في السابع عشر من هذا الشهر قبل عشرة أعوام، انطلقت من مدينة سيدي بوزيد في الوسط الغربي التونسي شرارة أشعلت حريقاً سياسياً ما لبث أن شمل سائر جهات تونس، ثم امتدّ إلى كافة أرجاء المنطقة الناطقة بالعربية في ما درجت تسميته منذ عام 2011 «الربيع العربي». وقد سادت طوال أولى أشهر ذلك «الربيع» نشوة كانت بحجم الموجة العارمة التي تمثّلت في صعود شامل لحركات الاحتجاج في عموم المنطقة، بلغ ذروته في ست انتفاضات كبرى إذ تبعت تونس خمسة بلدان، هي مصر واليمن والبحرين وليبيا وسوريا. بيد أن الموجة الثورية، بعد المدّ الذي شهدته في سنتها الأولى، عرفت جزراً مهّد لهجوم مضاد للثورة: فبعد تطويق الثورة البحرينية وقمعها، جاء صمود النظام السوري في وجه الانتفاضة الشعبية وما عقبها من حرب أهلية حتى تدخّل إيران لإنقاذه في عام 2013 وجاء بعده الانقلاب العسكري الرجعي في مصر، ثم تلتهما جملة ارتدادات أخرى أدّت إلى نشوب حرب أهلية في بلدين آخرين، هما ليبيا واليمن. ومع هذه الانتكاسة الخطيرة، تبدّدت الأوهام والنشوة وحلّ محلّها تشاؤمٌ صاحبَه استعجال الكثيرين إلى إعلان نهاية أحلام «الربيع العربي».
لكن نشوة الموجة الثورية وكآبة الانتكاسة نشأتا سيان عن انطباعات سطحية تجاهلت سمتين رئيسيتين للانفجار الكبير الذي خضّ المنطقة. السمة الأولى هي أنه انفجار عميق الجذور يجد مصدره الأساسي في أزمة بنيوية مستعصية تتعلق بتحوّل النظام السياسي والاجتماعي السائد إلى عائق للتنمية، بما أدّى إلى معدّلات نمو اقتصادي شديدة الانخفاض وبالتالي معدّلات بطالة شديدة الارتفاع، لاسيما البطالة الشبابية والنسائية. فإن تحوّل المدّ الثوري إلى جزر رجعي لم يحلّ قط تلك الأزمة البنيوية، بل استمرت تتفاقم على خلفية انعدام الاستقرار السياسي الذي بات سائداً في المنطقة منذ انفجار الأزمة. وهذا يشير إلى أن ما جرى في عام 2011 لم يكن سوى بداية سيرورة ثورية طويلة الأمد لن تتوقف قبل أن يحدث التغيير الجذري الضروري في طبيعة النظام السياسي والاجتماعي السائد، أو تغرق المنطقة في ردّة خطيرة وتآكل مأساوي من شأنهما أن يؤدّيا إلى مرحلة تاريخية مديدة من الانحطاط.
أما السمة الثانية فهي أن النظام السياسي والاجتماعي السائد في المنطقة العربية متحكّم بقوة بمفاصل الدولة، ولاسيما بقواها المسلّحة، بحيث أن التصوّر الذي ساد خلال أولى أشهر «الربيع العربي» بأن المنطقة ستشهد «انتقالاً إلى الديمقراطية» بسلاسة ما شهدته مناطق أخرى من العالم، إنما كان تصوّراً ساذجاً مبنياً على سوء تقدير لصلابة جسم الدولة الرئيسي وعمودها الفقري القمعي، كما لاستعداد النخب الحاكمة إلى تدمير بلدانها وقتل وتشريد شعوبها حفاظاً على سلطتها وامتيازاتها، على غرار ما فعله النظام السوري. وقد عزّز ذاك التصوّر الساذج الخلط بين «إسقاط النظام» الذي يريده الشعب وفق الهتاف الشهير، وبين تضحية «الدولة العميقة» برأسها حفاظاً على ركائزها، مثلما جرى في تونس وبعدها مصر، تمهيداً لطفو قمة جديدة فوق سطح الماء على طريقة جبل الجليد.
