قال الناس كثيرا في العصا وقال الشعراء في الخيزران. وكلاهما كان في الثقافة العربية أداة ورمزا، ونحن يعنينا في هذا المقال استعمالها علامة لا أداة. سؤالنا هل المادة والأداة يمكن أن يتدخّلا في نوعية الرمز وتواتره واستعماله؟
الخيزران كلّ عود ليّن، والعصا كلّ عود يابس، والخيزران يقدّ من القصب والعصا تقدّ من الحطب والخيزران للكتابة والأدب، والعصا لمن عصى في التعليم وأراد بالتعذيب التأديب. لا يضرب بالخيزران إلاّ الحبيب، ولا يضرب بالعصا إلاّ كل من كان في العبيد عنيدا على رأي المتنبي. والعصا للرعاع والرعاة والخيزران للأمراء والثقات. لكن قد يتداخل الأمران، فمن الممكن أن تكون العصا للسلطان يتكئ عليها، أو بها يأمر وينهى فهي عصا أميرية ومن الممكن أن تكون الخيزرانة أداة رقيقة لراع يخشى أن يوجع إبله أو سيد يخشى أن يؤلم أمته أو عبده؛ تستبدل الأدوار وباستبدالها تتغير الأدوات لكنّ الرمز أي الاشتغال العلامي للشيئين يحافظ على نظامية أصلية متمكنة في العصا والخيزران.
في ثقافتنا المعاصرة باتت العصا رمزا أكثر منها أداة واستعمالا. من شأن الرمز المحافظة، يعني أنّ الأداتية والوظيفية قد تتبدّل لكنّ الرمزية ليست هينة التبدّل، لأنّها أعلق بالثقافة المخزنة في عادات الشعوب، فلا تموت ولا تندثر إلاّ باندثار المعتقد الذي يرتبط بها. وما زالت العصا إلى اليوم رمزا للتشدّد والتصلب في المواقف، وهذا الرمز مركّب لأنّه مستمدّ من مادة العصا نفسها وهي الخشب الشديد اليابس، الذي لا يصبح عصا إلاّ بهذه الصفات، فلا لين فيه ولا طراوة ولا مطاوعة. إنّه شكل جامد متخشّب: إمّا أن يكون على هيئته تلك، وإمّا أن ينكسر فهو ملازم لصفته محال أن يتغير إلاّ بالتقطيع، أو التجزيء، أو الاحتراق. في هذا الإطار الرامز للشدة والصلابة تحولت عصا موسى وأصبحت حيّة تأكل بقية العصي المنقلبات إلى حيات، لأنّ رمز الشدة منفتح على البطش والإفناء: إمّا أن تبقى قويا وإمّا أن تفنى.
بيد أنّ لين مادة الخيزران وانثناءها وطواعيّتها هو الذي يجعله في غالب الثقافات رمزا لكلّ أدوات النساء أو لقاماتهن المميزة المنثنية غنجا. في الثقافة الاسكندنافية فإنّ المعنى الذي يستمدّ منه ما يضاهي الخيزران يحيل على الانحناء هذا ليس تقريبا استعاريا ولا رمزيا، حيث نستعير فيه معنى الانحناء والانثناء الذي في عود الخيزران الطيع، لكي ننقله إلى عالم القيمة والصفات ونلبسها الأشخاص وأشياءهم، بل الأمر منحوت في معنى كليهما. ذلك أنّ ما سمّي الخيزران بالاسكندنافية هو المنحني نفسه وليس استعارة فيه. وفي الشعر العربي لا يقترن الخيزران بالمرأة وقدّها إلاّ استعاريّا، هي قدّ مستقيم وينبغي أن يكون نحيفا مصقولا ليّنا، وعند تحرّكه يكون فيه انثناء مراد ومحبّب ضرب كهزيز الريح لعرف طيّب. الاستعارة تمثّل به يدرك الرجل هيفاءه المتثنية، حتى إن كان يعرف قدّها ويجهل تفاصيل الخيزران. يمكن أن تُستمدّ هويّة المشبّه به أو المستعار من هوية المشبّه أو المستعار له إن كان هذا معروفا وذاك غير معروف. وما قيل لنا من أنّ التشبيه للبيان وأنّ المشبّه ينبغي أن يكون الأشهر في صفته من المشبه به، هو قول لا يعني أنّه الأشهر في إدراكنا له وبالتالي في إدراكنا لصفته. حين يكون من المألوف في ثقافتك المحلية أن تشبه امرأة طويلة بشجرة السّرول (أو السرو) لطولها ولا يعرف مخاطبك هذه الشجرة وتنبهه إلى نوعها وخصيصة طولها، فإنّه سوف يفهم من طول المرأة ماهية الطول في السرول.
