لندن – “القدس العربي”:
في النهاية لم يعد الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، قادرا على تحمل الرئيس السوري الهارب، بشار الأسد، بعد تحوله إلى رصيد سام، كما يقول نيقولاي كوجانوف، الأستاذ المشارك بمركز دراسات الخليج بجامعة قطر والزميل غير المقيم في برنامج روسيا وأوراسيا في تشاتام هاوس في لندن. وقال كوجانوف في مقال نشرته صحيفة “الغارديان” إن انهيار نظام الأسد يمثل نهاية فصل كبير من الوجود الروسي في الشرق الأوسط، وهذا لا يعني أن موسكو على وشك الانسحاب من المنطقة.
إلا أن قرارها عدم الدفاع عن نظام الأسد، ونقله عوضا عن ذلك جوا إلى موسكو، حيث يبدو أنه سيظل هناك الآن، لم يكن إلا محاولة لتعزيز وجودها في الشرق الأوسط من خلال التخلص من رصيد سام.
فقد كان نشر القوات الروسية في سوريا عام 2015، علامة فارقة في تاريخ العلاقات الروسية مع الشرق الأوسط. فمن خلال الدفاع العسكري عن نظام دمشق في حينه، أعلنت موسكو وبصوت عال عودتها إلى السياسة في الشرق الأوسط، حيث ضعف وجودها إلى حد كبير بعد انهيار الاتحاد السوفييتي. وللمرة الأولى منذ عام 1991، تنفذ موسكو عملية عسكرية كبرى في المنطقة. وهي لم تنقذ النظام الصديق من سقوط محتوم فحسب، بل أظهرت أيضا استعدادها للعب دور نشط في تشكيل النشاطات الإقليمية خارج سوريا.
كان نشر القوات الروسية في سوريا عام 2015، علامة فارقة في تاريخ العلاقات الروسية مع الشرق الأوسط
وبهذه المثابة، أصبحت التجربة السورية بمثابة مقدمة ضرورية لتدخل موسكو ونشاطاتها الواسعة في ليبيا والسودان ودول الساحل والصحراء الأفريقية؛ ذلك أن روسيا خسرت في فترة الربيع العربي، ما بين 2010 – 2012 كل شركائها المتبقين من فترة الحرب الباردة بالمنطقة والذين ورثتهم عن الاتحاد السوفييتي السابق. ولم يعمل التدخل العسكري الروسي في سوريا على إنقاذ حليف موال لموسكو في دمشق وتعزيز علاقات موسكو مع طهران فحسب، بل وأجبرت العملية العسكرية دولا أخرى في الشرق الأوسط على التعامل مع روسيا كلاعب مهم في شؤون المنطقة.
وبالتالي، أصبح الوجود العسكري الروسي في سوريا أحد العوامل التي أدت إلى تكثيف حوار موسكو مع دول الخليج العربية وبناء فصول جديدة في العلاقات الروسية مع تركيا ومصر والعراق.
وقد وضعت موسكو نفسها، ومنذ التدخل العسكري كضامن لاستقرار وحماية الأنظمة الموالية، ومعظمها ديكتاتورية والدفاع عنها من التهديدات الخارجية والداخلية. وأكثر من هذا حاولت آلة الدعاية الروسية رسم أوجه تشابه بين الأسد ومصير حسني مبارك في مصر، بحجة أن موسكو هي داعم أفضل وأكثر موثوقية من الولايات المتحدة.
ومن جهة أخرى، فتح النشاط الروسي في المنطقة نقطة اتصال مع الولايات المتحدة والغرب بشكل عام، وذلك بعد الحد من الاتصالات مع موسكو بعد ضم شبه جزيرة القرم عام 2014. وكانت رسالة الكرملين بسيطة: رضيتم أم أبيتم، روسيا لاعب مهم ويجب على الغرب التحدث معها على الأقل لإنشاء آليات لتجنب المواجهات العرضية بين القوات الروسية والأمريكية في سوريا.
وأخيرا، كان الكرملين يعتمد أيضا على حقيقة أن جهوده، وجهود عدد من الأوليغارش الروس كيفغيني بريغوجين، زعيم مجموعة فاغنر السابق، لإنقاذ الأسد ستؤدي عاجلا أم آجلا إلى ثمار كبيرة من “الكعكة الاقتصادية”. لكن سقوط الأسد ألغى كل هذه الخطط إلى الأبد.
ويشرح الكاتب سبب قرار بوتين بالتخلي عن الأسد، وأنه ليس بالضرورة بسبب الحرب في أوكرانيا، ولكن لأنه أصبح عبئا على موسكو.
