لندن ــ “القدس العربي”:
دعت صحيفة “الغارديان” الحكومة البريطانية لإعادة بناء التحالفات الإستراتيجية التي خربتها عبر الخروج من الاتحاد الأوروبي.
وفي افتتاحية عن وضع بريطانيا في عالم من القوى المتنافسة بعد الاتفاق بينها والاتحاد الأوروبي على الطلاق بدءا من العام المقبل، قالت الصحيفة إن رئيس الوزراء بوريس جونسون يتميز بالكثير من المهارات السياسية إلا أن الدبلوماسية الدولية ليست من بينها. فأهم رصيد يملكه هو الجاذبية في إدارة الحملات المحدودة ثقافيا. فشخصية الرجل الأشعث الذي يطلق العبارات الطنانة موجهة إلى الجمهور المحلي. وهي صورة لا تصلح عندما تترجم في الخارج في المعترك الدولي فالتردد بالظهور بمظهر الرجل الجاد تحرمك من الاحترام عاجلا أكثر من حصولك على الحب. وكان هذا واحدا من الأسباب التي لم ينجح فيها جونسون بممارسة دوره كوزير للخارجية.
أما الميزة الأخرى فهي كراهيته العمل وخدمة أي شخص ولكن نفسه. ومع أنه لم يشحذ أدواته كرئيس للوزراء إلا أنه حر على الأقل لمتابعة أجندته. وماذا يعني هذا في مصطلحات السياسة الخارجية؟ بريكسيت بالطبع. وهذه مسألة ضيقة متعلقة بالسياسة البريطانية، وعكس هذا هو تكيف البلد ووضعه الذي بات على المحك في العالم. فالنقاش المحلي حول البريكسيت لم يرفق دائما بمنظور دولي.
فالجانب الداعي للبقاء في الاتحاد الأوروبي فشل في شرح ما يمكن أن تخسره بريطانيا لمقعدها في القمم الأوروبية. ففكرة أن عضوية بريطانيا في الاتحاد الأوروبي تعني سلطة أكبر تصادمت مع الفكرة التي تحدثت ببلاغة وبوهم عن ضرورة استعادة السيادة. وتحدث رؤساء الوزراء السابقون والقادة الأجانب والدبلوماسيون من أصحاب الخبرة عن حجم الخسارة بخروج بريطانيا من النادي الأوروبي لكن أصواتهم لم تسمع في الأخبار التي عادة ما تعاملت مع المسلسل الدرامي القادم من ويسمنستر (البرلمان) أو الحرب الثقافية بين المناطق والقبائل.
تحدث رؤساء الوزراء السابقون والقادة الأجانب والدبلوماسيون من أصحاب الخبرة عن حجم الخسارة بخروج بريطانيا من النادي الأوروبي لكن أصواتهم لم تسمع في الأخبار
وعززت أزمة فيروس كورونا الموجة باتجاه الانعزال. والوباء وإن انتشر على مستوى البسيطة لكنه ظل في جوهره محليا في تجربة معظم السكان. فقد أغلقت الحدود وتم التضييق على الحركة بين مناطق بريطانيا المختلفة، وبدا العالم الخارجي بعيدا. لكل هذا فخطاب وطني ذو رؤية ضيقة هو ما يناسب لغة جونسون السياسية، فهو يتحدث عن لعبة جديدة و”بريطانيا العالمية” وصناعات “تغزو العالم” ولكن الكرة الأرضية التي يشير إليها هي أداة خطابية فـ “العالم الذي يتوقع هزيمته هو عالم متخيل تسكنه شخصيات كاريكاتيرية أجنبية وغير مؤهلة.
وسيجبر العام المقبل رئيس الوزراء على مواجهة تداعيات اللعبة التي يلعبها منذ عام 2016. وستتولى بريطانيا رئاسة مجموعة الدول الصناعية والاقتصادية السبع وستستضيف مؤتمر مجموعة الـ 26 لمؤتمر المناخ العالمي في الخريف. واستضافة بريطانيا لمؤتمرات دولية يعطيها فرصة لإعادة تأهيل نفسها على المسرح العالمي مع أن هذا يقتضي أولا اعترافا بأن السمعة قد تضررت بالمقام الأول.
ولا ينظر للخروج من الاتحاد الأوروبي (البريكسيت) كفعل بطولي إلا في بريطانيا. ومن الخارج نظر إليها على أنها حماقة ضخمة وفعل جيوسياسي مضر بالنفس. ورحب بها الديكتاتوريون مثل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي يستمتع برؤية الفرقة داخل نادي الديمقراطيات الليبرالية. وأعجب بها دونالد ترامب الذي ظل ينظر باحتقار للمشروع الأوروبي. ورحب بأي شيء خرب معمار التعاون المتعدد الأطراف. لكل هذا يعتبر تهديد جونسون القانوني بالتنصل من اتفاق الخروج من الاتحاد الأوروبي في مجال قانون السوق الداخلي كارثة دبلوماسية.
