لندن- “القدس العربي”: حفلت الصحف البريطانية بالمقالات والتقارير التي ودّعت فيها مرحلة طويلة من تاريخها بوفاة الملكة إليزابيث الثانية (1926- 2022) حيث أشارت فيها إلى حس المسؤولية والواجب الذي ظلت الملكة تحمله حتى أيامها الأخيرة، عندما كلفت رئيسة الوزراء الخامسة عشرة في فترة حكمها بتشكيل الحكومة، قبل أن تتوفى بعد يومين في قلعة بالمورال التي أحبتها وأحبت اسكتلندا طوال حياتها، وكانت المكان الذي فاضت فيه روحها.
وفي الوقت الذي أكد المعلقون على حسّ الواجب، فقد أشاروا إلى أن الملكة كانت رمزا للوحدة في بريطانيا، التي تواجه مصاعب كثيرة وتحديات لم تواجهها منذ سبعينات القرن الماضي. وخلف الحزن على وفاة الملكة، هناك شعور بعدم اليقين مع بداية مرحلة الملك تشارلز الثالث، الذي انتظر طويلا كولي للعهد.
ويرى المعلق في صحيفة “الغارديان” جوناثان فريدلاند في مقال له أن وفاة الملكة ستهزّ البلد بشكل عميق، فقد كانت وبشكل مستمر المركز وسط تغيرات مستمرة. وقال إن الكلمات سينطق بها في يوم ما ولكننا نشعر بالصدمة لسماعها “ماتت الملكة”. وقال إن الجميع كان يعرف أن اللحظة قادمة منذ يوم الثلاثاء عندما ظهر وجهها هزيلا بشكل غير مألوف وهي ترحب برئيسة الوزراء الجديدة. وكانت الملكة في التسعينات من عمرها، و”كلنا لسنا مخلدين حتى من يتدفق في عروقهم دم أزرق”. لكن الإعلان عن وفاتها مساء الخميس سيهز البلد لأسباب قد لا نفهمهما بعد.
الملكة كانت رمزا للوحدة في بريطانيا، التي تواجه مصاعب كثيرة وتحديات لم تواجهها منذ سبعينات القرن الماضي
وقد يقول البعض إن الأمة فقدت جدّة، وأن عائلة فقدت رمزها، وهي مقارنة ليست بعيدة، ليس لأن الجميع عرف الملكة وأحبها كواحدة من أقاربه، إلا أن المقاربة ليست صحيحة؛ لأن المقارنة تبدو في حس آخر، وهي أن الملكة كانت رمزا دائما للاستمرارية وسط عالم يتغير، فقد تغير كل شيء منذ عام 1952 عندما ورثت العرش. فقد كان التلفزيون بالأسود والأبيض، والرجال يعتمرون القبعات، وبلد سلسلة مطاعم ليونز كورنر، لم تعد موجودة، فقد تغير كل شيء وبقيت الملكة حاضرة.
وبرحيلها تظهر أهمية ما قامت به في حياتها، فقد فهمت أن الملكية وحسّ الواجب تقدم خدمة للديمقراطية في وضع مضطرب. ولهذا السبب، لم تفكر أبدا بالتخلي عن الحكم أو التنحي، مهما كان سنها وملامح العجز التي بدت عليها. وبالنسبة لها، فتخلي عمها إدوارد عن العرش عام 1936 كان صدمة لم تتعاف منها ويجب ألّا تتكرر.
ووظيفة الملكة هي الثبات وسط العواصف والفوضى. صحيح أن الأمر أكثر من الواجب، فوقوفها موقف المحايد في ظل المتغيرات، وعدم قول أي شيء مهمة ليست سهلة. والملك الجديد تشارلز الثالث وتدريبه الطويل على الحكم أبدى أن ضبط النفس هو ما ينقصه. فحذر الملكة في عدم التدخل بالسياسة لا يعني أنها لم تفهم الدبلوماسية والسياسة، ومن عرفوها يقولون إنها كانت داهية ومحنكة. والصور التي ظهرت قبل عام، وبدت فيها الملكة وهي تتحرك في غرفة قمة الدول السبع عام 1991 وتتنقل ما بين هيلموت كول، المستشار الألماني في حينه، وجورج هيربرت بوش، يعطي صورة أنها كانت سياسية من الدرجة الأولى.