أما السمتان مجتمعتان فمؤدّاهما أن إنجاز التغيير الذي تحتاج المنطقة إليه لتجاوز أزمتها المزمنة يتطلّب قيادة أو أطر قيادية للحراك الشعبي على درجة عليا من التصميم الثوري والوفاء للمصلحة الشعبية بحيث تتمكن من إدارة العملية الثورية واجتياز الامتحانات والمِحَن العسيرة التي يقتضيها التغلّب على الأنظمة القائمة باستمالة قواعدها المدنية والعسكرية، قيادة كفيلة بأن تُشرف على تحويل الدولة من أداة نهب للمجتمع لصالح أقلية إلى أداة خدمة للمجتمع بأغلبيته الكادحة. وما دامت مثل هذه الأطر القيادية لم تنبثق أو تفرض نفسها بعد، فإن السيرورة الثورية سوف تستمر لا مُحال في تعاقب بين المدّ والجزر وبين الهبّة الثورية والردّة المضادة للثورة.
التصوّر الذي ساد خلال أولى أشهر «الربيع العربي» بأن المنطقة ستشهد «انتقالاً إلى الديمقراطية» بسلاسة، إنما كان تصوّراً ساذجاً مبنياً على سوء تقدير لصلابة جسم الدولة الرئيسي وعمودها الفقري القمعي، كما لاستعداد النخب الحاكمة إلى تدمير بلدانها وقتل وتشريد شعوبها حفاظاً على سلطتها
وقد شكّل العقد الأول من السيرورة الثورية العربية تأكيداً لأطروحة السيرورة طويلة الأمد. فإن انتكاسة «الربيع العربي» وما رافقها من حروب أهلية في ثلاثة بلدان ومن عودة للنظام القديم بحلّة جديدة، حلّة كانت في مصر أقبح بعد من تلك التي ارتداها نظام ما قبل الثورة، تلك الانتكاسة لم تترافق قط باستتباب الاستقرار الاجتماعي في المنطقة، بل ما برحت تشهد انفجارات اجتماعية وحركات سياسية متتالية من بلد إلى آخر، بل ومن جهة إلى أخرى داخل البلد الواحد، مثلما حصل في المغرب وتونس ومصر والسودان والأردن وسوريا والعراق وهلمّ جرّا.
وما لبثت المنطقة أن شهدت موجة ثورية ثانية انطلقت بعد انطلاق الأولى بثماني سنوات، دشّنتها الانتفاضة السودانية التي بدأت في التاسع عشر من هذا الشهر قبل سنتين، وتلاها في عام 2019 الحراك الجزائري ومن بعده انتفاضتا العراق ولبنان. والحصيلة أن عشر دول عربية شهدت انتفاضات خلال العقد المنصرم، أي أن ما يناهز نصف بلدان المنطقة، وهي تشمل غالبيتها السكانية العظمى، قد عرفت هبّات ثورية عارمة، فضلاً عن أن البلدان الأخرى شهدت جميعاً تقريباً صعوداً ملحوظاً للحراك الاجتماعي والسياسي خلال العقد المنصرم. هذا وإذا صحّ أن جائحة كوفيد ـ 19 قد جمّدت النضالات الاجتماعية القائمة وردعت انطلاق غيرها الجديد، يبقى أن مفعولها آني لن يدوم إلى الأبد، خاصة وأن ما أحدثته من تفاقم للأزمة الاقتصادية في المنطقة من شأنه أن يسعّر نار الغضب الشعبي.
