الضجة المثارة حاليا حول العنصرية ورموزها في الدول الغربية ضرورة لإعادة كتابة تعريفها ومناخاتها السياسية والثقافية. ولن يكون السجال حول هذه الظاهرة المقيتة والقديمة مجديا إذا انحصر بإزالة الرموز الجامدة التي تمثلها ماضيا وحاضرا، بل يجب أن يكون شاملا ليتصل بالواقع الذي يشهد تجليات كثيرة لها.
ويفترض كذلك أن يتجاوز إطارها قضايا اللون أو العرق ليصبح مؤثرا في صياغة مواثيق دولية ملزمة لدول العالم وشعوبها. فالعنصريون يغيرون مواقفهم وسياساتهم لمواجهة ما يعتبرونه تحديا لثقافتهم وإن كانت غير مرتبطة باللون او الجنس او العرق. لذلك فهناك فرصة مفيدة لأمور عديدة: اولها اعادة تعريف العنصرية ضمن اطر عقلية وسياسية دولية تتوافق عليها دول العالم وشعوبها، ثانيها: اعادة فتح سجلات التاريخ المعاصر لاستيعاب الظاهرة وتجلياتها ونضال ضحاياها من أجل بناء مجتمع عالمي متصالح مع نفسه بتعدد أعراقه واجناسه واديانه. ثالثها: اعادة تشكيل التوازن العالمي ليتناسب مع الواقع الجديد للعالم وتخلخل التوازن القديم الذي قام بعد الحرب العالمية الثانية، ويجب أن ينعكس ذلك على التشكيلات الدولية بما فيها الأمم المتحدة ومجلس الأمن والمؤسسات الدولية الأخرى.
لقد كانت جريمة قتل المواطن الأمريكي الأسود، جورج فلويد الصاعق الذي فجر الغضب العام في الولايات المتحدة وعدد من الدول الاوروبية، والسبب أن السود أصبحوا قوة فاعلة في هذه المجتمعات، مستعيدين ظلاماتهم التاريخية التي تحولت الى ثقافة في نفوس الاجيال المتعاقبة. وبرغم سعي الكثيرين منهم للانخراط ضمن السياقات العامة للمجتمعات الغربية، الا ان ذلك التاريخ بقي مصدر غضب لا ينتهي خصوصا في ظل تنامي المجموعات العنصرية كنتيجة للظاهرة الشعبوية التي تعم هذه الدول. هذا برغم ان السود تمازجوا كثيرا في هذه المجتمعات، ولهم حضور فاعل في فضاءات الرياضة والغناء والقطاعات العامة، خصوصا مع انتماء الكثيرين منهم للدين المسيحي.
هذه الحقائق وفرت زخما لردة الفعل ازاء قتل جورج فلويد، وساهمت في فتح ملفات الماضي العنصري خصوصا في الولايات المتحدة وبريطانيا. مع ذلك تجدر الاشارة لاحتمال حدوث تداعيات اخرى لما يحدث هذه الايام من اسقاط تماثيل الشخصيات التي ارتبطت تاريخيا بتجارة العبيد والاضطهاد الاستعماري البريطاني في القرون الاخيرة. فالسياسة البريطانية معروفة بهدوئها والانحناء امام العاصفة لمنع تفاقم الأزمات. هذا الانحناء يساعد قادتها لاستعادة التوازن واسترجاع المبادرة للانقضاض على ما تمخض عن العاصفة واعادة الأوضاع الى المربع الاول ربما مع تعديلات شكلية.
