بعيدا عن بداية ظهور النهضة العربية في منتصف القرن الثامن عشر، واتساع مصادرها وتنوعها، بعواملها الداخلية والخارجية، التي تمثلت في حركات الإصلاح، وقيام الجمعيات والأحزاب السياسية والانفتاح على الفكر الأوروبي، مرورا بالحملة الفرنسية على مصر وبلاد الشام، وإصلاحات محمد علي، كما البعثات التبشيرية، التي ساهمت في تنشيط الحركة التعليمية والثقافية، وصولا إلى أوائل القرن العشرين، حين ظهرت بدايات ملامح النهضة الحديثة، التي لم يسمح لها أن تكتمل وقطع عليها الطريق، من خلال الوعود والاتفاقيات بين الدول الأوروبية لاستعمار دول الوطن العربي، والعمل الحثيث لاحتلال فلسطين وإقامة دولة الاغتصاب الصهيوني، فإن هذه النهضة استعادت أنفاسها بعد استقلال الدول العربية، وقيام ثورة 23 يوليو/تموز 1952، التي هيأت نوعا من استكمال وتجديد ملامح لمشروع نهضوي عربي جديد، خاصة بعد هزيمة العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 وإنجازات الرئيس عبدالناصر المتنوعة في مختلف المجالات، مرورا بمحاولة الوحدة بين مصر وسوريا، ومن ثم فشلها، ومحاولات أخرى عديدة فاشلة لتحقيق الوحدة بين مصر وسوريا والعراق، فإن نقطة التحول العكسي في مسيرة هذا المشروع، مثّلتها هزيمة عام 1967، واحتلال دولة الكيان الصهيوني لباقي الأراضي الفلسطينية، وصحراء سيناء وهضبة الجولان العربية السورية.
تتالت الأحداث إلى احتلال العراق والقضاء على بداية مشروع نهضوي عربي كان يؤمل تحقيقه، ثم كانت أحداث “الربيع العربي” الذي التُقطت نتائجه أمريكيا، وجرت المراهنة على اتجاه إسلاموي محدد بالإخوان المسلمين، ومن ثم البدء بتحقيق مخطط برنارد لويس الذي وضع عام 1974، ونال استحسان المجمع الصناعي المالي الأمريكي، من خلال إثارة الحروب الطائفية والإثنية والمذهبية البغيضة، لتعميق الحروب البينية العربية، ومحاولات تفتيت الدولة الواحدة، وكلّ ذلك من أجل مزيد من الأمن لإسرائيل، ومزيد من امتصاص الثروات والمقدرات العربية. حقيقة الأمر، فإن المدقق في أوضاعنا العربية الراهنة، ينذهل من مدى الرداءة التي وصل إليها الوطن العربي، على الأصعدة السياسية، الاقتصادية، العسكرية والاجتماعية، في ظل موقع عربي جيواستراتيجي فريد ومتميز في العالم، إضافة إلى ثروات كبيرة، الأمر الذي لو جرى استغلاله لصالح الجماهير العربية، لكان معدّل دخل الفرد العربي سنويا، من أكبر المعدلات في دول العالم. شكّل هذا التناقض بين الواقع والصورة المفترضة سؤالا كبيرا، بحث فيه كثيرون! وتنوعت الرؤى والتصورات بالطبع. غير أن اثنين من العرب، لا يختلفان، بأن عوامل التغيير في مختلف المراحل التاريخية، كانت تتم في معظمها عن طريق العسكريين العرب، وانقلاباتهم المتواصلة في معظم البلدان العربية.