وعزز هذا الموقف في بروكسل وبين عدد من الليبراليين في الولايات المتحدة فكرة أن بريطانيا تقف على حافة نسخة أخرى من الترامبية، والتي يشترك فيها رئيس الوزراء مع الرئيس المنتهية ولايته احتقاره لحكم القانون. وأظهر التهديد بريطانيا كدولة تغرد خارج القطيع ولا تشعر بأنها ملزمة بالمعاهدات الدولية. فبيت أبيض مارق يمكنه عمل هذا والإفلات لأن بقية الدول ليس لديها أي خيار بل الخنوع أمام إرادة الدولة العظمى. وبالمقابل فبريطانيا ليس لديها هذا النوع من الجاذبية. وظهور حزب المحافظين بمظهر من لا يحترم القانون الدولي هو تهور وعقم. وتراجعت بريطانيا في النهاية عن تهديدها بالتنصل من بنود كثيرة لأن انتخاب جوزيف بايدن كرئيس للولايات المتحدة جعل من نموذج ترامب مهجورا وعفا عليه الزمن. وبدا فعل جونسون وحيدا ومعزولا على الساحة الدولية.
ومن هنا فوصول إدارة بايدن إلى واشنطن يعني إعادة ضبط لعقارب الساعة في 10 داونينغ ستريت في لندن، خاصة أن الرئيس الجديد يريد إصلاح العلاقة مع أوروبا. وكان هذا يعني العمل مع لندن التي كانت تعتبر جسر واشنطن للقارة الأوروبية، لكن هذا الجسر قد احترق ولهذا فسيكون الحوار عبر الأطلنطي من خلال برلين وباريس. ولن يتم عزل جونسون من الحلقة تماما، ذلك أن بريطانيا ستظل شريكا مهما للولايات المتحدة في شؤون الأمن والدفاع. فلن تلغي البريكسيت حجم الترسانة النووية ولا المقعد في مجلس الأمن الدولي أو مشاركة بريطانيا في مجموعة “العيون الخمس” للتعاون الاستخباراتي وهي أستراليا وكندا ونيوزلندا وبريطانيا وأمريكا.
وستظل العلاقة التاريخية والثقافية مع أن السياسة الأمريكية ستبدو أقل عاطفية. و”العلاقة الخاصة” هي أمر كان الساسة البريطانيون حريصين على سماعه، وهي بالضرورة ليست مؤسسة.
وسيكون العقد المقبل هو عن صعود الصين المستمر والأسئلة التي ستواجه أمريكا وأوروبا حول كيفية موازنة علاقاتها معها وطرق احتوائها والتعاون الإستراتيجي معها ومواجهتها. وستلعب الهند دورا مهما في تحول مركز الجاذبية الاقتصادي والتوجه نحو آسيا. وستكون أكبر زيارة لجونسون منذ توليه السلطة إلى نيودلهي بشكل يؤكد العلاقة الخاصة بين البلدين. وفي مجال الأفضلية التجارية ستواجه بريطانيا ثنائية للاصطفاف إما مع بروكسل أم واشنطن ولا طريق ثالثا أمامها. وستغذي هذه الحركية السياسات المناخية وجهود تخفيض الانبعاثات الكربونية. وربما أمسك جونسون بالميكرفون في قمة المناخ ولكن بريطانيا ستكون متفرجة في كل القرارات التي ستتخذ. وستظل بريطانيا في مجال القوة الناعمة، الاقتصاد أو الأمن، لاعبا أقل تأثيرا مما وعدته به أسطورة البريكسيت.
والمهمة القادمة هي إعادة الاندماج في التحالفات التي تم تجاهلها بدون مبرر وإعادة بناء المؤسسات التي تم إهمالها في وقت لاحقت فيه الحكومة عقيدة البريكسيت المغرية والقائمة على القومية المخربة. والسؤال فيما إن كان جونسون قادرا على التخلص من ذلك الإرث والعودة إلى رجل الدولة ذي المصداقية. فهو وإن لم يكن دبلوماسيا طبيعيا لكن لديه القدرة على تبني البراغماتية عندما تخدم مصالحه. وإدخال واقعية استراتيجية للسياسة الخارجية سيخدم المصالح الوطنية. ويمكن لبريطانيا أن تكون قوة فاعلة ومؤثرة في أوروبا والعالم ويمكن أن تنتعش من خلال التجارة الدولية. ويمكنها، بعبارات أخرى، تحقيق الكثير من الأشياء التي وعد بها الأيديولوجيون الذين رفعوا راية الخروج من الاتحاد الأوروبي، والبداية هي التخلي عن خطابهم وعكس أجندتهم والتنصل من أساليبهم.