هناك معان ندركها في الطبيعة ونستعيرها للكيانات التي تشبهها فيها، والعصا أداة ثقافية لم تثقفها الطبيعة، بل قل إنّها زادتها شدّة على ليونة أصلها الطبيعي. العصا شيء من الطبيعة كان حيا في الشجرة فلمّا استقام عصا تحجّر. لذلك ارتبطت به كل قيم الشدة وأخلاق كل ما كان جادّا. للعصا قيمة رمزية حين تصبح تُكأة للشيخ الذي لا تقيمه ساقاه، بل يحتاج أداة أكثر صلابة تشد هامته. في سؤال السفينكس Sphinx (أبي الهول) عن ماهوية الإنسان كانت العصا جزءا منه متعلقة بمراحله الأخيرة: إنها ثالثة ثلاثة: الساق والرجل والعصا. ثالثة ليست كثالثة الأثافي، بل أشد صلابة لأنّ الجسم وهو يستقيم لا يستقيم إلاّ متوازيا لا هرميا العصا تقوي الخطّ المتوازي من جانب من جانبيه ويمكن أن تباعد التوازن وتقربه بتنويع حركة الخطى. العصا المتًّكأ رِجْل فيها يدٌ كأنّما تريد أن تربط بين أداة الحبو الأولى وأداة المشي الوسطى والأخيرة: الساق. فحتى تمشي عليك أن تتكئ وعلى يدك أن تساعد ساقك في نوع من تركّب الوظائف الذي يحيل على أنّ المشي لا مردّ له من عون اليد. العقل حين يكبر لا يعالج الأشياء بالسرعة التي يعالجها، والجسد شاب والروح في أوج عطائها. هو يعالج المعلومات بأقلّ سرعة لكنّه يكون أميل في تلك المعالجة إلى ما يسمى في الدراسات العرفانية بالتحيّز الإيجابي.
التحيّز الإيجابي هو الظاهرة التي تجعل المرء يرى أنّ حياته موسومة أكثر فأكثر بالتجارب الإيجابية أكثر مما تسميها السلبية؛ وأن عليه أن يستمدّ العبر من تلك التجارب الموجبة لذلك يقبل الشيخ الارتكاز على العصا، إذ يرى فيها عونا لا عاهة؛ هي تعينه على أن يمشي ويحيا وتصبح العصا رمزا للاستمرار وشدّ الهامة واستدامة القامة. العكاز أو العصا هي اسم هذه الأداة التي يتكئ عليها الشيخ لكنّها في لغات أخرى تسمّى Canne وهو الاسم نفسه الذي يتسمى به الخيزران مثلما يسمّى العكاز أيضا عصا. الإشكال في الرؤية إلى الكون وليس فقط في التسمية: العكاز /الخيزران لا يمكن أن يقوم بوظيفته تلك، إلاّ إذا كان صلبا شديدا لا انثناء فيه. يتبع العود الخيزراني قامة صاحبه وينوّع رمزيته، لذلك يرتبط بالمرأة المتثنية الجميلة فشبابها من شباب الخيزرانة؛ لكنه يعلق أيضا بالشيخ (لا الشيخة) لأن للخيزران شدّته أيضا، شدّة تخفف من وهن الساق وليس الوهن بها مع الخيزران شديدا شدّته مع العصا: نحن نشيخ أكثر بالعصا وأقل بالخيزران.
هناك رمز ثقافي مكرر للعصا هو الصحبة والسفر، السفر الوحيد عونه العصا والسفر مع الصاحب سفر بصاحبين. لكنّ الحضارة العربية الإسلامية لا تعتمد في سفرها على العصا ولا في صحبتها عليها إلاّ قليلا، لأنّ العصا لم تبلغ هذا المقام الرمزي الذي يجعلها الأنيس والمؤازر والراحلة والرحلة، فالعصا رمز رحلة المتفكّرين الذين لا لثام يقي وجوههم حرّ الهجير. في الثقافة التي تكون فيها العصا رفيقا ورمزا للرحلة، فإنّ إلقاءها يعني الاستقرار والضرب بها في الأرض يعني العودة إليها. ومن هذه الناحية استخدمت العصا للرحلة فكان إلقاؤها رمزا للانقطاع عن السفر، لكنّ العصا عنصر مقتضى في الرحلة في قولهم (ضرب في الأرض) أي سافر، تفهم من ضربه الأرض بعصاه، ولكن تفهم أكثر في (ألقى عصاه) أي استقرّ. وطلب الرزق أو الأمل بالسفر تعني أنّ العصا هي عون على ذلك هو سفر الحاجة وليس سفر الحجّ، كما هو الحال في الثقافات المسيحية. ضرب في الأرض هي عبارة جاهزة فيها تركبت العبارة من الأثر المحدث بالعصا وهو الضرب في الأرض التي يكون فيها السفر من نقطة إلى أخرى. لكن أن تضرب بعصاك ويتشقق الماء فتلك مسألة أسطورية وسحرية يسافر فيها المرء، بين قدرته في الأرض وقدرة الله فيها.
ما زالت العصا ساحرة، ولكنّها ليست هي التي تنقلب، بل بأمرها تقلب الأشياء إلى خدع سحرية نعلم أنّها بارعة ولكنّ سطوتها على نفوسنا ظلت تقلّ شيئا فشيئا. والعصا اليوم ساحرة، لأنّها تحوّل الحركة إلى لحن في يد قائد الأوركسترا: قائد وساحر وصاحب لحن. هذا أعظم ما تجتمع فيه رمزية العصا، لأنّها تجمع تراثا كاملا من السلطات ولكن تحت غطاء الفنّ.
أستاذ اللسانيات بالجامعة التونسية