والمشكلة أن رعاياها لم يعرفوا الكثير عن معتقداتها طوال حكمها، وفهموا بعضا من مواقفها عبر مسلسل “العرش” وكيف تصادمت مع مارغريت تاتشر بشأن التعامل مع نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا الذي أيدته تاتشر، ودعمت الملكة العقوبات عليه. ولم يحدث أي تصادم بين الملكة وحكومتها، وحتى تقرير العلاقة المتوترة مع تاتشر قام على ما نشرته صحيفة “صاندي تايمز” عام 1986 بناء على أقوال مستشار وليس ما قالته الملكة أو صرحت به.
وفي عصر شهدت تحولات وتغيرات في الأخلاق والمفاهيم، استطاعت الملكية أن تقوي مداميكها بدلا من أن تواجه انهيارا لمؤسساتها. وخسر دعاة الجمهورية قضيتهم في عصر إليزابيث. ولم يعد أحد يدعم التخلي عن الحكم الوراثي، حتى دعاة انتخاب رأس الدولة كافحوا من أجل الحصول على دعم، لسبب بسيط هو أن الملكة قامت بواجبها على أحسن طريقة. وفي جوهر هذا، كان ضبط النفس وحس واضح بالواجب وإيمان بأخلاقيات العمل التقليدية والتي بدت من مشاركة الملكة في اليوبيل البلاتيني رغم مشاكل الحركة، وكل هذا لا يفسر علاقتها العاطفية بأمتها، ومفتاح فهم هذا يتضح من حدث سابق على صعودها للعرش، يعود لأيام شبابها.
بوفاة الملكة إليزابيث، ستدخل بريطانيا مرحلة جديدة، وسيكون هناك وجه جديد على العملة ونشيد وطني جديد
وهذا الحدث هو الحرب العالمية الثانية وتحديدا عام 1940 عندما وقف وينستون تشرتشل ضد الفاشية، وكان آخر رابط مع تلك المرحلة هو الملكة. فقد كانت على الشرفة إلى جانب تشرتشل في “يوم النصر بأوروبا” وقاتل زوجها في البحرية الملكية. ولو أردت معرفة هذا، فما عليك إلا أن تشاهد فيلم “كلام الملك” عندما قام الملك جورج السادس بإلقاء خطابه المهم، ودعا فيه الأمة للثبات ضد النازية، وكانت إليزابيث الشابة حاضرة لتعانقه. وربطت الملك الأمة بنقطة مرحلية مهمة في تاريخ بريطانيا الوطني، وهي مرحلة لا يزال البريطانيون يستلهمون الفخر والهدف في الحياة منها. وبدا واضحا في رسالتها للأمة مع بداية وباء كورونا والإغلاق، حيث ذكرت البريطانيين أنهم عانوا من مصاعب أكثر واستخدمت شعارا من الحرب العالمية الثانية “سنلتقي مرة أخرى”.
وستدخل بريطانيا مرحلة جديدة، وسيكون هناك وجه جديد على العملة ونشيد وطني جديد. وسيندب الكثيرون امرأة شاهدوها وهي تزور المدارس وتفتتح المشافي، وسيكون هناك حديث عن القيم الوطنية التي جسدتها، إلا أن الملايين سيعبّرون عن حزنهم لخسارة رمز ثمين ظل حاضرا في حياتهم، وستعيد وفاتها التذكير بكل ما حدث خلال السبعين عاما الماضية وكل من فقدوا وأحبوا. وهم يبكون ملكة، لكنهم يبكون على أنفسهم.
