يلاحظ في السنوات الأخيرة، صدور كم كبير من الشهادات الجديدة عن سجون العراق. ابتداءا من سجن نقرة السلمان في الصحراء العراقية، الذي وضع فيه السجناء ليموتوا جوعا وإهمالا، أو سجون قصر النهاية، الذي كان قصرا للحكم، ثم تحول إلى مكان للتعذيب، مرورا بسجون ما بعد الغزو الأمريكي للعراق مثل بوكر، ولاحقا سيطرة «داعش» على الموصل وتأسيسها لعشرات السجون. والجديد في هذه النصوص، أنّ من كتبها لم يمارسوا العمل السياسي فحسب، وإنما عُرِفوا من خلال ممارستهم لمهن يومية مثل العطارة والتدريس.
وتعدُّ مذكرات المعلم العراقي علي محمد الشبيبي (1913ـ1997) واحدة من هذه النصوص التي نشرت في السنوات الأخيرة، وقدمت لنا صورة أكثر اتساعا عن عالم السجون العراقية قبل وبعد أحداث تموز/يوليو 1958.
وُلِد الشبيبي في النجف لأب فقد جميع أفراد عائلته في إحدى موجات الطاعون التي أصابت العراق نهاية القرن التاسع عشر. وقد تمكن هذا الأب (الشيخ محمد الشبيبي) عندما كبر من إكمال تعليمه الديني، وغدا واحدا من العلماء الدينيين في المدينة. كما عُرف عن عائلة والده اهتمامها بالنشاط السياسي، وهذا ما برز من خلال قريبه السياسي محمد رضا الشبيبي، الذي تولى عدة مناصب وزارية، من بينها منصب رئيس مجلس الأعيان (حتى ما عُرف بثورة تموز 1958). وفي فترة الأربعينيات، عُيِّن الشاب علي مدرسا في إحدى قرى النجف، وبموازة ذلك أبدى تأثرا بأخيه (حسين) الشيوعي، ما انعكس على شخصية علي وعلى كتابته حتى آخر أيامه، لكن هذا الاهتمام الحزبي، لم يعرقل نجاحه في العمل التعليمي، وتكوين سمعة جيدة في عالم التدريس، وكتابة القصص أيضا، وهذا ما نلاحظه في أسلوبه الممتع والشيق في كتابة مذكراته، إذ يبدي مهارات سردية وقصصية، خلال حديثه عن المجتمع العراقي ومكوناته. كان المعلم القادم من مدينة البصرة يلزم كوخه حالما ينتهي الدوام، وينفرد بنفسه بصورة هي أقرب إلى الكسل منها إلى الارستقراطية. بينما يقضي المعلمان البغداديان معظم ساعات النهار في المقهى، في إشارة لغنى حياة المقاهي في مدينة بغداد آنذاك، مقارنة بباقي المدن. ولعل هذا التتبّع لتفاصيل الأشخاص المحيطين حوله، هو ما ميّز نصّ هذا المعلم، وبالأخص عند روايته لتفاصيل السجون التي أودع في داخلها في الفترة الملكية والجمهورية. فعوضا عن رواية ما عاشه مع أولاده في السجن من تعذيب، كما درجت عليه الكتابة في مذكرات السجون، نراه يتراجع إلى الخلف متبنّياً أسلوبا في كتابة أدب السجون، يمزجُ بين العام والخاص والتحوّلات التي عاشها العراقيون، من خلال حيوات الناس العاديين داخل السجن.
كان العراق بعيد الحرب العالمية الثانية، يندفع إلى أحداث سياسية كبيرة، تشهد على ذلك المظاهرات التي عمّت البلاد بعد إبرام معاهدة (بورتسموث) بين العراق وبريطانيا. وهي المعاهدة التي ضمنت لبريطانيا عدداً من الامتيازات في العراق، من بينها السماح للجيوش البريطانية بدخول البلاد متى تشاء. وقد اعتُقِل علي الشبيبي وعدد من رفاقه في المظاهرات التي اندلعت في بغداد، وأودعوا في معتقل الموقف العام. إلا أنه لم يمكث طويلاً. وعاد بعد خروجه للعمل في إحدى مدارس قرى النجف.