لم تعد العنصرية التي تمارسها مجموعات اليمين المتطرف محصورة باللون، بل أصبحت تشمل ما يعتبرونه «تهديدا ثقافيا»، واصبح المستهدفون بالعنصرية ليس ذوي السحنة السوداء فحسب بل المسلمين الذين اصبحوا مستهدفين بسبب ثقافتهم وانتمائهم الديني. وهنا قد يصبح السياسي عنصريا، كما قد يكون القديس الذي يتحسس من وجود المسلمين ويعتبره خطرا على «الهوية المسيحية» للمجتمعات الغربية عنصريا ايضا. وقد يكون لهذه العنصرية مصداقية اخرى يمكن ملاحظة بعضها في سياسات الرئيس الأمريكي الحالي الذي اصدر قرارا بمنع مواطني عدد من الدول الاسلامية من دخول الولايات المتحدة. هذا القرار كان أحد تجليات العنصرية، ولكنه لم يواجه بمواقف او سياسات فاعلة من الجانب العربي والإسلامي، لسببين: اولهما ان النظام السياسي العربي خائر ومتهالك وضعيف وليس بمستوى المسؤولية، وثانيهما ان الشعوب حرمت ثقافة العطاء وتم تهميشها فأصبحت تعيش على هامش الحياة بعد أن فقدت القدرة على المبادرة. ولا شك ان غياب ردة الفعل العربي والإسلامي ازاء العديد من السياسات الأمريكية ومن بينها نقل السفارات الى القدس وإقرار ضم الأراضي الفلسطينية للكيان الإسرائيلي، ساهمت في تشجيع البيت الابيض لانتهاج سياسة اكثر رعونة وتحديا للرأي العام العالمي. وفي الاسبوع الماضي أقر الرئيس الأمريكي فرض عقوبات على موظفي محكمة الجنايات الدولية بعد ان قررت النظر في جرائم الحرب التي تنسب للقوات الأمريكية في أفغانستان والعراق والإسرائيلية في الضفة الغربية وقطاع غزة. وقال وزير الخارجية مايكل بومبيو إنه قلق بسبب تهديد المحكمة بفتح ملف القوات الإسرائيلية في ما يتعلق بـ «ما يسمى جرائم حرب ارتكبتها في الضفة الغربية وقطاع غزة». فحين تعترض الدولة الكبرى في العالم على اداء جهة دولية تحظى باحترام العالم، أليس في ذلك انتقائية للعدالة وعنصرية؟
بدأ الارتداد الغربي عن المبادئ التي روجها في العقود الأربعة السابقة. وبرغم تحرر مانديلا وسقوط النظام العنصري في جنوب افريقيا إلا أن القوى الداعمة لم تغير سياساتها التي اتسمت بقدر كبير من العنصرية
الامر المؤسف ان المفاهيم والقيم كثيرا ما يتم اخضاعها للأمزجة السياسية وليس للحقائق والقيم. ففي العام 1975 أقرت الأمم المتحدة في جلستها العمومية القرار رقم 3379 الذي نص على ان «الصهيونية أحد اشكال العنصرية والتمييز العرقي». ولكن الضغوط الأمريكية والإسرائيلية وتراجع الموقف العربي والهرولة الى اوسلو دفع الامم المتحدة لتبني القرار 86/46 الذي ينقض القرار الاول. فقد اشترطت «إسرائيل» الغاء القرار 3379 للمشاركة في مؤتمر السلام في مدريد في تلك الفترة. وساهم ضغط البيت الابيض في عهد جورج بوش في صدور ذلك القرار. فهل هذا قرار سياسي؟ ام اخلاقي؟ ام قيمي؟ وكثيرا ما اصطدمت الرغبات السياسية بالاعتبارات القيمية، الامر الذي جعل العالم يتجه تدريجيا بعيدا عن المبادئ التي تبناها في العقود الاربعة التي اعقبت انتهاء الحرب العالمية الثانية، يومها كانت معاناة شعوب اوروبا وامريكا من دوافع النظام العالمي الجديد متمثلا بالأمم المتحدة للبحث عن مواثيق وقيم تنظم المسار العالمي وتحفظ للشعوب بعض حقوقها، فبرزت شعارات من نوع: حق تقرير المصير، رفض العنصرية، ترويج حقوق الإنسان، دعم التوجه نحو الديمقراطية، حماية الاقليات، رفض الاستبداد والديكتاتورية. كما أقرت مواثيق جنيف لتنظيم قضايا الحرب بالإضافة لقضايا السلام المذكورة، وتمت الاشادة بالنضال ضد الاستعمار، وطرحت قضايا التوازن الاستراتيجي ضمن مهمات الأمم المتحدة التي شملت ايضا البحث عن عالم آمن بالسيطرة على انتشار الاسلحة النووية. وبرغم التهديدات لأمن العالم في حقبة «الحرب الباردة» الا ان التنافس بين المعسكرين، الشرقي والغربي، ادى لتحرر بعض الشعوب وتنامي الوعي لدى العالم الثالث، فتم تشكيل الجهات الدولية المرتبطة بالأمم المتحدة والمعنية بالحفاظ على السلم العالمي. كما نشأت الجامعة العربية ومنظمة عدم الانحياز ومنظمة المؤتمر الإسلامي، والعديد من المنظمات المعنية بالأوضاع الاقتصادية في العالم.
