العنصرية مرض أم قرار …

حجم الخط
8

يأخذ القضاةُ في قاعات المحاكم بعين الاعتبار الحالة العقلية والنفسية لشخص ما ارتكب جريمةً أو جناية ما، إذ تجري إحالته إلى مختصّين لفحص إذا ما كان مسؤولاً عن أفعاله أم لا.
هناك قصص في التاريخ العربي عن دكتاتوريات تسامحت مع المجانين أو مع من ادّعوا الجنون، مثل قصة الحجّاج بن يوسف مع شيخ من بني عجل، وهناك دكتاتوريات تحاسب حتى المجانين لأنَّهم يشكلون تحدِّياً للسُّلطة، وليكونوا عبرة لمن يعتبر.
في الأنظمة العنصرية تجري تبرئة المُجرمين إذا ما ارتكبوا جريمتهم ضد أحد من أبناء المجموعة المختلفة التي تمارَسُ العنصرية ضدها، أو يكون الحُكم مخفّفاً، بحجّة أن الفاعل يعاني من اضطرابات نفسية، فلا يُقدَّمُ إلى محاكمة، أو أن يكون حكمه خفيفاً جداً.
يمارس العنصري المُجرم حياته كلها بصورة طبيعية مثل أي شخص آخر، مع أسرته والمحيطين به، ولكنه يضطرب عندما يلتقي بأولئك الذين يمارس عنصريته ضدهم.
يتوهَّم المريض بالعنصرية أنّه ينتمي إلى المجموعة الأفضل وهذا في الجينات، وأيُّ واحد منها، حتى ولو كان مجرماً ونصّاباً وقواداً، فهو أفضل من أي واحد من المجموعة الأخرى حتى ولو كان هذا عالماً متميّزاً وفاضلاً.
حتى عندما يرى فعل خير من أحد أبناء المجموعة الأخرى، فهو يعتبرها حادثة شخصية نادرة لا تنطبق على المجموعة، ولهذا كثيراً ما نسمع عبارة «لا يبدو عليك بأنّك عربي» عندما تفعل خيراً ليهودي عنصري! أو أن يكون الرَّد فيه إهانة غير مباشرة «بلا شك يوجد عرب طيّبون»، بمعنى آخر، أن العرب أشرار عموماً، ولكن يحدث لسبب ما أن يكون أحدهم طيّباً. وكي يتأكد العنصري من فاعل الخير هذا، فقد يسأله: هل أنت مسلم أم مسيحي وربما درزي؟ فإذا كان الفاعل مسلماً، أبدى دهشة أكبر، وقد يرى في أنّ هذه المساعدة تنطوي على خبث وأمر مُبيّت.
العنصري يرى في الآخر القُبح، وتستفزّه لغته بمجرد سماعها أو رؤيتها على لافتة، ويشمئزُّ من طريقة تناوله لطعامه، ومن طريقة لفظه للكلمات، وحتى إذا رآه يُقبّل ابنه فهو لا يرى فيه حناناً إنسانياً عادياً، ولا يؤمن بأنه يتألم لفراق أحبِّته، بل يعتقد أن ألمه وبكاءه تمثيل، فالآخر غير قادر على الحزن ولا على الفرح، لأن العنصري يجرِّده من مشاعره الإنسانية.
يرى العنصري في أبناء مجموعته أكثر إنسانية وقيمة من الآخرين، عندما يسمع بحادث طرق مثلاً، أو مصرع شخص ما في مكان عمل، أو كارثة حلّت في بلد ما، فإنّ أوّل ما يريد معرفته هو هويّة الضحايا، هل هم من جماعتنا أم من جماعتهم؟
تصوّر أن يقف أحدهم فوق جريح في الشارع بعد حادث طرق، ثم يلتفت ويسأل من حوله: هذا عربي أم يهودي؟
سوف يتألم كثيراً إذا كان المصاب من مجموعته، وسوف يعبّر عن هذا بالأسف الشديد ويستفزُّ الهمم لمساعدته، ولكنه سوف يتنفس الصعداء إذا عرف أنّ الضحية من الجماعة الأخرى. وإذا كان من المجموعات الفاشية، فهو لن يخفي فرحته لمصيبة الآخرين، فالمستوطنون مثلاً يطلقون المفرقعات فرحاً بهدم بيت فلسطيني أو سدّه بالإسمنت المسلح.
تكرَّر في أوروبا في السنوات الأخيرة جرائم ضد مسلمين، وأعلن أن منفِّذها مضطربٌ نفسياً، أما في المناطق الواقعة تحت الاحتلال الإسرائيلي، فلم تعد حاجة لادعاء الخلل النفسي، فأي ذريعة أخرى مقبولة.