بالطبع، الفرق كبير بين نهضة وتغيير يأتي في سياق تطور طبيعي وديمقراطي! فهذا التطور مرتبط بقوى مجتمعية فاعلة تساعد على ظهوره، وهو تطور مؤسسي، و”تطور” مفترض تحققه العسكرتاريا العربية عبر انقلاباتها على أنظمة الحكم في بلدانها. يصل بعض الباحثين العرب، منهم حليم بركات في كتابه “العرب في القرن العشرين”، وهو أستاذ علم الاجتماع في جامعة جورج تاون في واشنطن، إلى استنتاج بوجود خصائص للمجتمعات العربية عامة ساعدت العسكرتاريا العربية على تولي زمام الأمور منها: إن نصف المجتمع العربي متخلف، إضافة إلى البنية الطبقية، الفقر، التعددية الاجتماعية، أو شدة التنوع من حيث الانتماءات والعصبيات القبلية والطائفية والعرقية، طغيان الدولة التسلطية وهي الشكل الجديد للدولة المستبدة التالية للإقطاعية، الدولة السلطانية، البيروقراطية، التي جاءت عن طريق اختراق المجتمع المدني. نتفق أو نختلف مع تشخيص بركات القيّم، لكننا لا نملك سوى احترام بحثه في هذا المجال.
الاستبداد يقود إلى فشل مخططات التنمية، المرتبطة بالتطبيق الديمقراطي في الدولة، وهذا مفتقد في عالمنا العربي بلا استثناء
من جانب ثان، معروف أن حقبة الحرب الباردة رفعت من أسهم المؤسسات العسكرية عموما، وفي العالم العربي بشكل خاص، بسبب وجود إسرائيل، كرأس جسر لمخططات الهيمنة الاستعمارية بأشكالها المختلفة للوطن العربي، هذا أولا. ثانيا، إن قادة الانقلابات العسكرية العربية، روّجوا أن من أسباب قيامهم بالانقلاب، تحرير فلسطين، وهو الشعار المركزي للجماهير العربية لحقبة طويلة من الزمن، الأمر ساهم أيضا في رفع رصيد العسكرتاريا في العالم العربي. ثالثا، إن العسكريين في معظم البلدان العربية، سواء أكانو في مناصبهم، أم تخلوا عنها، دخلوا مجال الخدمة المدنية، وتحديدا قطاع الأعمال التجارية، وهو ما عزز التحالف بين جنرالات الجيش إجمالا، ورأس المال المالي، وجماعات الإقطاع السياسي، في دول يلعب فيها الانتماء الطائفي الدور الأساس في توزيع المناصب السياسية الرئيسية في الدولة.
لقد هيمنت المؤسسة العسكرية على المجتمع العربي ومقدراته، ما دفع المجتمعات إلى صرف جزء كبير من ميزانيتها على الجيوش وتدريبها وتسليحها، تماشيا مع ظاهرة أُطلق عليها “العسكرة”، التي يمكن القول: إنها عملية تتضمن توسيع نطاق المؤسسة العسكرية داخل المجتمع. رابعا، إننا كعرب نعاني نزعة “تقديس الزعيم” أو ما يسمى بـ”الأبوية البطريركية”، التي تساعد على نزوع الحاكم إلى الاستبدادية على مختلف المستويات. فيعاني الإنسان في هذه الدول سلطوية الأنظمة السائدة، وهو ما يؤدي إلى أزمات المجتمع المدني. يقول صموئيل هنتنغتون “إن للمجتمع العسكري ضرورات وظيفية للقيام بها في مجتمعات بلدان العالم الثالث خاصة. وهي ضرورات لا تستطيع الإدارة المدنية القيام بها لعدم تأهلها الإداري والعلمي. وأن المؤسسة العسكرية أقدر من أي مؤسسة أخرى على القيام ببناء المجتمعات في دول العالم الثالث”. ومن الملاحظ أن هنتنغتون يبني مقولته من خلال واقع المؤسسات العسكرية في الغرب، خاصة في أمريكا. وهي المؤسسات التي تعتبر من أكبر وأكثر مؤسسات الدولة تنظيماً وعلماً ودربة وخبرة في مختلف المجالات. فهل قامت المؤسسة العسكرية العربية بعد تحقيق الاستقلال للدولة العربية القطرية الحديثة بالدور التحديثي المطلوب منها، كما وصفه هنتنغتون؟ بالتأكيد، لا كبيرة! فالمؤسسات العسكرية العربية هي كوابح لتطور مجتمعاتها.
