الغرباء

حجم الخط
1

يموت الغرباء على مصطبة في حديقة
أو في شقة ليس فيها غير مقعد واحد للجلوس
ومنضدة وبعض الكتب
وأحيانا، في منتصف الجدار،
أقدم صورة للعائلة.
يحدث أحيانا أن يموت الغريب
في صالة مطار لبلاد بعيدة
البعض مات في الطائرة
حين عاد من بلاده
بعد فراق طويل.
الغرباء
كائنات من فضاء الغياب
لا كواكب تؤويهم
لا بيوت من الطين أو الحجر
بل فضاء، لا حدود له
الهواء فيه محض الذكريات
الطعام رديء دائما
ذائقة الغريب لا وجود لها إلا في خياله
والنبيذ له، إكسير نسيان في المساء،
حين يحل الخريف
وتسقط أوراق الشجر في صمت مقدس
بإيقاع يشبه إيقاع روح تغادر جثمانها، بهدوء
أو سفينة تقلع عن مرفأها عند الغروب
ترافقها النوارس من بعيد
لحظتها، ينهال دمع الغريب، بصمت
لسبب يجهله.
يأتي الحنين من كواكب لا ترى
كباقات ورد
بعطر لا يشبه إلا عطر فردوس الطفولة
كأن الحواس خلقت من أجله.
تمضي القصص القديمة والحكايات
في ومضة برق
أمام عينيه، لا على التعيين
كأنها الأمس أو أقرب من هذا
ينسى الغريب حاضره
ولكن تذكره رسالة في بريده
إنه يعيش بين البشر
له ما عليهم.
لا مكان له، هذا الغريب
فكل مكان بعيد
وكل مكان مركز الكون
وكل مكان يستحيل الوصول إليه
حين نكون غرباء.
حقائب الغرباء لا تشبه إلا حقائب الغرباء
صور وبعض الكتب
بعض الملابس
حلوى مصنوعة في البيت
رسائل لم تنته
وغبار وعطر من بلاد الأمومة
لا ينمحي أثره بعد نصف قرن
الغرباء يمشون على أرصفة المدن الغريبة
الغريبة دوما لهم
بعد نصف قرن أو أقل
أو ربما أكثر من هذا
تعرفهم من مشيهم
إنهم في مكان آخر أبعد من هذا الرصيف.
الغرباء دائما يعيشون حلما
نوره خافت
لغته صامتة
أحداثه فوضى مكانين
لا زمان له
المساء والفجر في آن معا
مسرح هم ممثلوه ومخرجوه
في الحلم، دوما، يضيعون جواز السفر
لا يجدون بيوتهم
لا يعرفهم أحد
كل شيء يأتي بعد فوات الأوان
المكان الذي اختاره الحلم
خرائب وأطلال بيوت خالية
لا بشر في الشوارع
أحيانا كلاب سائبة
وأحيانا وجه أم بلا قسمات
وطريق، خال، طويل
الحلم لا ينتهي
بل يمر بحلم آخر يحدث في دائرة البريد
أو مشهد مركب شراعي
تعلقت أشرعته بأغصان الشجر
منه يبزع مشهد آخر، من الماضي  .
يقول الغريب لنفسه
كل مكان نغادره يصير طللا
وكل مكان نصل
صحراء لا نهايات لها.

٭ كاتب من العراق يقيم في فرنسا

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول آمال نوار:

    أشعر بالغربة أكثر بعد كل قراءة ممتعة، كالعادة، لأني حين ألتفت من حولي أجدني، كما يقول هولدرلين: “وحيدة على شاطىء بارد مع أهلي وأنا لا أعرفهم”. وأتذكر قصيدة بودلير “الغريب” وقلبه ذا الانتماء الوحيد للأعالي حيث الغيوم الرائعة. قصيدتك يا عزيزي بالطبع ليست الكلمات التي تتألف منها، مثلما صدف البحر ليس البحر. إنها إشارة بليغة إلى المكان (أو الأصح اللامكان) الذي تأتي منه فحسب، كالجرح الذي ينزّ من نهاية حُبّ أو من بداية فجر. لحظات الشعور بالانتماء هي لحظات نادرة جدا يسرقها شعراء قلة من الحياة مثلما يسرقون نار الآلهة، في حين ان الغربة هي الثدي الذي غالبا ما يُرضع أرواحهم.

إشترك في قائمتنا البريدية