العرب والمستبدّ العادل!

حجم الخط
0

لا يصحّ نعت مجتمع ما بكونه متقدّما أو متخلّفا إلاّ إذا شمل هذا النّعت أو ذاك كافّة مجالاته الحيويّة ونتّخذ هذا المدخل وليجة لمعالجة ما يُنعت به العقل السّياسي العربي من تخلّف، وهو في الحقيقة تخلّف عليق بالقائمين على العمليّة السّياسيّة تنظيرا وتطبيقا، فماهي ملامح هذا العقل من خلال استقراء ما جرت به الحوادث فيما سُمّي بالرّبيع العربي؟ التماسا للاختصار والوضوح نجمل مظاهر التّخلّف في ثلاث نقاط هي:
1- الخلط الفظيع بين مستويْين من مستويات التّصوّر المتعلّق بالسّياسة: المستوى الأوّل وهو التّفكير بالسّياسة علما ذا قواعد ثابتة خادمة للقيم الإنسانيّة كالحرّيّة والعدالة والبرّ والأخلاق، وهو ما يُطلق عليه لفظ policy، وفي هذا المستوى يتجلّى الاتّفاق بين جميع العقلاء واشتراكهم في العديد من القواسم. وأمّا المستوى الثّاني فهو فنّ تدبير الشّؤون حسب الإمكانات المُتاحة على أرض الواقع وهو ما يُعرف بـ politics، إلاّ أنّ الخلط المُشار إليه آنفًا يتجلّى في أنّ السّائس في واقعنا، في كثير من الأحيان، يتّخذ مواقف حادّة ومبدئيّة فيما يجب أن يكون فيه مَرِنا خُذ مثال التّهديد بالاستقالة من الوزارة بدلا من تغيير أحد موظّفي الدّولة مراعاةً لمصلحة ما. وفي أحيان أخرى يراوغ رجل السّياسة متدبّرا شأنا من الشّؤون في حال كان عليه أن يتّخذ موقفا مبدئيّا يجد منطلقه من المستوى الأوّل policy . إنّ هذا الخلط راجع بالأساس إلى ضيق الآفاق النّظريّة من جهة وضمور التّجربة السّياسيّة صنعا للوقائع واستباقا لمجريات الأحداث، وفي حقيقة الأمر تعود جذور المسألة إلى انسداد آفاق الحرّيّة لمدّة طويلة في تاريخنا
2- غلبة التّفكير الإيديولوجي على التّفكير العقلاني ممّا تسبّب فيما يُسمّى بالعمى المذهبي والحزبي والطّائفي، وهو نمط من التّفكير يدّعي امتلاك الحقيقة وحجبها على الآخرين لذلك يتوسّل بالسّبّ والشّتم والتّعيير بدلا من التّحليل والتّفكيك والإقناع فأضحت المصلحة الحزبيّة متقدّمة على المصلحة الوطنيّة، فزاد التّشرذم والتّذرّر atomisation، فانقسم المجتمع إلى علماني ومتديّن، رجعي وتقدّمي، حداثي وظلامي، يميني ويساري. والحال أنّ جميع أولئك قادرون على التّوحّد في المصلحة الوطنيّة شريطة أن تصدق النّيّة ويخلص العمل، إنّ هذه المصلحة الوطنيّة هي بمثابة السّفينة الحاوية لجميع الرّاكبين.
3- النّفعيّة المستعجلة: ومن مظاهر البؤس في الوعي السّياسي العربي ما نسمّيه باستعجال المنفعة إذ لم يتخلّص هذا الوعي من الحرص المبالغ فيه على حصد النّتائج المرجوّة من الثّورات الّتي لم تستكمل مراحلها بعدُ ولم تنضج ثمارها، ولعلّ من أبرز العلامات الدّالة على هذا الاستعجال هو التّدخّل العسكري، في حين أنّ المطلوب من المؤسّسة العسكريّة أن تكون حامية للوطن راعية للمصالح العليا في حياد مترفّع عن الانخراط صُلب التّجاذب والصّراع. كما أنّ المسار الدّيمقراطي أبعد ما يكون عن هذه التّدخّلات إذ الدّيمقراطيّة تربية وثقافة ووعي تتجسّد في الأخلاق والاحترام ونظافة الذّهن واليد والبيئة. والثّمرة المباشرة لهذه الأرضيّة هي الاحتكام إلى الاقتراع عبر الصّناديق في شفافيّة ونزاهة. وهكذا بدا أنّ البؤس في العقل السّياسي محكوم بثنائيّات خانقة وقاتلة تبعث على القرف الفكري. ولكي يبرّر الاستبداد ‘في ديارنا’ يُلحق به نعت العدالة، وفي هذا الإطار تندرج الانقلابات العسكريّة عبر التّجارب العربيّة، خذ لذلك أمثلة موريتانيا والسّودان وليبيا والجزائر ومصر من الضّبّاط ‘الأحرار’ إلى الضّبّاط الجدد وهذه الانقلابات هي الّتي روّجت لهذه الثّنائيّة أن تحتلّ حيّزا في الأدبيّات وما أبعد الاستبداد عن العدل.
ناجي الحجلاوي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية