أدخل إسبانيا..
لا كما يدخلها السائح الأجنبيّ متأبّطا آلة التصوير
ومعتمرا قبّعة القشّ الصيفيّهْ..
لكنْ أدخلها كوريث شرعيّ لتلك البقعة الجغرافيّة
التي تتنفّس التاريخ والحضارهْ..
كي أطالب بما تبقّى من بيت أبي..
وبما تبقّى من رائحة أمّي الساهرة على عتبة الدارْ..
وكي أطالب بحصّتي من أوّل سجّادة صلّى عليها عبد الرحمن الداخلْ..
وأوّل مشبك شَعْر زرعته ولادة بنت المستكفي في عتمة شعرها..
وأوّل خيط تعشّق رائحةَ الغبار والمجد من عباءة طارق بن زيادْ..
وأوّل ياسمينة قطفها المعتمد بن عبّاد من حديقة قصره الإشبيليّْ..
وأوّل بركة رخاميّة توضّأ بمائها عقبة بن نافعْ..
وأوّل سيف أمويّ رقصتْ على نصله مطارقُ الحدّادين
في أسواق قرطبهْ..
وأوّل نسخة مكتوبة بالخطّ الكوفي من كتاب (العقد الفريد)..
وكي أطالب بالأزاميل التي نقشتْ أوّل بيت شعر
على حجارة قصر الحمراء التي تكاد من فرط عنفوانها وزهوها
أن تشفّ أو أن تطير..
٭ ٭ ٭
الكتابة عن الأندلس تأخذُ شكلَ الاستشهادْ..
أغطّ ريشتي في محبرة اسمُها قلبي وأكتب..
تتوهّج النقاط والأحرف والفواصلْ..
يسيل اللون الأحمر من أطراف الصفحاتْ..
تطوّح بي الكلماتُ التي أركض نحوها مأخوذا بالدوخة
كما يركض الثور الإسبانيّ نحو القطعة القماشيّة المرتعشة
مأخوذا بالكبرياءْ..
تضرّجني وتضرّجه شهوةُ الموت..
يمتزج دمي بدمه..
أسقط على الورقة البيضاءْ
وأنا مقتنع بشرعيّة موتي وعدالته..
٭ ٭ ٭
في إشبيلية..
لا أجهد نفسي بتكوير الأسئلة ومحاورة المكانْ..
تخضّني رائحةُ الياسمين التي لا أعرف من أين تفد
ولا أعرف إلى أين تسافرْ..
يشتعل ذهولي وتستفيق حواسي كلّها..
فأصعدُ تعليات مئذنة La Giralda
متحرّرا من سلطة الوعي..
وأصرخ ملء حنيني: (يا زمان الوصل بالأندلس)
٭ ٭ ٭
أدخلُ جامع قرطبة الكبير..
يهرع إليّ وأنا أتجوّل في صحن النارنج
رجل يلتفّ بعباءة سوداء تطرّزها خيوطُ الذهبْ..
يعانقني عناق الأب لولده العائد بعد غياب طويل..
يصارحني بأنّ رائحة دمشق الراكضة في جعدات ثيابي همستْ إليه..
يرشّني بالرجاء كي أخبره بمصير أحفاد القطّة الدمشقيّة
التي كانت تتمطّى في حجره..
يتفقّد آخر أخبار بني أميّة..
يسألني عن الجامع الأمويّ..
يسألني عن الأسواق والخيول والركاب والسرايا..
فتجري دموعه مثل فسقيّة أندلسيّهْ..
يسألني عن مصير الفيروز الذي يستوطن أحداقَ دمشقْ..
فتجري دموعي..
فألمّها بردن قميصي وأستأذن بالانصراف..
٭ ٭ ٭
من أجل أن أكون على مستوى موعدي الأوّل
مع أبي عبد الله الصغير..
مع بردته المقصّبة وسيفه الشامخْ..
مع دمعه السكيب وزفرته الأخيرهْ..
أحاولُ أن أدوزن ضربات قلبي
أحاولُ أن أهدهد قلقي
أحاولُ أن أمحو رعشتي
أحاولُ أن أصقل مرايا كلماتي..
فيغشاني – في كلّ مرّة – الفشلْ..
٭ ٭ ٭
الأندلس جرح ياقوتيّ طريّ مفتوح الأجفان
يضيء على جسد العربْ..
عزف منفرد على أوتار القلبْ..
دعوة مفتوحة للإسراء في الخضرة والورد
والبياض والماء الدفيقْ..
مروحة يغازلها الهواءُ في يد اعتماد الرميكية..
أقصرُ الطرق اللاهثة عند أقدام الجنّهْ..
نزيف مستمرّ للحنين..
ذروةُ الاحتراقْ..
منبعُ البكاءْ..
مصبُّ البكاءْ..
الأندلس ولادة ثانيهْ..
٭ ٭ ٭
البيتُ الأندلسيّ أوّل موشّح مكتوب على بحر العاطفة
خرج من بين أصابع المهندسين الذين تخرّجوا
في القرن الثامن الميلادي من جامعة دمشقْ..
الأبوابُ الخشبيّة اللامعة والمحفورة والمغمورة بالنقوشْ..
قضبانُ الشبابيك الواطئة التي تصلّي الشمسُ على زخارفها..
الحُجَرُ التي توزّع – مجّانا – الرطوبة والدهشهْ..
البحرةُ المضطجعة على بساط من الحصى الملوّنهْ..
النوافيرُ التي يشهق القلب لزغاريدها الرطيبهْ..
المشارقُ التي تربّي الضوء..
السقفُ الذي تسيلُ زرقتُه على رخام الصحن..
السلحفاةُ التي تمارس التسكّع تحت رعاية الشمس..
القططُ التي يغازلها كسلُ ما بعد الظهيرهْ..
الضفائرُ الخضرُ التي تتسلّق الجدران والشرفاتْ..
الضفائرُ السودُ المزروعة في حلبات الفلامنكو..
الأعينُ الوسيعة اللمّاحة التي يتزاوج في محاجرها الليل والنهارْ..
كلُّ شيء في هذه المعجزة التي تُلمس باليدين
يطوفُ حول الجمال ويسبّح باسمه..
٭ ٭ ٭
في إسبانيا..
تدخل لغتي مملكة الحضارة والعطر والظلّ الظليلْ..
تتصبّى أكثر.. تتناسلُ أكثر..
تخلع أثوابها القديمة وترمي نفسها في نهر (الوادي الكبير)..
تقطرُ النداوةُ من أحرفها..
تأخذ أبجديتي شكلا جديدا..
تصيرُ الألفُ مئذنة مربّعهْ..
والسينُ سيفا أمويّا مذهّبا..
والشينُ شجيرة نارنجْ..
والواو وردة جوريّهْ..
والقافُ قيثارة سكرى..
والباءُ بابا خشبيّا يتلوّى على مفاصله حنينا..
تصيرُ الحاءُ حمامة تنفّض ريشها في حديقة (ماريا لويزا)..
وتصيرُ النقاط المرشوشة في آخر السطر
شامات تطرّز نهدا تعبق منه رائحةُ البرتقال البالنسيّْ..
٭ ٭ ٭
في إسبانيا..
أجد قطعة ضائعة من جسدي..
وأضع يدي على مفاتيح الفردوسْ..
وأستأمنُ على دموعي النوافيرَ
التي لا تزال – منذ خمسة قرون –
تتغرغرُ بدموع العربْ..
شاعر فلسطيني