العلمانية بين الصهاينة والعرب

« لن يتم فصل الدين عن الدولة… لأبد الآبدين».
هل تصدق أن هذه العبارة ليست لأحد الإسلاميين الذين يطلق عليهم «الأصوليون»؟
بل هل تصدق أن قائلها ليس مسلما بالأساس؟ ربما تأخذك الدهشة عندما أعيد الجملة بتمامها بعد ملء مكانها الفارغ…
«لن يتم فصل الدين عن الدولة في إسرائيل لأبد الآبدين»، إن قائلها هو يئير لبيد، زعيم حزب «ييش عتيد»، الأكثر تمثيلا للتيار العلماني في إسرائيل، ليضعنا أمام تساؤل واجب: ماذا يريد علمانيو الصهاينة؟ هل هم مع الدين أم ضده؟ لم تكن مقولة لبيد شذوذًا عن آراء رموز العلمانية الصهيونية الذين يفترض بهم معاداة الدين والدعوة إلى نبذه، فالكاتب الصهيوني العلماني موشيه بن عطار، يصرح بأن فصل الدين عن الدولة في إسرائيل شعار أجوف، وغير واقعي، سواء على الصعيد المبدئي والعملي، ولا يمكن قبوله لأنه يعفينا من تحمل تبعات انتمائنا اليهودي، على حد قوله.
أما أستاذ الفلسفة في الجامعة العبرية شاؤول روزنفيلد فيقول: نحن العلمانيون في إسرائيل لا يمكن أن نقبل فصل الدين عن الدولة، لأن هذا يمثل خطرًا وجوديًا على الدولة، فهو يعني القضاء على هوية الدولة وطابعها اليهودي».

لم يقدم العلمانيون العرب نموذجا نهضويا رغم تنفُّذِهم ووجودهم في مواقع السلطة، فكل طروحاتهم نظرية، سجالات ومؤتمرات وكتب

