العصر الرقمي والمؤسسة

حجم الخط
6

يطرح علي دائما سؤال: “ما العمل؟”، أو “بماذا نبدأ؟” في حوارات أو عقب تقديم محاضرات. إنه السؤال الملغز والمحير، ولا سيما في الشروط السياسية والاجتماعية العربية التي تنعدم فيها أبسط الإمكانات التي تعطي نوعا من الأمل في المستقبل. يواجهني هذا النوع من الأسئلة كلما فتحت نافذة للتفكير، أو طرحت أسئلة للتحفيز على خلق منافذ جديدة في قراءة واقعنا الثقافي والتعليمي والاجتماعي. في المحاضرة الافتتاحية حول “الثورة الرقمية والإبداع” في الدورة 16 من ملتقى الشارقة للسرد الذي عقد بعمّان (ايلول/سبتمبر 2019 ) لاحظ الزميل المبدع محمد سناجلة على هامش الندوة أن ما قلته لا يتعدى ما ناديت به في سنتي 2005، و 2012 من خلال كتابيّ حول الرقميات. فكان جوابي أن ما أطرحه لا يزال يفرض نفسه علينا باستمرار، ونحن متخلفون عن المواكبة. صحيح يتزايد الاهتمام بما هو رقمي على المستوى العربي، ولكن بدون رؤية أو تصور!
أرى أن سؤال بم نبدأ؟ يرتهن إلى نوع الأسئلة التي نطرح. قد تكون بعض الأسئلة صحيحة، ولكنها حين تطرح بصيغة غير دقيقة، أو في سياق غير مناسب تكون بالضرورة خاطئة. كما أن السؤال الذي لا نستطيع الجواب عنه لأنه يستلزم عدة وعتادا مفقودين البتة غير صحيح حتى وإن كان سليما. ومعنى ذلك أن للسؤال شروطا لا بد من توفرها. أول هذه الشروط أن يكون ملائما في الفترة التي يطرح فيها. وأن يأخذ، ثانيا، بعين الاعتبار الشروط الواقعية الملموسة. وأن يكون، ثالثا، قابلا لأن يتحقق بالتدريج  في المستقبل. وأن يتخذ أخيرا بعدا مؤسسيا يتعدى حدود الفرد أو الأفراد الذين يطرحونه أو يفكرون فيه، بمعنى أنه يصبح شأنا جماعيا يفكر فيه المهتمون والمنشغلون بالحقل المعني بالسؤال.
تتصل الملاءمة بالعصر المعرفي الذي نعيش فيه، والإبدال الذي يهيمن لدى المجتمع العلمي، وأي تفكير خارج هذا الإبدال العالمي لا يمكنه أن يكتسب مشروعية أو مصداقية. ثم الانطلاق من شروط الواقع لا القفز عليها. والمقصود بذلك ألا يتجاوز السؤال حدود الممكن، مع العمل على التطور في الإنجاز عبر تحقيق تراكمات مهمة، تجعله في النهاية قابلا لأن تحتضنه المؤسسة العلمية التي تسهم في تقديم ما يتصل به من تفكير نظري وممارسة عملية. فبم يمكن أن نبدأ؟ لنجعل أسئلتنا واقعية وقابلة للتحول في واقع ينتهي إلى الطريق المسدود؟ لا بد من الجواب عن ما هي المؤسسة لنجعل من أسئلتنا ملائمة وممكنة.
أميز بين نوعين من المؤسسات. المؤسسة ذات البعد المادي والقانوني الذي تضعه الدولة من خلال “المرسوم” الذي يقر ويمنح الشرعية لما يراد تأسيسه جوابا عن الإشكال المطروح. أسمي هذا النوع: “المؤسسة المرسومة” لأنها تنبني على “المرسوم” الإداري الذي يعطيها حق الوجود عن طريق التنظيم والتنفيذ. أما “المؤسسة الراسمة” فتتصل بالفاعلين الذين يحولون مواد المرسوم إلى واقع فعلي عن طريق تجسيده في الحياة العملية. وقد تنبني، أحيانا، خارج إطار المؤسسة المرسومة، وتتحول بفعل نشاطها وحيويتها إلى فرض نفسها، وتحقيق مرادها بفعل استجابة المؤسسة الراسمة لمطالبها ومشاغلها التي تصب في خدمة المجتمع العلمي خاصة، وتكون لها آثار على المجتمع عامة.