أما التحدّي الأكبر الذي يواجهه الجيل الثوري الراهن الذي تسيّس في خضمّ الانتفاضات، والشرط الرئيسي لتمكّنه من الانتقال من الانتفاضة إلى الثورة الناجزة، فيكمنان في مسألة القيادة سالفة الذكر ببُعديها التنظيمي والسياسي. فإن الجيل المتمرّد الجديد، ليس في المنطقة العربية وحسب بل وفي العالم أجمع، محقّ بلا شك في حذره من التشكيلات السياسية والأيديولوجية القديمة، وقد أدرك كيف أن تنظيماتها قد انتهى بها الأمر إلى طغيان التسلّط البيروقراطي أو الزعامات الفردية، وخانت القِيَم التي ادّعت تجسيدها لتتكيّف مع شتّى أنماط الاضطهاد السياسي والاجتماعي والثقافي. لذا نجد جيل التمرّد الجديد حريصاً على أفقية حركته، رافضاً التمركز العمودي ومفضّلاً التنسيق بصيغة الشبكة على نحوٍ تجسّده خير تجسيد ظاهرة «لجان المقاومة» في السودان.
أما في الجانب السياسي، فإن السيرورة الثورية الإقليمية سيرورة تراكمية مثل كافة السيرورات طويلة الأمد في التاريخ. فإن الجيل الواحد يستخلص دروس التجارب والأفشال التي يمرّ بها، كما أن العِبَر تنتقل من جيل إلى آخر ومن بلد إلى آخر في إطار السيرورة التاريخية المديدة. هكذا رأينا كيف أن الموجة الثورية الثانية، أو ما أسماه بعض المعلقين «الربيع العربي الثاني» تفادت الأوهام التي سادت في الموجة الأولى.
ويكمن خير مثال على ذلك في المقارنة بين بلدان المنطقة الثلاثة التي تتميّز بسيادة المؤسسة العسكرية فيها، ألا وهي مصر والسودان والجزائر. فحيث غلبت في مصر في عام 2011 ومن ثم في عام 2013 أوهام كبيرة حول تولّي المؤسسة العسكرية مهمة «الإنقاذ» رأينا كيف تفادى الحراك الشعبي في كل من السودان والجزائر الوقوع في ذلك الفخ، مستمراً في إصراره على تحقيق مدنية السلطة بوصفها شرط ديمقراطيتها. وقد رأينا أيضاً كيف تيقّظ الحراك في كل من العراق ولبنان لتفادي الوقوع في شرَك العصبية الطائفية التي طالما استخدمتها الجماعات الحاكمة لتفرقة صفوف الشعب من أجل تعزيز سيادتها عليه.
طبعاً، لا زالت المسافة بين الوضع الحالي للحركة الشعبية، والشبابية على الأخص، ومتطلّبات تحقيق تطلّعات الجيل الجديد التقدّمية الثورية مسافة هامة، بينما تتعاظم احتياطات النظام العربي الرجعي برمّته ويتزايد تكالب أركانه على التصدّي للسيرورة الثورية الإقليمية.
فإنه بلا شك لطريق شاق ذاك الذي يقود إلى الخلاص الثوري المنشود، لكن العزم على سلوكه يحفزّه إدراك أن لا بديل عن هذا الخلاص سوى الذلّ والهلاك.
كاتب وأكاديمي من لبنان
أشكرا القدس العربي والكاتب على التشخيص البليغ المبين والطرح المناسب لقضية أولوية.
لوية،للأسف الواقع مرير كما تم تصويره، ومع أن المنافع التي يكتسبها المدافعون عن أولياء نعمتهم هزيلة إلا أنهم نكاية بغيرهم يحادّون ولو كانوا على باطل وخاسرين. وهذه عقلية “المخالفة والمماحكة مستفحلة”
عوامل فشل الثورات:
1. الجهلة والمثبطين الجبناء الكسالى المعادين للتطور والتقدم والذين يفتقرون لتقدير المصالح والمكاسب.
2. المنتفعين من الأنظمة خلال عملهم في شبكتها القمعية والسلطوية ومحبي الاستفراد بالأولويات والحكم.
3. الرأسماليين والفنانين والراقصات المستفيدين من الحماية التي يوفرها لهم النظام.