على صعيد الموناركية، ومثلما يؤكد المفكر المرحوم جورج طرابيشي في كتابه “نقد نقد العقل العربي” عن عملية تقسيم السلطة فيقول، “إن كان من يحكم واحداً، فالنظام السياسي يسمى موناركياً .وان كان من يحكمون نخبة، فالنظام هو الاوليغاركية. أما اذا كان الشعب بجملته هو الحاكم، فتلك هي الديمقراطية”.
للعلم، هيرودوتس، هو اول من وضع التصنيف الثلاثي المشهور للأنظمة السياسية في كتابه “التحقيقات” من منظور عدد الذين يتولون دفة الحكم. أما افلاطون فكان أول من أرسى في كتابه “الجمهورية” أسس النظرية السياسية. هذا التصنيف الثلاثي لأنظمة الحكم لم يطرأ عليه تعديل يذكر على امتداد حقبة العصور الوسطى الاسلامية والمسيحية على حد سواء. وكان لا بد من انتظار الأزمنة الحديثة ليرى النور تصنيف جديد وجدت مقدماته في كتابات مكيافيلي وهوبز ولوك، قبل ان يدرك نضجه مونتسكيو، مؤلف كتاب “روح القوانين”، ففي هذا الكتاب يقترح تقسيماً ثلاثياً جديداً: الجمهورية، الموناركية، الاستبداد. فمن وجهة نظره، أن الحكومة الجمهورية، هي تلك التي تعود فيها السيادة الى الشعب، أو إلى جزء من الشعب. أما الحكومة الموناركية فهي تلك التي يحكم فيها فرد واحد، ولكن بموجب قوانين مقررة وثابتة. أما عندما يحكم هذا الفرد الواحد بلا قوانين ولا ضوابط، وطبقاً لإرادته وأهوائه، فذلك هو الاستبداد بعينه.
وبغض النظر عن التقسيمات السياسية، ففي دول العالم العربي يحكم الفرد الواحد، الذي يجري تصويره “وكأنه ظلّ الله على الأرض”، فمن دونه، لم يكن باستطاعتنا ولن يكون حتى تنفس الهواء! رغم ازدياد نسبة الفقر سنويا أفقيا وعموديا، ورغم الغلاء المطرد، وزيادة مديونية الدولة إلى أرقام فلكية، كما الأمية وامتهان حقوق المرأة، ورغم الفساد والبطالة والسرقات، وانعدام التأمين بكافة أشكاله حتى على الطبابة والشيخوخة، وارتفاع رسوم التدريس الجامعي والاعتقال التعسفي وإخفاء المعتقلين أو إعدامهم. في عالمنا العربي حيث لا حرية للرأي الآخر، ولا ديمقراطية تطبق! في عالمنا العربي حتى الجمهوريات أصبحت تسمى “جمهوريات ملكية”، فالذي يزيح الحاكم عن كرسيه، إما الموت أو انقلاب عليه. نتساءل، هل يمكن للموناركية أن تكون عامل تطور، أم كابحاً له؟ من السهل بالطبع معرفة الجواب.
بالنسبة للتبعية، فإن الاستبداد يقود إلى فشل مخططات التنمية، هذا إن وجدت، فالأخيرة مرتبطة بالتطبيق الديمقراطي في الدولة، وهذا مفتقد في عالمنا العربي بلا استثناء، وهو ما يزيد من تعزيز العسكرتاريا والموناركية. بالطبع سيلجأ الحكّام من أجل المحافظة على مناصبهم إلى التبعية، التي تبتز الحاكم، كونها تدرك نقطة ضعفه، ثم ينتقل الأمر إلى الابتزاز السياسي والاقتصادي العام، ثم يتحول إلى إملاءات مفروضة على الدولة التابعة، والتي لا تمتلك حتى مناقشة ما يملى عليها. من هنا، فلا تطور في الوطن العربي ما دام هذا التحالف الشيطاني موجودا.