساطة، كل ما ترك من لدن الغير، لنضرب مثلا بسيطا جدا في مجال التعليم في بلداننا العربية. ماذا يقع حينما يأتي وزير جديد لتدبير القطاع؟ هل ينطلق من تراكمات حققها السابقون؟ أكيد، بمجرد تسلمه مفاتيح الوزارة (رمزيا) يبدأ في تغيير وكنس ما تركه السابق، لا نتقن إلا سياسة الهدم، أما البناء فما زلنا لم نملك عقليته.
لا نملك اليوم تراكمات من الممكن غربلتها والانطلاق منها. هدمنا العديد من التراكمات السابقة في مجالات عديدة (العمران والعلم والأدب والفكر والتعليم والتربية والبحث العلمي والرياضة والسياسة والديمقراطية). تخصصنا في هدمها وقتلها «بحجة» أن لا ينجح من سبقنا، أصبحنا متخصصين أيضا في تتبع الناجح حتى نسقطه في حفرة من الحفر التي حفرناها من أجل هذه المهمة التي حققنا فيها تراكمات عديدة. وحده الفاشل من «نطمئن» له. لأنه لن يزعج حياتنا. فهل بهذا السلوك السكيزوفريني، من الممكن أن نخلق التراكمات؟
نبدأ دوما الحكاية من جديد.. لا نستمر في بنائها، نعيدها ونهدمها ونرفضها ونقنن الرفض و»نؤسس» فقط للجهل والتخلف والاقتتال، وبناء الأسلاك الشائكة بين حدودنا، حد الاختصاص في صرف جزء مهم من عائداتنا للاستعداد الدائم للحروب الحدودية. تستحضرني صورة منزل، جزء منه في الشق الهولندي والجزء الآخر في الشق البلجيكي. حكايات جميلة تصنعها هذه الدول التي راكمت، شأنها شأن بقية الدول المتقدمة، تراكمات متعددة، استفادت منها هذه الدول التي أدركت، أن التراكمات مفيدة ودافعة نحو عالم متحضر ومتقدم قادر على إسعاد شعوبها، وهو ما تحقق اليوم، ومن قال لا، فلينظر ويحلل وبكل لغات العالم، من يمتطي قوارب الهجرة السرية بحثا عن شروط عيش أفضل. شروط ما كان من الممكن تحقيقها دون، الانطلاق من تراكمات عديدة نفعت هذا الغرب، وجعلته اليوم يفرض شروطه المتعددة على المغلوب وبلغات عديدة بما فيها لغة الدبلوماسية الناعمة.
من لا تراكمات له لا حياة له
لن نقفز نحو المستقبل، دون القطع مع ثقافة القتل المتعمد وغير المتعمد للتراكمات التي علينا التفكير في بنائها وتعليمها لأطفالنا. أعتقد أن ترسيخ ثقافة بناء التراكمات، وفي كل مناحي الحياة المادية وغير المادية، لا يمكن أن تتحقق دون خلخلة حقيقية لمنظوماتنا التربوية العربية. من داخل القسم ومما يبنيه المدرس مع المتعلمين، تنطلق حكاية التراكمات، وكيفية بنائها والتعامل معها. أكيد أن عناصر عديدة مثل الإعلام وما يقوم به المجتمع المدني، إلخ، من الممكن أن يكون له دور مهم، لكن من الممكن أن يبقى يتيما، كما هو الحال اليوم، إن لم ننطلق من رؤية إصلاحية مجتمعية شمولية تعاقدية، تتعلق بالتربية والتعليم، وما يدور في فلكهما من بحث علمي وثقافة ومعرفة.
وحده التعليم، وبكل حمولاته المتعددة، القادر على انتشالنا من الصورة المأساوية التي بنيت حولنا، وروج لها بشكل مقصود يخدم العديد من الأهداف المعروفة. صورة العربي المهزوم والمتطاحن على الحدود والمذاهب الدينية والعرقية، وغير المهتم بالمعرفة والعلم والبحث. صورة تشكل اليوم مادة دسمة للبحث وفي مجالات عديدة. فمتى نعي أن شرط التقدم وخلق التراكمات والثروات الحقيقية وشرط الابتكار والتقدم، ينطلق من تلك الحصة الدراسية التي يقدمها المدرس للمتعلم في قسمه؟ وهل من وعي بضرورة التفكير في غرس نبتة حقيقية، تربتها الصالحة هي المدرسة ولا شيء غير المدرسة؟ متى تصبح المدرسة فضاء خصبا للتفكير الحر وليس فضاء لإجلاء المدنيين حينما يتم الاقتتال بين بلدين عربيين. اقتتال لا يخدم إلا الغير، فبه يحسن دخل مواطنيه من خلال بيع المزيد من الأسلحة، وربح رهان الإلهاء كما يقول العالم الأمريكي تشومسكي. إلهاء يجعلنا نبتعد عن الحق في الحلم للصعود إلى القمر، وصناعة تكنولوجيا دقيقة، والانخراط الحقيقي في بناء هذا العالم، والتموقع داخله، عوض البقاء على الهامش ننتظر مساعدات وأدوية لا تشبه أدوية الغرب، بل هي أدوية صنعت للدول الفقيرة غير القادرة على دفع ثمنها، فهل من وعي بقيمة المدرسة وما من الممكن أن تحققه من تعلم لكيفية بناء التراكمات، وجعلها المنطلق الحقيقي لكل نهضة حقيقية عوض البقاء خارج التاريخ ومنذ عدة قرون؟
كاتب من المغرب
كثير من الافكار والهواجس.كلها تستحق فتح نقاش جدي حولها. ولكن هل من الضروري ان نبدأ من حيث نحن لنرتقي؟
. من «حق» هذا الغرب أن يفعل ما يشاء ، لأنه لم يلدنا ولم يولد لكي يخدمنا. الحياة هي هكذا.. تاريخيا،
مقال رائع وتحليل دقيق و موضوعي