في إطار العلاقة بين المؤسستين قد نجد إحداهما متقدمة عن الأخرى، وهي تعمل على إخضاعها لشروطها. سأكتفي بهذه العلاقة المزدوجة لأن هناك أنواعا أخرى من العلاقات التي يمكننا الوقوف عليها. قد تكون المؤسسة المرسومة متقدمة من حيث توفيرها بنيات تحتية مهمة، لكن عندما لا تكون المؤسسة الراسمة مُكوَّنة بشكل ملائم تغدو العلاقة سلبية بحيث يطغى الشكل على المحتوى. أو أنها تقترح المراسيم التي لا تشارك الراسمة فيها، وتفرضها من الأعلى فلا تكون بذلك مصداقية لما تقوم به هذه المؤسسة. وقد يحدث العكس بحيث تكون المؤسسة الراسمة نشيطة في غياب استجابة المؤسسة المرسومة أو ضعفها وتجاهلها لما يرفض من قضايا وأسئلة تتعلق بالمستقبل. فيحصل التعارض بينهما فتنشط الراسمة بمنأى عن المرسومة في الساحة الثقافية العامة، وليس في الفضاء الجامعي. وفي كل هذه الحالات لا تقوم الجامعة بدورها بسبب غياب التشارك بين المؤسستين في النظر والعمل. أما المؤسسة النموذجية فهي التي يتآلف فيها الشكل مع المحتوى، والمرسومة مع الراسمة، ولا يتم ذلك إلا من خلال التفاعل الإيجابي بين مكونات المؤسسة والفاعلين فيها.
سأحاول ضرب مثال للعلاقة التي تشكلت بين المؤسستين في المغرب من خلال شعبة اللغة العربية وآدابها. ظلت شعبة اللغة العربية تعتمد إلى أواسط السبعينيات في المغرب المقررات والمناهج التي نقلت إلينا من المشرق مع بداية تأسيس كلية الآداب من خلال التلاؤم بين المرسومة والراسمة. لكن منذ ذاك التاريخ، بدأت البنيوية التكوينية، والبنيوية تتشكل من خلال اشتغال الفاعلين في المؤسسة الراسمة (ترجمات، دراسات، مجلات، دور نشر…) خارج الجامعة. وبما أن أغلب المشتغلين بها صاروا أساتذة جامعيين فقد عملوا، بهدف تجاوز الدراسات التقليدية للأدب، على فرض كل المناهج الجديدة بالإضافة إلى اللسانيات على المؤسسة المرسومة فأدرجت ضمن المقررات الدراسية مع التغييرات التي طرأت إلى الآن. وحتى السيميائيات لم تصبح جزءا من المقررات إلا بعد أن عقدت ندوة بسيطة حولها (1981)، وظهرت أهميتها للجميع، فتكفل محمد مفتاح ودرسها عدة سنوات. وهي متواصلة إلى الآن. في هذه الحقبة كانت المؤسسة الراسمة نشيطة بسبب الدينامية الاجتماعية التي عرفها المغرب في ذلك التاريخ، فنجحت المؤسسة الراسمة في فرض مقررات ومناهج جديدة، فكان بذلك التحول الذي ساهم في الثراء الثقافي الذي جعلنا اليوم نتذكر الأعلام الفكرية والأدبية التي طورت الجامعة المغربية وأعطتها مكانة متميزة عربيا.
مع الألفية الجديدة، وفي نطاق التحولات العالمية، عملت المؤسسة المرسومة على تغيير النظام القديم بنظام الإمد (الإجازة، الماستر، الدكتوراه)، باستعجال، ولم توفر البنيات التحتية الملائمة، ورغم مشاركة المؤسسة الراسمة في هذا التغيير، فلم تلق النجاح المطلوب، ذلك بسبب الذهنية التقليدية التي نقلت إلى النظام الجديد، فلم يحصل أي تغيير حقيقي. وظلت تظهر خلال عقدين من الزمان، وفي كل مرة، محاولات لإصلاح الإصلاح؟ وأرى أن السبب الجوهري في ذلك يكمن في اعتماد النظر والعمل بدون المشاركة الحقيقية بين المؤسستين. فالمراسيم  تملى من فوق، والفاعلون يطبقون بدون أن يكون لهم أي دور في التفكير والتطوير. وكانت النتيجة هي هيمنة المؤسسة المرسومة على الراسمة التي صارت ضعيفة وعاجزة عن أخذ زمام المبادرة. فأين يكمن الخلل في هذه الصيرورة؟
لقد أحدثت المؤسسة المرسومة، في النظام الجديد، بنيات للبحث، ومختبرات، ومراكز. لكن المؤسسة الراسمة، بفعل التحولات الاجتماعية الطارئة عموما، وعدم قدرتها على تجديد نفسها، وتمثل روح النظام الجديد، وممارسته بكيفية مختلفة جعلها ضعيفة وغير منسجمة مع ما يجري. إن التعارض بين المؤسستين لا يمكن أن يؤدي إلا إلى النكوص والتراجع.
لم تتمثل المؤسسة الراسمة الثورة الرقمية، ولم يبق لها الهاجس الثقافي والاجتماعي الذي ظل رصيدها الأساسي حتى التسعينيات، فكان أن غاب السؤال والتفكير الجماعيان في مختلف القضايا الاجتماعية والثقافية. على النخبة السياسية والثقافية والأكاديمية أن تطرح أولا سؤال” بماذا نبدأ؟”، وتلك بداية البحث عن الجواب.
* كاتب مغربي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول S.S.Abdullah:

    يا حبيبنا ا. حاتم الطائي

    بخصوص إعلان الحرب في

    حاتم الطائي يكتب في موقع الرؤية:

    *المعركة مع “فيسبوك” وأخواتها!*

    أحب مشاركة ما نشرته جريدة القدس العربي لرأي (د سعيد يقطين) من المغرب

    https://www.alquds.co.uk/العصر-الرقمي-والمؤسسة/

    أولاً هذه الفرضية (ولا سيما في الشروط السياسية والاجتماعية العربية التي تنعدم فيها أبسط الإمكانات التي تعطي نوعا من الأمل في المستقبل.) ليس له علاقة بالواقع، فيما يتعلق بعنوان (العصر الرقمي والمؤسسة) يا د سعيد يقطين، بالذات،

    لأن عقلية تنشيف البحر/التشكيكية، لا يمكن بها منافسة فلسفة سوق أميركا ممثلة في موقع (أمازون)، أو منافسة حكمة سوق الصين ممثلة في موقع (علي بابا)،

    وبخصوص سوق الإعلام والإعلان، من معركة فيسبوك والدولة في أستراليا، وقبلها مع الدول الأوربية كمثال، لماذا ليس هناك شيء مشابه مع الصين (دولة بنظامين) أو مع روسيا؟!

    نأتي الآن لموضوع (وأن يتخذ أخيرا بعدا مؤسسيا يتعدى حدود الفرد أو الأفراد الذين يطرحونه أو يفكرون فيه، بمعنى أنه يصبح شأنا جماعيا يفكر فيه المهتمون والمنشغلون بالحقل المعني بالسؤال.) يا حبيبنا أبا طلال، Tesla ابن عائلة، لها ثار مع أي أصحاب سلطة أو حوكمة، مثله مثل دلوعة أمه (دونالد ترامب)،

  2. يقول S.S.Abdullah:

    ولذلك تجد منتجاته، ضد أن يُوفّر للدولة أي شيء، وهذا شيء غير منطقي ولا موضوعي وبالتالي ليس علمي، كما هو حال الجيل الحالي من Blockchain and e-Currency ولذلك أنا طرحت مفهوم الأرشيف العثماني كأساس للجيل الثاني، منها بواسطة مشروع صالح التايواني، في الوصول إلى سوق صالح (الحلال)، كمنافس محلي، من دولنا،

    لأهمية الدولة في توفير أجواء الأمان والسوق لعرض المنتجات والمنافسة فيه، ومن عملية توفير خدمات الإدارة والحوكمة، من هو أفضل من الآخر، تنتقل العقول والمال المنتج للمنتجات بين الدول في أجواء سوق العولمة،

    فما ورد صحيح، تحت عنوان

    وداعا *اتصالات*
    وداعا *زين*
    وداعا *موبايلي* !!
    الإنترنت الفضائي سينفذ هذا العام 2021م 12000 قمر صناعي في الفضاء جاهزة للبث،