المثير للدهشة فعلًا، أن العلمانية اللادينية الشاملة هي التي أسست من خلال أيديولوجيتها الصهيونية دولة يهودية، فأساطين الصهيونية أمثال هرتزل وبن غوريون، أعلنا إلحادهما، ومع ذلك اعتمدا على الديانة اليهودية في تأسيس وطن قومي لليهود في فلسطين، فهرتزل يصف فلسطين عندما طُرحت كوطن لليهود – بجانب الأرجنتين وغيرها ـ وصفها بأنها صرخة عظيمة تجمع اليهود، وبن غوريون كان يرفض دخول المعبد ولا يؤمن باليهودية كدين، لكنه مع ذلك أقام دولة إسرائيل على أساس الطوائف الدينية اليهودية، وأظهر احترامه ليوم السبت، وسمح بإنشاء المدارس الدينية. السبب في ذلك هو قناعة رموز الصهيونية بأهمية الدين لتجييش اليهود على فكرة أرض المعاد، فلذا تبنى الخطاب العلماني ديباجات دينية.
وكما يقول الدكتور عبد الوهاب المسيري في موسوعته الشهيرة، الصهيونية حركة قامت باقتلاع مئات الألوف من اليهود من أوطانهم، ونقلتهم إلى أرض معادية داخل مجتمعات تُكن لهم البغض. ولذا، لجأت الصهيونية للعقيدة اليهودية لتحل مشكلة المعنى للمادة البشرية المنقولة. لذلك مهما ظهر من الصراع بين العلمانيين والمتدينين في المجتمع الإسرائيلي، فإنه ستبقى هناك أرضية مشتركة للالتقاء على أهمية الدين للإسرائيليين، انطلاقا من إيمانهم بمركزية الدين في حياة الشعوب والدول، وهذا ما قرره علماء الاجتماع مثل أرنولد توينبي وغيره، فلا نستغرب إذن، أن تتولد من الحركة الصهيونية جماعات متدينة ترى أن الدين اليهودي والقومية اليهودية شيءٌ واحد.
العلماني الصهيوني له حظٌ من الأصولية مهما عارض وجود الدين وتمرد عليه، وهناك فكاهة تقول «لو عاش يهودي في جزيرة فإنه يبني معبدين، أحدهما حتى يصلي فيه، والآخر حتى لا يصلي فيه».
بين تل أبيب (معقل العلمانية) والقدس المحتلة (معقل المتدينين) مسافة مشتركة من الإيمان بيهودية الدولة، رغم الصراع بينهما، نعم هناك فرقٌ بين من يرى أهميتها انطلاقا من الدين والعقيدة، وبين من يرى أهميتها كرأس حربة للمشروع السياسي الصهيوني، لكنه في النهاية لون من ألوان التوافق الذي لا نرى مسحةً منه في علمانيّ أمتنا.
في الفترة الأخيرة ازداد معدل التوافق بين العلمانيين والمتدينين استفادت منه حكومة الاحتلال، وامتد ذلك إلى أخطر أجهزة الكيان الإسرائيلي وأعني الموساد، الذي يعد أعتى حصون العلمانية الإسرائيلية.
وقد نقل دكتور العلوم السياسية والباحث في الشؤون الإسرائيلية صالح النعامي في أحد تقاريره عن صحيفة «ميكور ريشون» أن عناصر من التيار الديني الصهيوني يُقبلون بحماس للانضمام لصفوف الموساد، وأشارت الصحيفة إلى أن تعاظم عدد المتدينين في الموساد دفع الجهاز إلى تدشين كنيس في قلب مقر الجهاز، لكن الخطوة التي تعكس ثقل المتدينين في «الموساد» تمثلت في قرار الجهاز توظيف حاخام على كادر الجهاز مهمته تقديم استشارات فقهية لعناصر الجهاز المتدينين. هناك تعاظم واضح لنفوذ المتدينين، وهناك احترام أوضح لهؤلاء المتدينين من قبل القيادة السياسية والعسكرية، حتى أن المجندات في الجيش الصهيوني يصرحن بأن قادتهن يمنعونهن من التوجه لغرف الأكل في القواعد، وقت تواجد الجنود المتدينين الذين يصرون على جو من الحشمة والتحفظ.
الصهيونية التي طرحت نفسها كهوية بديلة عن اليهودية، لتحل الإثنية محل الديانة، لم يكتب لها النجاح، لأن الإثنية اليهودية ليس لها إرث تاريخي طويل، وإنما تعتمد على تراثها الديني.
لا أزعم أن هناك انسجاما بين العلمانيين الصهاينة واليهودية، لكنهم أكثر نضجا من العلمانيين في أمتنا، ففي المقام الأول يقع على رأس أولوياتهم الحفاظ على دولتهم، حتى إن اقتضى الأمر بعض الانسجام مع المتدينين، خاصة بعد تنامي الهجرة العكسية وظهور الانقسامات المجتمعية الإسرائيلية على السطح، فهم يعلمون جيدًا أهمية الدين في جمع الشتات اليهودي، إضافة إلى عنصر استغلال المخاوف المشتركة من أعداء المنطقة، ولذا توافق العلمانيون والمتدينون في عدد من القضايا، كان منها ما ظهر مؤخرا من إجماعهم على تعزيز العلاقات مع اليمين المتطرف المتنامي في أوروبا.
أما العلمانيون لدينا فلهم شأنٌ آخر، معاركهم محصورة في إقصاء الدين بأي وسيلة، مدفوعون بهوس التقليد للتجربة الأوروبية في الثورة على الدين، بدون مراعاة الفروق الجوهرية في البيئتين، ولا يكتفون بمعاداة أصحاب الفكرة الدينية، بل إنهم ينتقدون شريحة من العلمانيين يبحثون عن جذور إسلامية للعلمانية، ويحتجون بنصوص دينية، ويعتبرون ذلك المسلك انبطاحا وتنازلا.
وكنت أقارن إبان الانقلاب التركي الفاشل قبل ثلاثة أعوام، بين نضج العلمانيين الأتراك الذين وقفوا إلى جوار الشرعية، ورفضوا ذبح الديمقراطية رغم عدائهم الصارخ لحزب العدالة والتنمية ذي الجذور الإسلامية، حيث لم ينتهزوا الفرصة للتعاون مع الانقلابيين في إسقاط الحكومة، ونموذج عربي علماني في مصر، ساند أتباعه زعيم الانقلابيين على الدكتور مرسي، رحمه الله، الرئيس الشرعي المنتخب، ولم يبالوا بوقوع الدولة في قبضة العسكر ووأد أي فرصة لحكم مدني، فما يهمهم القضاء على الإسلام السياسي.
ومع ذلك لم يقدم لنا العلمانيون في أمتنا نموذجا نهضويا رغم تنفُّذِهم ووجودهم في مواقع السلطة، وفي مجالس وُلاة الأمر، فكل أطروحاتهم نظرية، سجالات ومؤتمرات وكتب، وإغراق في معارضة الثوابت الدينية.
سيقول بعضهم: تنتقدين العلمانيين العرب، فماذا عن النموذج الإسلامي؟ ماذا قدم؟
فأقول إن المنهج الإسلامي لم تتح له في الوقت المعاصر فرصة للتعبير عن نفسه، فقد حالت هيمنة الديكتاتورية والتدخلات الخارجية دون وجود نموذج إسلامي يقود الأمة في مشروع نهضوي، فليس لنا أن نحاسب المنهج الإسلامي الذي تم تقييده وحجبه عن واقع الناس، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