يرى سايمون جينكينز في “الغارديان” أن الملك تشارلز الثالث لديه مواقف عاطفية إلا أن وظيفته الرئيسية هي إصلاح الملكية. وقال إنه سيحكم بالضبط مثل والدته، فقد قضى حياته في ظلها. كما تدرب في كل تفاصيل دور الجالس على العرش. ويعرف أن الأمة كانت تنظر للملكة على أنها صورة مجيدة للملكية الدستورية، ولن يحكم طويلا، ولن يخون ميراث أمه. وعند هذه النقطة، فأي مقارنة بين الملك تشارلز والملكة إليزابيث ستنتهي. والسبب هو أن وظيفة الملك اليوم أصبحت شكلية إن لم تكن روبوتية، لكنها عمل يقوم به إنسان.
وسيتمكن تشارلز من مواصلة عمل أمه والقيام بالواجبات المملة والتوسط بروح من الدعابة. كما أن نضجه خفف من مخاوف سوء التصرف أو الشائعات التي لاحقته في شبابه. وفي النهاية، تظل الأم والابن شخصيتين مختلفتين. وهذا مهم من الناحية الدستورية والدور الموكل للملك وتعامله مع الحكومة والبرلمان، ومن المتوقع أن يحترم الموقف غير المتحزب للملك المتجسد في الممارسة والأعراف. فقد ذهبت الأوقات التي كان الملك فيها يختار أو يدعو رئيس وزراء سيحظى بدعم البرلمان. طبعا هناك أزمات قد تتدخل فيها الملكية كما حدث عندما فشل حزب المحافظين عام 1963 في اختيار خليفة لرئيس الوزراء المريض هارولد ماكميلان. وحدثت مشاكل أخرى عام 1974 في برلمان معلق أثناء حكم إدوارد هيث وغوردون براون، حيث تم التفاوض على حلها مع مسؤولي القصر بناء على الممارسة والعرف. ونفس المشكلة حصلت عندما حاول بوريس جونسون في 2019 توريط القصر في منح البرلمان امتيازا غير قانوني.
الملك تشارلز الثالث لديه مواقف عاطفية إلا أن وظيفته الرئيسية هي إصلاح الملكية. وقال إنه سيحكم بالضبط مثل والدته، فقد قضى حياته في ظلها
وفي كل هذه الحالات، منع البرتوكول القصر من التدخل، لكن تشارلز قد يشعر أن لديه استحقاق للتدخل. وربما ظهرت مشاكل في المستقبل؛ لأن تشارلز يحمل مواقف حول كل موضوع تحت الشمس، فآراؤه معروفة حول الطب البديل والزراعة والتغيرات المناخية والحفاظ على المباني التاريخية والمعمار. وكما هو الحال، كان يقول إن مواقفه هي شخصية وليست ملكية، مع أنها تظل آراء.
ويعقد رئيس الوزراء لقاء أسبوعيا مع الملك بسرية، وربما وجد تشارلز في اللقاء فرصة للتعبير عن مواقفه من الأحداث لرئيس الوزراء التعيس. ويمكن لتشارلز أن يقدم إصلاحاته في الملكية، ففي الوقت الذي كانت تريد الملكة الالتزام بالتقاليد، كان تشارلز يدعو إلى تخفيف الشكليات المحيطة بالعرش. وهناك شائعات بأنه يريد الانتقال من قصر باكنغهام، وتحويله إلى مكتب ملكي ومتحف، والحفاط على قصر كليرنس كمقره في لندن.
ويمكن لتشارلز وقف الكثير من الهراء الذي ارتبط بالعائلة المالكة في ظل والدته، وربما كانت هناك حاجة لوريث للعرش، لكن عائلة ممتدة ليست بحاحة للتمتع أو تحمل الدعاية وطريقة الحياة غير المعروفة للكثير من العائلات المالكة في أوروبا. وكان تحويل أبنائها وأحفادها إلى جيش من النجوم خطا كبيرا، وربما قام تشارلز بوقف هذا.
وكيف سيكون إصلاح الملكية البريطانية كما أن الملك الجديد لن تطول فترة حكمه كوالدته ?