العرب وتعلقهم المرَضي بالأوهام

حجم الخط
41

تصلني يوميا مقاطع فيديو تحاكي الغزو الروسي لأوكرانيا. أقصد تلك الفيديوهات التي يجري التلاعب بها لتصبح هزلية، ويصبُّ معظمها في تمجيد الغزو الروسي ويسخر من تلكؤ أمريكا والغرب في حماية أوكرانيا بعد أن حرّضاها على معاداة روسيا.
مضمون تلك الفيديوهات يحيلك إلى حجم الافتتان العربي بالرئيس فلاديمير بوتين.
تقتنع بأن العرب يحبون الأقوياء ولو كانوا طغاة ظالمين.
وتقتنع أكثر بأن الصورة الأكبر تختزل حال مجتمعات عاجزة عن إدراك خطورة ما يجري من حولها.
عادت بي الذاكرة 32 سنة إلى الوراء. إلى الهيستيريا الكبيرة التي أصابتنا في الجزائر (وأصابت كثيرا من الدول العربية) عندما احتل الجيش العراقي الكويت في صيف 1990. إلى الشهور التي تلت ذلك الاحتلال المشؤوم والاستعدادات لحرب ستقضي على العراق تقريبا، ونحن نطبّل ومقتنعون بأن الجيش العراقي، الخارج قبل سنتين فقط من حرب طاحنة مع إيران، سينتصر على ثلاثة أرباع جيوش العالم وهي تطوِّقه من كل صوب وتكاد تمنع عنه الشمس والهواء.
لا داعي للمقارنة بين عراق صدَّام آنذاك وروسيا بوتين اليوم. أهم من أيّ مقارنة عبثية، تشابهُ السياقين، وهذا المأزق الأخلاقي الذي يجد العرب أنفسهم فيه كلما ضربت العالم أزمة عميقة.
في العراق، الذي لم يغفر بعض أبنائه بعد للجزائريين وشعوب الـ”ضد” العربية تعاطغهم مع صدَّام حسين في احتلاله للكويت، يبرز اليوم تعاطف مماثل مع الرئيس بوتين في احتلاله لأوكرانيا. شوارع البصرة شهدت في الأيام الماضية تعليق بوسترات بوتين احتفاءً به، تماما مثلما رفع جزائريون وأردنيون وتونسيون بوسترات صدَّام قبل 32 سنة وهو يقود بلاده والمنطقة كلها إلى الجحيم. السفارة الروسية في العراق تشكر العراقيين على تعاطفهم ورغبتهم التسجيل للقتال ضد الغرب في أوكرانيا، تماما مثلما شكرت السفارة العراقية في الجزائر الجزائريين على حماسهم وتسابقهم للتسجيل في قوائم التطوع للقتال في الصفوف العراقية سنة 1990.
غير بعيد عنا، بعض الجزائريين والتونسيين وغيرهم ممن ناضلوا بشراسة في بلدَيهم ضد بوتفليقة وبن علي، لم يجدوا غضاضة في التعاطف مع بشار الأسد وهو ينكّل بشعبه أكثر بكثير مما فعل بن علي وبوتفليقة.
بالتوازي مع الافتتان ببوتين يروّج “مؤثرون” عرب لنماذج خيالية من المقاومة ضد الروس. تبدأ في أفغانستان وتنتهي في أوكرانيا مرورا بالشيشان. مرة أخرى لأننا مجتمعات تفتقد لنماذج المقاومة، نحتفي بسيّدة أوكرانية مثلا وننفخ في سيرتها لنجعل منها نموذجا نحلم به ونجلد ذاتنا على عدم وجوده بيننا. أو بشاب عربي مرَّ من أفغانستان فنروي عنه قصصا وأساطير لا تقنع حتى الأطفال.

الغزو الروسي لأوكرانيا وتداعياته الخطيرة حاضرا ومستقبلا جرسُ إنذار للعرب ليبدأوا التفكير في تحديد أولوياتهم بناءً على مصالحهم ووفقا لواقعية سياسية تستثني الأحكام الجاهزة، وتضع العواطف على الرف

في افتتان العرب بالأقوياء وبالنماذج الخيالية خلطة “بسيكوسياسية” صعبة. واقعنا الأسود وضَعَنا في مزيج من الإفلاس والعجز عن تحديد وجهتنا. نسير في الظلام بدون أنوار وبلا بوصلة. نعاني يُتمًا عامًا وغياب نماذج معاصرة إيجابية. هذه المعاناة النفسية المركبة تجعل الإنسان العربي يُعجب بالآخر ويتبناه. ينسحب هذا على الرياضة والفن والثقافة وغير ذلك، لكنه يصبح أكثر فجاجة عندما يتعلق الأمر بالسياسة والقوة الاستراتيجية. فشلُ الدولة الوطنية وعجزُ الإنسان العربي عن منع ذلك الفشل وعن أن يكون شريكا في صنع مصير مجتمعه، يدفعانه إلى النظر إلى خارج مساحته.
عجزُ هذا العربي، في المقابل، عن مواجهة قوى غربية يُحمِّلها مسؤولية خيباته وإحباط طموحاته، يجعله يستجدي مَن ينتقم له من هذه القوى ويبتهج ما أن يلوح له في الأفق شيء يلبي رغبته. وما احتفاء كثير من العرب ببوتين، رغم فتكه بالسوريين ومثل صدَّام، ألحق ضررا فادحا ببلاده واقتصاد شعبه، إلا دليل على ذلك.
الصورة في الغزو الروسي لأوكرانيا: الغرب ظالم بتصميمه على توسيع حلف الناتو إلى أبواب موسكو. روسيا ظالمة بغزوها أوكرانيا. الغرب ظالم بتعامله مع الموقف بمكيالين ضاربا عرض الحائط ما لا يخدم مصالحه.
صراع الأقوياء هذا وظلمهم المتكرر وضع العرب في مأزق: تعاطفهم مع الروس يعني انتصارهم لظالم. اصطفافهم مع الغرب يعني انحيازهم لظالم. الحياد لا يحل المشكلة، بل قد يجعلهم يخسرون كلا طرفي الصراع.
الأكثر إزعاجا في الأمر أن الموقف العربي، شعبيا وبدرجة أقل رسميا، مبني على أمزجة وعواطف. تعاطف العرب مع روسيا نكاية في الغرب على دعمه الدائم لإسرائيل لن يعيد للفلسطينيين حقوقهم. ابتهاج العرب بدمار أوكرانيا لأن رئيسها (مثلا) حليف قوي لإسرائيل، لا يبني أيّ وطن عربي مدمّر. الاحتفال بخطاب لبوتين هدد فيه الغرب باستعمال السلاح النووي لا يعيد للإنسان العربي كرامته المهدورة. الاحتفال بتضرر الاقتصادات الغربية من العقوبات على روسيا لا ينقذ الاقتصادات العربية المنكوبة. الطعن في نزاهة الإعلام الغربي لن يجعل الإعلام الروسي (والعربي) أفضل منه. الترويج الأحمق للـ”نيوجهاد” في أوكرانيا لا يخدم أي قضية عربية. الفرحة بارتفاع أسعار النفط إلى مستويات قياسية دليل جهل وقصر نظر (يفوت كثيرين أن كل سنت إضافي في سعر برميل النفط يعني مسًّا بالتوازن الهش للاقتصاد العالمي، ويقابله آخر في أسعار السلع التي يستوردها العرب، وما أكثرها).
الغزو الروسي لأوكرانيا وتداعياته الخطيرة حاضرا ومستقبلا جرسُ إنذار للعرب ليبدأوا التفكير في تحديد أولوياتهم بناءً على مصالحهم ووفقا لواقعية سياسية تستثني الأحكام الجاهزة، وتضع العواطف على الرف.
ما يحدث فرصة ليتعلم العرب حسن اختيار أصدقائهم وخصومهم. فرصة أيضا ليضعوا نهاية لمواسم الهستيريا.. ليتوقفوا عن الاحتفال بانتصارات هؤلاء أو التشفي في انكسارات أولئك.
يحتاج العرب بإلحاح إلى شجاعة في اختيار المواقف، وإلى شجاعة أكثر في الدفاع عنها.. وهذه فرصتهم.

*كاتب صحافي جزائري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول ابو القاسم الشابي:

    لا مجال للتشبيه هنا بين العراق وروسيا ولا صدام وبوتين، العراق كان محتلا من قبل الغرب كما دويلات الخليج العربي كلها، وصدام من جملة الموظفين لدى الغرب لحماية الثروات مقابل بقاءهم في الحكم، ولكن عندما فكر صدام بالخروج عن المسلك المرسوم في لندن، حضر له الثعلب رامسفيلد مصيدة الكويت وخاصة بعد ان انهكه عسكريا في الحرب مع ايران واخترقه امنيا حتى النخاع، في المقابل بوتين قائد دولة عظمى، حرة، تصارع الغرب في عقر دارهم وتتفوق عليهم، تدير ظهرها لامريكا ولا تحسب لها حسابا، ولاجل الحق، بوتين انقذ الدولة السوري من انهيار خططه الناتو وامريكا وموله بن سلمان وبن زايد وبن موزة وتفاحة.. يجب ان تجلس اعوجا وتتكلم مستقيما ايها الجزائري.. من قتل الشعب السوري هو الغرب والناتو بما في ذلك التركي اللذي يدعي الاسلام، وكيف هي دولة اسلامية في الناتو وكل مباديء الناتو تقوم على الغاء الاسلام؟
    بوتين انتصر على الغرب في هذه الواقعة ولا لبس في انتصاره، وايران انتصرت على الغرب في الاتفاق الجديد ولا لبس في انتصارها، لماذا تسوق انت ما يروج له الناتو؟ وجريدتك أيضاً ؟ وهل تتوقع ان الناتو يتمنى خيرا للعرب والمسلمين؟
    اوكرانيا هي كبش الفداء الذي قدمه الناتو لروسيا بدلا من ان يخسر هو الرهان حتماً امام روسيا.

  2. يقول اخ العرب:

    كلام في الصميم .ضحبا الحرب هم نحن الشعوب العربية. صدق أو لا تصدق. الشعوب والبنات المتوسطة والكادحة.

  3. يقول حسان:

    سواء غزا بوتين أوكرانيا أو لا..فالأمر يتعلق بالولايات المتحدة الأمريكية فهي تحشر نفسها في كل صغيرة وكبيرة وفي اي بقعة من العالم وهي سبب تخلف العرب مرغمين ومجبرين للخضوع طوعا أو كرها حتى تتقوى اسرائيل…
    واليوم روسيا والصين يقولان الأمريكان نحن هنا هده الدول تملك النووي..وروسيا لن تقبل بالتراجع من أوكرانيا ولو كلف دلك ابادتها بالنووي ليس عداءا من روسيا ولكن لتمادي الاطلسي في طغيانيه ومحاولاته الحثيثة لتركيع العالم ونهب ثرواته كما يفعل مع العرب

  4. يقول زياد:

    فهم ظاهرة تمجيد البطل ولو كان ظالما إشكال يحتاج تحليلا نفسيا يسترجع أفكار فرويد في الموضوع، ولعل هذا العطب يأتي لملء إحساس جمعي بالفراغ والفشل والتعطش للبطولة وهذا مؤشر خطير دال على الضعف، والغريب هو أن الدين يقف بالمرصاد لهذا السلوك، ورغم ذلك يأبى العرب إلا أن يدوسوا عليه كذلك، فالإسلام يناصر الحق ويعادي الظلم مهما كانت أطراف هذه العلاقة، وواضح أن روسيا ظالمة تحت أي عذر وهذا حال بوتين، وأن أوكرانيا مظلومة مهما كان موقفها وكيفما كانت الأسباب، مادام جيش بوتين في حدود أوكرانيا يفعل فيها ما فعل في الشيشان وسوريا واللائحة قادمة .

  5. يقول الموري:

    بوتين في غزوه الاوكران عمل عدواني لكنه يبقى اقل عدوانية من دول الغرب التي احرقت اليابس والاخضر في دولما عبر شروط التبعية والاستغلال الاستعماري وعبر كذلك الحروب التي صنعتها في بلادنا بذرائع محاربة الارهاب وامتلاك أسلحة الدمار الشامل، وكذلك في دعم الاحتلال الصهيوني وجرائمه

  6. يقول سعيد المغربي:

    عندما نتكلم عن الغرب فمواقف حكامه هي تجسيد لمواقف شعوبه )في الغالب( لأن هناك ديمقراطية حقيقية لذلك ليس فليس هناك انفصام. ما يحدث في العالم العربي ) وإن لم يكن له أبدا وجود تاريخي أوسياسي، انتماء إسلامي، أمة إسلامية نعم ولكن عربي لا أظن(. الانفصام والبحث عن الذات في الآخر يأتي من أن الشعوب لا ترى أن حكامها هم تعبير وامتداد لهمومهم وتطلعاتهم وانتظاراتهم. المنظومة الحاكمة )وليس الحاكم وحده( هي كيان غريب عن وجدان هذه الشعوب مما يجعلها أمام خيارين لا ثالث لهما : إما التصادم مع هذه المنظومة وإذا مع الدولة مع خطر انهيار السلم والاستقرار النسبي التي تعيشه رغم الفقر والظلم والقهر أو النأي بنفسها عن هذه المواجهة الغير محمود العواقب) نتائج ثورات الربيع العربي من المحيط إلى الخليج خير دليل رغم اختلاف المقاربات في كل دولة على حدة(. وإسقاط تطلعاتها على تجارب الآخر دون مخاطرة كمحارب يهرب من الميدان الحقيقي إلى ميدان الألعاب الإلكترونية والمغامرات الافتراضية. أليس الأمر أسهل والمخاطرة أقل : يمكن أن يموت مرات ومرات وفي الأخير يعود إلى شرب شايه والتفرج على العالم الحقيقي والحلم….بأنه ينتمي إليه ولكن هيهات

  7. يقول عبدالله:

    هذه حرب لا ناقة لنا فيها و لا جمل… و الفطن من استغل الفرص السانحة التي تتيحها… الغرب يرهق بعضه بعضا بالعقوبات (نحن منذ مدة و نحن معاقبون لذلك لا ضير في الموضوع).

  8. يقول عماد:

    اولا الرئيس الأوكراني يهودي
    ثانيا نحن نحتفي بروسيا لأنها تحارب أميركا في اوكرانيا
    ثالثا هناك مشكله في فهم السرطان العالمي المتكون من بريطانيا و أميركا فهما سبب كل مشاكل العالم

1 2 3 4

إشترك في قائمتنا البريدية