العزلة ومقاومتها

كنت أتعامل منذ سنوات، مع وكيلة أدبية غربية، وفي أحد الأيام كان في ذهني سؤال ملح عن النص الذي تعمل ترويجه، أردت أن أسألها إياه، كان الوقت مساء الأحد، حين أدرت رقمها وظل الهاتف يرن لوقت طويل ولكن لا إجابة، رننت مرة أخرى ولا إجابة أيضا، وفي صباح الإثنين كلمتني الوكيلة، وكانت محتدة، لتذكرني بجريرتي الكبرى، حين أردت مكالمتها عن عمل في يوم العطلة الأسبوعية، أوضحت أن العطلة شيء مقدس، وشأن خاص ينبغي عدم إفساد أجوائه برنين الهواتف، وتنبيهات البريد الإلكتروني، ومنشورات تويتر وفيسبوك، وكل تلك المنغصات التي اقتحمت حياة الإنسان مؤخرا، ومنعت عنه حتى مجرد لحظات من العزلة يحتاجها بشدة.
وفي أي عطلة أقوم بها، كنت أتذكر ذلك الكلام جيدا، وأقرر بيني وبين نفسي أنني سأكون معزولا عن كل شيء، لا مراسلات ولا استشارات ولا كتابة، ولا إجابة لأي رنين هاتفي، بل في الحقيقة إغلاق الهاتف، وإعادة تشغيله مع بداية العودة للعمل، وبالنسبة لي تعني العودة للعمل، ممارستي لمهنتي الاعتيادية، بالإضافة لتلك الأعباء الأخرى التي تتبع الانغماس في الكتابة عادة، مثل المشاركة في الحوارات واستطلاعات الرأي، وكتابة الشهادات والتجارب، والمقالات التي ألتزم بها للصحف.
الذي يحدث في الحقيقة، أن لا شيء مما أفكر فيه يحدث عادة، وربما هي الثقافة العربية التي تدمج الفرد داخل المجتمع، ونادرا ما تسمح له بالانفراد بأفكاره ووساوسه، وحتى أوهامه التي يتوهمها، ولأن المجتمع في زمننا هذا، هو في الغالب مجتمع افتراضي، بعيد، ونندمج فيه عبر الإنترنت، ستظل الصلة قائمة، وتظل تلك الأواصر والوشائج القوية بين أناس لم تلتق بهم، وربما لا تلتقيهم أبدا، موجودة كما هي، لن تتبع قواعد الوكيلة الغربية، ولن تحس باستياء كبير أو صغير، حين يرن هاتفك، ويأتي إعلان عن وجود بريد إلكتروني، أو رنة في المسينجر نتيجة لورود رسالة من صديق، سترد بكل أريحية، ورضى، حتى لو كانت الرسالة مجرد كلمة: سلام، أو ملصق لقلب أو وجه باسم.
وحتى لا تكون محاربة العزلة التي ننهزم بها، أمرا نظريا، فبمجرد الهبوط في أي أرض حتى لو كانت جزر المالديف البعيدة، شبه المنقطعة عن العالم، أو أي قرية في أي بقعة أخرى، ستجد من يبتسم في وجهك ويعرض عليك شريحة للهاتف، خاصة بالبلد الذي تزوره مع ذاكرة قوية، وإمكانية استخدام واسع للإنترنت، وتفعيل ذلك فورا، وهكذا تقتني تلك الشريحة، وتندحر تماما أمام رغبة العزلة، ذلك أنك لا تملك عدة لمنازلة الفرسان الإلكترونيين الذين جندتهم التكنولوجيا الحديثة لقتل عزلتك، بينما الغرب الذي اخترع التكنولوجيا يملك عدة منازلتها، وينتصر عليها، ونلاحظ جميعا أننا نظل نعبث بهواتفنا في الأسواق وصالات الانتظار في المستشفيات، والمطارات والبنوك وهناك من يرد على رسائله وهو يقود سيارة في الطريق، بينما تجد الأجنبي أو الغربي، لديه هاتف، ولكنه يفضل أن يقضي ساعات الملل تلك في تصفح كتاب، وقد يكون الكتاب عنده من أدوات العزلة الكبرى، في إجازته، حين يذهب إلى شاطئ ما، أو منتجع في الصحراء، وكتابه في يده لا يفارقه، بينما الهاتف الذي قد يضج ويفسد العزلة، مغلق وراكد في أحد جيوبه.

نحن مستهلكو التكنولوجيا، نجيد استهلاكها تماما، لدرجة أن مجتمعنا الافتراضي يرافقنا حتى أسرة نومنا، أكثر من ذلك، يصاحبنا في تلك الاستيقاظات التي تحدث أحيانا أثناء النوم، نتيجة كابوس أو بلا سبب.

وكثيرا ما نقرأ في الروايات المترجمة عن اللغات الغربية، عبارة مثل: أغلق هاتفه، وضعه في جيبه، وأمسك بكتاب كان موضوعا أمامه على الطاولة، وغرق فيه.
إنها عبارة حالمة عن مقاومة التكنولوجيا بالكتاب، والغرق لا يعني أن كتابا قد انفتح، وإنما كتاب تبوح صفحاته بأعماقها، وتهب تلك الأعماق لقارئ حقيقي. من الأشياء المهمة أيضا في الحرب ضد التكنولجيا، ومحاولة اكتساب العزلة كاملة في العطلات، هو محاولة القراءة عن المكان الذي سيزوره الشخص، بعنى أن تقضي جزءا من وقت التنقل داخل البلد الذي تزوره، في محاولة اكتساب المعرفة عنه، فلا تذهب مثلا لزيارة جامع السليمانية في إسطنبول وأنت لا تعرف من الذي أنشأ الجامع وكيفية الإنشاء، ومن أي باب ستدخل وما الذي ستشاهده هناك، قد تكون القراءة التاريخية هنا مهمة بالفعل، على الرغم من أنك قد تكون شاهدت مسلسلا دراميا يتعرض لذلك الأمر، فالدراما كما هو معروف لها أدواتها أيضا، من استخدام للمعطيات التاريخية مع شيء من خيال الكاتب، لتكتمل الصنعة، تماما مثل الرواية، وأي عمل إبداعي آخر.
وكنت مرة قد زرت بلدا من تلك البلاد التي استقلت بكيانها عن الاتحاد السوفييتي، ومشيت في شارع ضخم ومميز، فيه مسرح وأناقة كبيرة، وضجيج ومطاعم، كان يحمل اسما لم أسمع به قط، وحين سألت موظف الفندق بعد ذلك عن الشخص الذي يحمل الشارع الجميل اسمه، بدا مستغربا، أنني لم أسمع برمز من رموز البلد الذي أزوره، وكان محقا، ذلك أنني كنت أحمل هاتفا مشتعلا بشريحة البلد، في جيبي، أرد به على التحيات والسلامات، وأجيب على استطلاعات الرأي عن نشاطات أدبية ليس من المنبغي أن تكون في عطلة للاسترخاء. وكنت متأكدا تماما أن أي أوروبي صادفته في ذلك الشارع، كان يعرف تاريخ صاحب الاسم، ولا يستخدم الهاتف إلا في التصوير فقط، لأن الصور في الواقع مهمة جدا، سيحتفظ بها الشخص ويستعيد بها وقائع رحلته، ولن يتعجل وضعها على الإنترنت، ذلك أنه قد لا يستخدم الإنترنت إلا حين يعود إلى بلاده.
في النهاية، نحن مستهلكو التكنولوجيا، نجيد استهلاكها تماما، لدرجة أن مجتمعنا الافتراضي يرافقنا حتى أسرة نومنا، أكثر من ذلك، يصاحبنا في تلك الاستيقاظات التي تحدث أحيانا أثناء النوم، نتيجة كابوس أو بلا سبب، فأول ما يفعله المستيقظ، هو إشعال الهاتف والاطمئنان أن المجتمع البديل حي يرزق، ويتقبل الاندماج فيه في أي لحظة.

٭ كاتب سوداني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول samia taha:

    شىء عجيب الخواجات غرقونا فى المجتمع الافتراضي وبيعرفو العوم فيهو كويس

إشترك في قائمتنا البريدية