لكن السّؤال هو لماذا اختار هذا «المضطرب نفسياً» قتل إنسان ينتمي إلى المجموعة الأخرى، فخطّط وتدرّب وقطع مسافة لأجل ارتكاب جريمته، وأعدَّ خطة مُحكمة للفرار من المكان، ولن يرتكب جريمة كهذه ضد أفراد المجموعة التي ينتمي إليها، بكل بساطة لأنه سويّ وعاقل في تعامله مع مجموعته، ويختل نفسياً فقط عند تعامله مع الآخر.
تقول دراسات إن الانحياز للمجموعة التي ينتمي إليها الإنسان هي أمر مفهوم وطبيعي، ولكن أن يكره الآخرين ويؤذيهم كي يعزّز انتماءه إلى مجموعته فهذه تصبح حالة مرَضية.
العنصرية المؤذية ليست وليدة ساعتها ولا ابنة سنتها الأولى، فهي نتيجة لتراكمات طويلة في التربية البيتية، وفي مناهج التدريس وفي الإعلام الرّسمي التي تقلل من قيمة الآخر وتسلبه إنسانيته، وتجعله اللص والقاتل والمعتدي والمغتصب، في كل الحالات تجعل من مجموعتها ضحايا للآخر وتتّهم الضَّحية بالعنصرية، حتى إنها تجعل من الدولة مسكينة وطيّبة وضحية لهذا الآخر، مثل ادعاء أن العرب الفلسطينيين يسرقون أراضي دولة إسرائيل، بحيث يصبح التخلص من الآخر مشروعاً وعملاً مقبولاً اجتماعياً.
تزداد العنصرية في تغوّلها كلما شعر الطرف الذي يمارسها بقدرة الضحية على الصمود وحتى الرّد، فهو لا يتقبل الضحية إلا خانعة، ولا يتخيّل أو يتقبل أن هذا الآخر القميء الحقير البذيء اللص المحتال قادرٌ على الرّد، ولهذا نسمعهم يقولون إن الرّد على الرَّد هو في المزيد من القوّة والعنف حتى تركيع الآخر.
هذه العنصرية لها ثمن، وهو أن الضَّحية ترى في هذا الذي يمارسها ضده أيضاً فاقداً لإنسانيته، وسوف يتطوَّر هذا الشُّعور كلما ازدادت العنصرية في تغوُّلها، حتى ترى الضحية فيها تلك الصفات التي رُميت بها، فالضحية سينظر من زاويته أيضاً أن هذا العنصري فاقد لإنسانيته، ولن يصدّقه إذا تألّم، وسيعتبره مصدر كل الشرور، وسوف يقول «لعنهم الله» كلّما ذُكر اسمهم، وسيقول أيضاً إذا رأى خيراً من أحدهم: «إن خِليت بليت»، وبالضبط تلك المقولة العنصرية: ليس كل اليهود سيئين فهنالك يهود طيّبون! وسيقول عندما يعامله يهودي بلطف: يا سلام، لا تشعر بأنّه يهودي أبداً. وقد تجد من يغالي أيضاً ويفرح في مصائبهم.
العنصرية ليست مقتصرة على قوميات ضد قوميات أو ديانات أو أعراق مختلفة، فقد تمارسها الطبقة الحاكمة في المجتمع والتي تستمتع بطيبات السُّلطة وإمكاناتها ضد شرائح من أبناء شعبها وقومها، وقد تكون موجّهة ضد منافسين لها على هذه السّلطة من أبناء قومها ودينها وجنسها ومواقعها الاقتصادية، وقد تتطور إلى العنف في بعض الحالات.
في النهاية، العنصرية ليست مرضاً عضوياً يولد مع الإنسان، بل هي قرار من المحيط والمجتمع وقيادته، ويمكن الشفاء منها من خلال التربية والتوجّه الرَّسمي من قيادات دولة أو مجتمع، فمقولة واحدة من قائد له اعتباره تجاه المجموعة الثانية ممكن أن تخفّف كثيراً من غلواء العنصرية، مثل امتداح أخلاقياتها وكرمها، أو حتى امتداح طعامها وحلواها وموسيقاها أو لغتها وشعرائها وأدبائها وفنونها وبعض عاداتها الجميلة، في النهاية كلنا بشر، وما أحوجنا إلى الإنسانية ونبذ العنصرية بكل أشكالها.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    بالنسبة لي فإن العنصرية مرض !
    الإسلام عالج هذا الأمر في القرآن والحديث ,
    واعتبر الإسلام بصريح العبارة ,أن العنصرية , جاهلية نتنة !!
    ولا حول ولا قوة الا بالله