    هذا دولي ولا يحق لهذه الشركات الثلاث إيقافه أو منعه لأن هذه الأقمار تخدم العلاقات والتجارة الدولية، تبدأ من 10 دولار شهريا حسب السرعات الميغابايت او التيرابايت وكل سرعة وسعة لها سعر وكل الأسعار في متناول اليد ..فقط ركب الدش في السطح وقم بالربط بالأقمار الصناعية والدفع عن طريق بطاقات الائتمان، أي سوق الاتصالات وليس فقط سوق الإعلام والإعلان ضاعت من يد دولنا، كوسيلة للإيرادات؟!

  3. يقول S.S.Abdullah:

    أحسنت يا شاهد، بهذا المثال عن موضوع حب الأم وكره الأب، وأضيف عليه مثال مقارنة ما بين افتتاح رئيس الصين جسر، وافتتاح وزير نقل في دولنا جسر، في نفس السياق الزمني؟!

    فمن ضحك على من، ومن كان أخبث مِن مَن، في موضوع عرض أمثلة عن سبب تأخير أو سوء الإنجاز، هنا؟!

    أنا جاهز للتجهيز، والتنفيذ، وقت ما يصحو أحد، للإنجاز في وقت ما، في أي دولة من دولنا،

    أنا أريد إيميل من الوزير، للحصول على (منتج الصين) ومن المحافظ للحصول على (منتج تايوان)، وعقد بين بيت الحكمة ودائرة الأوقاف للحصول على (منتج محلّي)،

    ومن المنافسة بين الثلاثة نخلق سوق (صالح) الحلال، ومن تعليم طريقة (صالح) في تعليم اللغات والترجمة بينها بطريقة موحدة، نخلق جيل، يستطيع إيجاد أرضية الإتفاق مع الآخر، لأي تبادل تجاري، أسرع من غيره،

    أرجع وأقول، بلدكم وأنتم أحرار به، خليكم بالتبريرات، وبعيداً عن عقلية الزمن والإنجاز.??
    ??????

  4. يقول S.S.Abdullah:

    من وجهة نظري، لتجاوز سوء الفهم والضبابية أو عدم الوضوح، من سوء الترجمة بين اللغات على الأقل، يجب وضع الأسئلة التالية أولاً:

    What’s the difference between Digitization and Automation?!

    Or What’s the difference between Management and Governance?!

    ما الفرق بين الرقمنة وبين الأتمتة؟!

    أو ما الفرق بين الإدارة وبين الحوكمة؟!

    التي تكلم عنها (د سعيد يقطين) تحت عنوان (العصر الرقمي والمؤسسة)، وما أطلق عليه (المؤسسة الراسمة) أو الإدارة وبين (المؤسسة المرسومة) أو الحوكمة،

    ولكن الأهم، الذي لم يناقشه، من المسؤول عن الإيرادات، وتحسينها، في إقتصاد أي دولة، الآن؟!

    في أجواء العولمة والمنافسة بين الجميع في توفير اللقاحات ضد (كورونا)، في عام 2021، أولاً،

    على أرض الواقع، فشل الدول الملكية، وبقية دول الهلال أو القمر الشيعي الذي عمل على تسويقه الملك عبدالله الثاني منذ عام 2004،

    في الحصول على لقاحات (كورونا) في 2021، من الشركات المنتجة، في أجواء سوق العولمة،

    مقارنة بنجاح دولة الكيان الصهيوني، الذي فاوض على استخدام معلومات كل إنسان أو أسرة أو شركة، في الدولة، مقابل ذلك،

    بالإضافة إلى جميع دول مجلس التعاون في الخليج العربي أو الفارسي، والآن كل منهم يحاول استغلال الفائض، للحصول على مميزات في كل المجالات.??
    ??????

  5. يقول عصام:

    مأساة العالم العربي هي طغيان الشخصنة وغياب المؤسسية، حيث العجلة يعاد اختراعها مع كل مسؤول ولا محصلة ملموسة بعد عقود !

    1. يقول S.S.Abdullah:

      أحسنت، نتيجة طبيعية من ثقافة الأنا أولاً، بدل ثقافة النحن كفريق أولاً

إشترك في قائمتنا البريدية