وقال كوجانوف إنه وبعد وقت قصير من بدء هجوم المعارضة على حلب في تشرين الثاني/نوفمبر 2024، قررت روسيا بوضوح وبشكل متعمد عدم إنقاذ الأسد.
بعد وقت قصير من بدء هجوم المعارضة على حلب في تشرين الثاني/نوفمبر 2024، قررت روسيا بوضوح وبشكل متعمد عدم إنقاذ الأسد
ولتفسير هذا الموقف، يميل المحللون لربطه بالإشارة إلى حرب موسكو في أوكرانيا والتي لم تسمح لروسيا بالرد في الوقت المناسب وبطريقة فعالة على الهجوم الجديد الذي شنته قوات المعارضة السورية.
كما لم يكن الأمر يتعلق فقط بقلة عدد الجنود، بل وبتراجع الكفاءة، ذلك أن سوريا تحولت إلى مكب للتخلص من القادة أصحاب الرتب العسكرية العليا الذين فقدوا ثقة القيادة في موسكو أو الضباط الذين كانوا يبحثون عن مهرب من الحرب في أوكرانيا.
إلى جانب هذا، فقد عانى الحلفاء الرئيسيون لروسيا والأسد ــ إيران ووكلاؤها- من الضعف بسبب مواجهة طهران لإسرائيل.
وتظل هذه التفسيرات صحيحة في الأعم الأغلب، لكنها تتجاهل عاملا مهما آخر، وهو العبء الذي باتت سوريا تفرضه على موسكو، وبحلول عام 2024، تحولت سوريا من فرصة إلى عبء اقتصادي وسياسي على الكرملين. ولم تعد سوريا مهمة كرصيد في محاولات توسيع النفوذ الروسي بالمنطقة.
وقد ظهرت خلال الـ 8 سنوات من التدخل الروسي في سوريا، مجموعة من العوامل الجديدة ــ الأكثر أهمية ــ التي شكلت علاقات الكرملين بالمنطقة.
وتشمل هذه العوامل الدور الذي تلعبه روسيا داخل منظمة أوبك وزيادة التجارة والدبلوماسية المكثفة. كما فقدت سوريا أهميتها السابقة كعنصر من عناصر الاتصال مع الغرب: فقد أدت الحرب في أوكرانيا إلى تقليص الاتصالات وأصبحت الموضوع الرئيسي للنقاش مع روسيا.
وظهر لاحقا أن “اقتصاد الحرب” الذي انتهجه الأسد، أدى إلى خلق بيئة سامة، لدرجة أن رجال الأعمال الروس الذين تعودوا على مواجهة العديد من التحديات لم يتمكنوا من ممارسة الأعمال التجارية فيها. وفي الوقت نفسه، أصبح نظام الأسد شريكا صعبا نظرا لعناد الأسد السياسي ورفضه التسوية مع المعارضة المحلية والجيران الإقليميين والعمل المتوازن المستمر بين موسكو وطهران. وفي الوقت نفسه، بدأ الاقتصاد السوري، الذي تحركه إلى حد كبير تجارة المخدرات غير المشروعة ومخططات الفساد، يظهر علامات متزايدة على الانهيار الوشيك. وبلغ اليأس بين السكان وتراجع الدافعية ومعنويات الجيش وقيام أجهزة المخابرات بخدمة نفسها، إلى أدنى مستوياته، مما حول النظام إلى دولة “جوفاء” محرومة من قاعدة دعم صلبة.
وبحول شهر كانون الأول/ديسمبر 2024 واجهت موسكو خيارا: إما تكرار خطأ الاتحاد السوفييتي في أفغانستان وتحمل المسؤولية المالية والاقتصادية والعسكرية الكاملة عن سوريا الأسد (وهو أمر يكاد يكون مستحيلا في ضوء الجهود الحربية الروسية في أوكرانيا)، أو التراجع. وقررت روسيا تبني الخيار الثاني، فسقوط الأسد، مهما بدا مؤلما يفتح الطريق أمام موسكو للخروج من صراع بلا نهاية ولم يعد مربحا أو مجديا.
وسيجد الكرملين نفسه أمام خيار تناسي أي عائد من استثماراته التي استثمرها في سوريا الأسد، لكنه قد يحاول الاحتفاظ بقواعده العسكرية هناك.
وقد أوضحت السلطات السورية الجديدة أنها مستعدة للتحدث مع الكرملين وأنها ليست في عجلة من أمرها لطرد القوات الروسية من أراضيها. كل هذا يعطي صورة أن خسارة الكرملين لسوريا، مهما كانت مزعجة، لن تؤثر على مكانة وأجندة روسيا الإقليمية وأنها لم تعد عاملا حاسما في قوتها بالمنطقة.