    1. يقول أحمد:

      بالتأكيد لو لم يشوه المتأسلمون المعتاشون على نفقات الغرب صورة الإسلام، لكانت عنصرية هذا الغرب تجاه الإسلام والمسلمين عموما أخف بكثير وبأضعاف مضاعفة

  2. يقول ‏سعادة فلسطين الصين:

    ‏في الواقع العنصرية أعقد من هذا بكثير جدا ، أنها نتاج الدولة القومية الحديثة ، تعريف الدولة القومية الحديثة بحد ذاته هو مصدر إنتاج السياق الذي تتفرع فيه العنصرية ‏، الحرب العالمية الثانية هي أيضا نتاج تصورات وقناعات عنصرية بشكل ما، ما بين الشعوب الأوروبية ‏ضد بعضها. وجدت أن العرب ‏بالإضافة إلى الأفارقة وإلى حد ما دول أمريكا اللاتينية لديهم مفهوم مغلوط حول العنصرية ‏، حالهم كما ينظر إلى النتائج وليس إلى التشخيص والأسباب ، وهذا يعود في أمر بديهي جدا ‏هو فشلهم في إقامة الدولة القومية الحديثة الخاصة بهم ، ‏ ‏مقارنة مع الأمم ‏والشعوب الأخرى سواء في الإقليم ‏مثل الإيرانيين او الاتراك أو على مستوى العالم ‏بشكل عام . ‏مثلا من كان يتصور أن الديانة الهندوسية التي هي ما فوق الدين هي ما قبل الدين ‏أصلا ‏ ‏هي تتعلق اساسا بالروحانية ، من كان يتصور أنها ستصبح مصدرا ومرجعا للأفكار القومية ‏ ‏الوطنية لولا نموذج الدولة القومية الحديثة الأوروبي .

  3. يقول علي مناع:

    هكذا بدأت كل الدكتاتوريات وبهذا الداء قد انتهت .. دروس التاريخ لا يتعلمون منها

  4. يقول عيسى التلحمي:

    اليهود هم بشر مثلنا تماما يؤمنون بتوراتهم وربهم …. ولكن المحتلين الصهاينة هم على الاطلاق مستوطنون ولصوص أرض وعنصريون تلموديا
    اليهودية دين والصهيونية حركة عنصرية من لصوص الأرض ولمجرمين الموتورين … لا يمكن أن تجد صهيونيا طيبا

  5. يقول سليم:

    نرى القشة في عيون الاخرين ولا نر النجر في أعيننا وخاصة من تركوا بلاد المسلمين ليعيشوا كبشر في غيرها

  6. يقول كمال - نيويورك:

    نحن نكرههم لأنهم سرقوا أرضنا وهجرونا من ديارنا و لا زالوا يضطهدونا و يقتلونا منذ ٧٥ عاما.

  7. يقول كاملة الصيداوي:

    مقال في الصميم العنصرية سلوك مرضي يؤذي صاحبه قبل متلقيه !! ولكن لنكن صادقين مع انفسنا في الشرق في العموم تضيق صدورنا بكل ما هو مختلف عنا إلا من رحم ربي !! أما العنصرية الممنهجة سياسيًا فهي توجه له رصيده السياسي لا تستطيع الكثير من الأطر السياسية الصمود دونه !! ونرى ذلك جليًا لدى حركات سياسية دينية لها قاعدتها الشعبية ..
    الطامة أن تصل هذه العنصرية لمستوى نزكي انسان واستحقاقه للحياة حسب المجموعة ينتمي لها ونحن في الألفية الثالثة …كيف لنا أن نفعل ذلك ونبقى تحت مسمى بشر …أظن أن القيمة الأساس لإنسانيتنا أن لا نلغي احد ..

إشترك في قائمتنا البريدية