4. علماء الجهل والسلاطين ومتديني “الهيامية” و”العشقية” ومدعي “الثباتية، الالتزامية” الموالية للأنظمة بحكم ولاء “سيد المريدين” الذين يرون في الإصلاح والتغيير والثورة بدع وخروج مستورد.
يتبع
المشكلة الرئيسية التي جعلت ثورات الربيع العربي تنكفيء ولا اقول تفشل لأنها جمر تحت رماد، هو عدم وجود قيادة تقود الثورة وتؤطرها. لهذا السبب استطاعت أنظمة الطغيان أن تقمعها بدفع من أنظمة البترودولار.. الخوف دفع الانظمة القمعية إلى التعاون ضد الشعوب وتطلعاتها. شكرا استاذ جلبيرت
نحن لآ نعلم من أين جآئوآ بهؤلآء المجرمين الذين يقتلوآ شعوبنا ويسرقون ثروات البلاد ليضعوها في بنوك سويسرآ وأمريكا ..ولكن الآن كل شئ إنكشف وبان .. بعد أن تقسمت الدول العربيه من إنجلترا وفرنسا هم من وضعوآ حكام عملآء لهم وزرعوهم بحيث يدفعوآ الجزيه مثل المليارات التي دفعت لترامب من ملك السعوديه . وهكذآ بانت حقيقة المخبئ .. علي شعوبنا أن تسترجل وتدافع عن الأرض والعرض أوترضي بالذل والهوان والقتل.
(التصوّر الذي ساد خلال أولى أشهر «الربيع العربي» بأن المنطقة ستشهد «انتقالاً إلى الديمقراطية» بسلاسة، إنما كان تصوّراً ساذجاً مبنياً على سوء تقدير لصلابة جسم الدولة الرئيسي وعمودها الفقري القمعي، كما لاستعداد النخب الحاكمة إلى تدمير بلدانها وقتل وتشريد شعوبها حفاظاً على سلطتها)…
هذا ما يُسمَّى بلغة ما يُترجم خطأ بـ”الخطاب الواصف” حتى من لدن البحثاء المختصين في هذا المجال، هذا ما يُسمَّى بـ”تصوُّر التصوُّر لإثبات (صحة) الرأي المُتَصَوَّر”… الكل يعرف بأن الثورات الشعبية العربية، أو أية ثورة شعبية في التاريخ، لم ولن تحقق أهدافها المنشودة بتلك السلاسة التي يستند الكاتب إلى تصوُّرها حجَّة في (منطقية) وفي (صوابية) تحليله السياسي لما جرى من أحداث تغييرية في المنطقة… وبالمناسبة، كل ما كتب عن الثورة الشعبية السودانية التي كان (يفضِّلها) على بقية الثورات قد أثبت النقيض تماما لما يجري على أرض الواقع… !!! فما أسهل، لا بل ما أسلس، وضع اللائمة على أي شخص أو أي شيء سوى الذات… !!!
فإنه بلا شك لطريق شاق ذاك الذي يقود إلى الخلاص الثوري المنشود، لكن العزم على سلوكه يحفزّه إدراك أن لا بديل عن هذا الخلاص سوى الذلّ والهلاك.
شكرًا أخي جلبير الأشقر. ربما يضاف إلى العوامل المذكورة في المقالة, الخطأ في تقدير الموقف الدولي وخاصة الأمريكي (وأوباما ليس إلا رئيسا لأمريكا!) وارتباطه بالحفاظ على مايسمى أمن إسرائيل والحقيقة هذا الأخير لايعني إلا أن تفرض أو تحتفظ إسرائيل بإرادتها الإستعمارية (أصلًا وفصلًا) على المنطقة العربية. فلا عجب أن حرية الشعوب العربية والإنتقال الديمقراطي هو خطر على هذه الإرادة الإستعمارية. ولو كان الإنتقال السياسي في دول شرق أوربا يتعارض مع هكذا إرادة لما حصل انتقال سلس. لننظر مثلًا كيف أن أوربان رئيس المجر وغيره, لهم علاقات طيبة مع اسرائيل رغم الشعبوبة والتطرف والعنصرية في سياستهم!