في ذروة الحرب الباردة كانت شعوب العالم الثالث تتعمق في الوعي والنضال من اجل الحرية والمساواة، وبدت الانظمة المؤسسة على التمييز والعنصرية خصوصا في جنوب افريقيا وفلسطين، مرفوضة عالميا. فكانت هناك مقاطعة شبه شاملة لكلا النظامين. بينما تعرضت الولايات المتحدة لعدد من التراجعات وشهدت حركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة اندفاعا ملحوظا خصوصا في حقبة الستينيات. وفي جنوب افريقيا كانت هناك حركة «الوعي الأسود»، بينما شهدت فلسطين ولادة منظمات نضالية في مقدمتها منظمة التحرير الفلسطينية. وقبيل انتهاء الحرب الباردة شهد النضال ضد العنصرية قفزة كبيرة بخروج نيلسون مانديلا ورفاقه من السجن بعد 27 عاما. حدث كل ذلك قبل الانتكاسة القيمية على المستوى العالمي. بدأت هذه الانتكاسة بعد الحرب التي شنتها أمريكا وحليفاتها على القوات العراقية في الكويت، وهي الحرب التي أعادت الولايات المتحدة الى موقع الهجوم بعد ما انكفأت عن ذلك الموقع بعد انتكاساتها في الحرب الكورية وفيتنام. ومنذ ذلك الوقت بدأ الارتداد الغربي عن المبادئ التي روجها في العقود الاربعة السابقة. وبرغم تحرر مانديلا وسقوط النظام العنصري في جنوب افريقيا إلا أن القوى الداعمة لم تغير سياساتها التي اتسمت بقدر كبير من العنصرية. ودخل العالم مرحلة تميزت بالمناكفات الداخلية التي تداخلت فيها قيم الحداثة بالرجعية، ومبادئ الديمقراطية بالاستبداد، وقيم حقوق الإنسان بالتطبيع مع منتهكيها. العنصرية هذه المرة بدأت تتخذ انماطا مختلفة وعناوين شتى. فأصبح التمايز الثقافي احد تجلياتها. لذلك لا يتحدث عنصريو اليوم عن التمايز في لون البشرة او العرق فحسب، بل عن التباين الثقافي ايضا. فأصبح هناك تمييز على اساس الانتماء الديني او المذهبي. فالهند تميز ضد المسلمين الوافدين الى اراضيها، وتعاملهم بنمط مختلف عن بقية الاجناس او الاعراق او الاديان، و «إسرائيل» قائمة على التمييز ضد الفلسطينيين. أليس هذا ضربا من العنصرية؟
كاتب بحريني
معظم مهاجري آسيا وأوروبا لأمريكا بذلوا الجهد وأنجزوا الحلم الأمريكي وبنوا عظمة أمريكا على بعد آلاف أميال من بلاد أصلية ومنهم ملونون من كل الأعراق والأديان، بالمقابل تقاعس بعض مهاجري أمريكا اللاتينية وبعض مواطني أمريكا السود واستسهلوا الكسب غير المشروع بأضعاف ما نسب لمهاجري آسيا وأوروبا وأن لاحقتهم أجهزة أمنية يحاول بعضهم الإفلات فيهرب ويقاوم إعتقال وتحصل أحياناً إصابات تستغلها أحزاب معارضة فاشلة فتدعم مطلب حرية ارتكاب جرائم وحرية هرب وحرية مقاومة إعتقال وحرية تفادي محكمة وعقاب حسب قوانين سارية.
بكل دولة أفراد وجماعات تعارض قوانين سارية فتسعى للكسب بطرق غير مشروعة من جرائم سرقة ومخدرات وإغتصاب وتجارة بشر وغسل أموال إلخ وأن لاحقتهم أجهزة أمنية يحاول بعضهم إفلات من محاكمة بموجب قوانين سارية فيهرب ويقاوم إعتقال وتحصل أحياناً إصابات، لكن المضحك تحول حق تظاهر سلمي من مطالب مشروعة كتعليم وصحة وتشغيل إلى مطالب بحماية حرية ارتكاب جرائم وحرية مجرم بالهرب من الشرطة وحرية مجرم بمقاومة إعتقال وإفلات من محاكمة وعقاب وتتفاقم المصيبة حين يتم دعم ذلك من أحزاب معارضة أو أقليات عرقية أو جهوية أو عشائر