٭ كاتبة أردنية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول كريمة مختار:

    من المغالطات الكبرى التي يفترضها المتزمتون والمتعنتون عن العلمانية هي (معاداة الدين والدعوة إلى نبذه)،…
    وهذا ما بدأت به الفقيه مقالها بالحرف والتحريف مستندة إلى نفس الافتراض ومكررة نفس المغالطة دون أن تبين أي فهم علمي للعلمانية، سواء كانت في المجتمع اليهودي أو المسيحي أو المسلم!!؟؟

    1. يقول عمر:

      يا سيدة كريمة, وهل تستطيعين ان تثبتي عكس ذلك؟ مئة سنة من حكم العلمانيين, وكل هذد الادبيات الموجودة بين ايدينا اليس خير دليل على معاداة العلمانيين العرب للاسلام, وحصرهم معركتهم وبذل كل جهدهم فقط في محاربة الدين؟ وليتهم بقوا في هذا الحد, بل من اجل ذلك حتى تحالفوا مع الاستعمار وحصلوا على دعم الغرب المستميت من اجل وصولهم وبقائهم في السلطة لكي يدمروا اوطاننا!؟ ثم لا ننسى بعض العلمانيين العرب, اصحاب الضمير الانساني, مثل عزمي بشارة والمنصف المرزوقي,لاينكرون ذلك بل يعرون العلمانيين العرب بعمومهم ويثبتون انه فعلاً انهم فقط يعادون الاسلام وليس شئ آخر!

    2. يقول كريمة مختار:

      يا سيد عمر ، العلمانية الحقيقية ليست معادية للدين أبدا. أنت تخلط، كما تخلط الفقيه نفسها، بين العلمانية الحقيقية و(العلمانية) التي يدعيها العرب من ناحية، وبين الإسلام الحقيقي و(الإسلام) الذي يدعيه أغلب المسلمين والمسلمات التي يتكلمون عن الثوابت النهائية ولا مجال للنقاش فيها من ناحية أخرى!!؟؟

    3. يقول عمر:

      السيدة كريمة, إذا لم نرى من العلمانيين العرب, منذ ظهورهم لأول مرة, سوى معاداة الدين, فأي علمانية اخرى لها وجود إذا لم تكن هذه هي العلمانية الحقيقية؟ ممكن ان تذكري مثال للعلمانية الحقيقية في بلداننا؟ ثم لم الانكار على ان العلمانية في جوهرها ظهرت للإقصاء(فصل) الدين من الحياة العامة وحصر الحياة والسياسة بايدي اللادينيين فقط وحصر الدين فقط في القلب وعدم جواز اظهارة؟ السؤال الاخير, الم تظهر العلمانية في مجتمعاتنا من قبل اناس لا دينيون يقلدون الغرب و مبهورون(ظاهرا) بقشور الحضارة الغربية وأخذوا فقط مساوئ الغرب وتركوا العلوم وما يفيد الانسان؟

  2. يقول أبوطارق:

    مقالة جميلة ولكن غريبة لبعض الشيء حيث تركيزك مكثف في دور الدين اليهودي و مقدار الإهتمام به حتى من النخبة العلمانية، وما كان ليحدث ذلك إلا لاستخدامه كأداة تجميع القومية اليهودية في أرض الميعاد كما ذكرتي.
    وما أدهشني حقيقة هو معرفتك عنهم بأدق التفاصيل التفاصيل وكأنك متخصصة في دراسة أحوالهم.
    و أنا أتفق معك تماما أن علمانيوهم أكثر نضجا
    بوركت على مقالة فائقة الروعة و مثرية بعلومها

  3. يقول عربي حر:

    تحية للقدس العربي
    وتحية للكاتبة المتميزة
    احسنت المقارنة واحدا وصف حال علمانيينا المنكوبين بتبعية الغرب بالشعارات البراقة كالتنويير والديموقراطية والتجديد ولكن الواقع يفضح زيف أفكارهم.
    رغم أن العلمانيين العرب يسيطرون على الاعلام المرئي والمقروء ولهم الوزارات وحتى الرئاسات واحزابهم مدعومة داخليا وخارجيا ألا أن حصيلة عملهم هي سجون ممتلئة واوطان مفلسة وممزقة .
    لا مشكلة عند العلماني العربي أن يكون قنطرة للعسكري للجلوس على كرسي السلطة شريطة أن يناله نصيب من فتاتها وهو في تحالفه مع البيادة يهدف الى تصفية خصومه الذين عجز عن هزمهم عن طريق الصندوق الانتخابي فلجأ للدبابة طلبا للسيادة .

  4. يقول تيسير خرما:

    العلمانية مدرستان متناقضتان إحداهما متحجرة كعلمانية أتاتورك وبورقيبة وبعض أوروبا لا تقبل مشاركة مؤمن بدين سماوي بسياسة وحكم ووطن بينما الثانية منفتحة كعلمانية أمريكا وبريطانيا وكندا وأستراليا وألمانيا لا تعادي دين سماوي ولا تحظر فكره أو مشاركته بسياسة وحكم ووطن فهي أقرب لأول دولة مدنية بالعالم أنشأها محمد (ص) بالمدينة تحفظ نفس وعرض ومال وأسرة ومجتمع وعدالة. وبدولنا تجد علمانيين من الفئتين فالمنتمي لعلمانية متحجرة يود احتكار سياسة وحكم ووطن ولو لم تنتخبه أكثرية فيتكبرعلى أغلبية منتمية لدين سماوي.

  5. يقول ابو محمد:

    مقال ممتاز يصلح إن يكون بحثا
    حياك الله دكتورة اخسان

  6. يقول مهرة موصلي:

    ما خرّب العرب و المسلمين الا تصنيف هذا متدين وهذا علماني وهذا يميني وهذا يساري.طوال ألف سنة من الحكم العربي الاسلامي من المدينة المنورة الى اسطنبول مرورا بدمشق وبغداد لم يكن هناك هذا التمييز بين الناس.

  7. يقول الوعد الحق:

    للاسف استاذه احسان فالصهاينة نجحو فى ان يتمسكو بعدم فصل الدين عن الدولة بل وفى الوصول بالافكار المتطرفة للحكم فى وقت تنكر صهاينة العرب للدين وحاربوا ما يسمونهه بالاسلام السياسى ..

  8. يقول نبيل شتيوي:

    بارك الله فيك، مقال رائع
    وفقك الله

  9. يقول AL NASHASHIBI:

    OUR IGNORANCE BRINGS OUR CATASTROPHE IN EVERY THING…. YOUR DOGMA IS YOUR DEED INDEED .
    وطني المفدا. وشعبي المنكوب
    نعم نعم نعم. لن نتغيير من واقعنا المأساوي إذا لم نغيير مفهومنا للحياه الانسانيه عامه والعربيه والإسلامية خاصه
    نعم للمعرفه العلميه المبنية علي العقل المنير والقلب المحب
    أي الوحده الانسانيه في كل الأقطار العربيه أي حب لأخيك كما تحب لنفسك…لو اخذنا بتعليم ابنانا في جميع علوم ومناحي الحياه فلا داعي الي وجود أي عنصر استعماري مباشره أو غير مباشر علي تراب هذا الوطن العزيز العفيف بشعوبه والغني بثروته ه والفقير بعلوم أبنائه….

  10. يقول فريد الجزائري:

    الخلاصة من هذه المقالة الرائعة أن العلمانية عند اليهود لا تتناقض مع الأفكار الدينية وعلاقة علمانيو إسرائيل مع المتدينين منهم علاقة طبيعية لا حقد فيها و لا كراهية خدمة لمصلحة الكيان و ربطا لكل الطوائف اليهودية التي تؤمن أن وجودهم و تجمعهم مبني على أساس ديني و أنه لا وجود لمجتمع صهيوني دون الديانة اليهودية
    على العكس تماما من العلمانية بالدول العربية التي تعتبر الدين أفيون الشعوب و بالتالي حشدت ضده كل الوسائل الممكنة و غير الممكنة و ناصبته العداء في غياب تام لرؤية المصلحة العليا للأمة و التي تقتضي التعامل بواقعية ومصلحة الأغلبية دون إهمال حقوق الأقلية.

1 2

إشترك في قائمتنا البريدية