بعد قدوم جمال عبد الناصر ورفاقه للسلطة في مصر عام 1952، بدأ العراق يعيش حراكا حزبيا جديدا، يهدف إلى تكرار ما حدث في القاهرة، وهذا ما تبلور مع ما عُرِف بانقلاب عبد الكريم قاسم عام 1958. وهنا بدا الشبيبي متفائلا وسعيدا بما جرى، لكن القائد الجديد تحول لاحقا إلى شخص قامع للحراك الحزبي. بدت البلاد كلها تغلي، وعلى الرغم من أنّ الشبيبي كان قد ترك العمل السياسي، لكنه يظهر في مذكراته أكثر ميلا لرواية الشيوعيين، التي شاركوا فيها بعدة أحداث دموية. مثلما حدث في الموصل بعد فشل انقلاب العقيد عبد الكريم الشواف (8 آذار/مارس 1959)، التي قام على إثرها بعض الشيوعيين بالهجوم على أحياء المدينة، والتنكيل بالأهالي بتهمة المشاركة في الانقلاب. إلا أنّ محاولة الشبيبي تبرئة الشيوعيين عما حدث، لم تعنِ بالمقابل موافقته على ما جرى. عادت السياسة لتطارده مرة أخرى مع قدوم البعثيين، لكنها بدت أكثر فداحة، إذ وجد نفسه برفقة ولديه في أحد سجون النجف بتهمة الانتساب للحركات الشيوعية. وكما فعل الشبيبي في فترة الخمسينيات، عاد في أحد سجون كربلاء ليروي لنا تفاصيل أيضا عن حياة السجناء العاديين، الذي التقاهم داخل المعتقل. نعثر على فتى من العمال بدا ظهره مدمى جراء الضرب، وعلى فلاح، وصل السجن والدماء جافة على رأسه وظهره، وكلما حاول التبوّل، كان يأتي إليه السجان ويركله ويوجه له أبشع الشتائم.
أطلق سراح الشبيبي بعد عدة أسابيع بكفالة، بعد التحقق من عدم ارتباطه بالشيوعيين تنظيميا. وخلال عدة أشهر، وجد نفسه مرة أخرى يقضي سنتين في السجن، إثر انقلاب 18 تشرين الثاني/نوفمبر 1963, وقد وُضِع هذه المرة في سجن الحلّة المدني. بدا له السجن مكونا من عدة عنابر، وفي العنبر الأول (القلعة الوزيرية) نرى مكانا صغيرا، يبدأ بعرض لا يتجاوز المترين ويتقلّصُ تدريجياً إلى متر واحد. يضم أربع غرف صغيرة، لا تكفي لإنسان واحد بفراشه ومعداته. وعند النوم لا يتمكن الشخص التمدد براحة، أو التقلب على جنبيه عند الضرورة، وكانت مجاري السجن تمر من داخل هذا العنبر، واستيقظوا أحد الأيام وقد فاضت عليهم المجاري، وامتلأت غرفهم بالأقذار. ولأنّ معظم السجناء كانوا قد حوكموا في قضايا ثانوية، فقد سمح لهم بالحصول على ما يريدون داخل السجن، ومن بين الأشياء اللافتة للنظر والعجيبة، حصولهم على تلفزيون! سيكتشف الشبيبي لاحقا أنّ سماح إدارة السجن بذلك ليس محبة بالسجناء أو للتخفيف عنهم، بل لأنّ الدولة الأمنية الجديدة أدركت أهمية ودور التلفزيون في صناعة المزاج العام، ولذلك وافقت على إدخاله وحصره بمحطة الدولة، بينما منعت الراديو بالمقابل، فهو «جواب يأتيك بكل محطات إذاعة العالم». على الرغم من هذا المنع، تمكّن السجناء من إدخال أعداد كبيرة من الراديوهات.
ذات يوم كان الشبيبي يقرأ في السجن قصة «دوريت الصغيرة» للكاتب الإنكليزي تشارلز ديكنز، ودهش وهو يقرأ هذه العبارة (إن السجين تبدأ مشاعره تلين نحو السجن بعد أن يخرج منه). وهنا أخذ يتساءل «كيف يحن المرء لحجز حريته، بل كيف ينسى أياماً كان كل يوم فيها يعادل عاماً. فهو ثقيل الخطى كئيب الملامح. وكيف يرتاح لتذكّر ذلك المكان الضيق الذي ما يكاد يحل فيه نزيلا حتى يبدأ يشعر بأنفاسه تختنق، ومشاعره تتبدل. ويتحول بعد قليل إلى إنسان يختلف تمام الاختلاف عما كان عليه قبل أن يلج باب السجن. فقد يكون قبل يومه ذاك رجلاً انبساطيا، طلق اللسان، كثير الحديث، كثير العلاقات والصلات بالناس، ولكنه في السجن ينقلب رأساً على عقب، فينكمش وينطوي على نفسه في زاوية كطير كسير الجناح، في نظراته استغراب وحيرة وتساؤل. وفي خطواته وسائر حركاته حذر، وعلى قسمات وجهه كآبة عميقة».
في عام 1997 رحل الشبيبي عن دنيانا صامتا، لكنه ترك لنا مذكراته، التي نُشِرت في طبعتين (الأخيرة دار المدى 2022)، واحتوت قصصا فريدة عن تاريخ الناس العاديين والعقاب في العراق، وكيف أخذت السجون في التاريخ الحديث للعراق ودول المتوسط، تتحول من أماكن لمعاقبة اللصوص وقطاع الطرق والمجرمين، إلى مختبر لصناعة «الأمة الطيعة».
كاتب سوري