الغزو النيوليبرالي من الخصخصة إلى الترانزيت

ظهرت فكرة تقليص دور الحكومة في الدول الغربية المتقدمة صناعياً، التي حققت جانباً من الوفرة بعد خروجها من الحقبة الاستعمارية المباشرة، وعمليات النهب المنظمة للدول الفقيرة، فوقفت الحكومات على أسواق قوية تستطيع قيادة المجتمع، ومع ذلك لم يغفل الاستعمار التقليدي عن إبقاء سيطرته قائمة في مستعمراته القديمة.
ويبدو أن المؤرخين عليهم الاعتراف بأن عملية تفكيك الاستعمار لم تكن استجابة لحركات المقاومة الشعبية وحدها، فحملت إلى جانب ذلك تعبيراً عن مصالح الدول الاستعمارية التي وجدت في التكنولوجيا الحديثة للاتصال، وفي وكلائها المحليين الذين يحملون ثقافة الاستعمار، بديلاً معقول التكلفة في استمرار التأثير على المستعمرات، بدون أن تتحمل تكلفة الإعاشة والرعاية للجنود والموظفين، وبدون الإغراق في التفاصيل اليومية، وبدون تحمل العبء الأخلاقي، والنتيجة نسخة (لايت) من الاستعمار.
حصلت البيروقراطية التي كانت تدير العلاقة مع الاستعمار على حصة كبيرة في أجهزة الدول المستقلة، أو تمت تنحيتها لتحدث فجوة إدارية عميقة جرت عملية معالجتها (بمن حضر) بين ثوريين رومانسيين، أو جنود خرجوا من ثكناتهم، وبقيت المجموعة الاستعمارية تفرض سيطرتها على الحالتين، تبعية الوكلاء وحرصهم على (الاستنساخ) وإبقاء حالة الركود المجتمعي، وفوضى الإدارة المفرغة من التجربة والكفاءة. الفشل الكبير في تحقيق وعود الاستقلال وأحلامه أدى إلى انتكاسة كبيرة على المستوى السياسي والفكري في الدول المستقلة، ومرحلة السادات في مصر تبين مدى فداحة الردة، إذ لم تكن مجرد مراجعة للمرحلة السابقة، ومحاولة الخروج بحلول توقف الاستنزاف الكبير، الذي تأسس على الاضطلاع بأحلام مبكرة وغير ناضجة، بل امتدت لتصبح تبديداً لبعض الجوانب الإيجابية لمصلحة عملية (نسخ) فوري رديء، لكل التحولات الغربية، بغض النظر عن صلاحيتها للمجتمعات العربية، وحتى بدون أن تكتمل التجربة وتنضج وتكون قابلة للتقييم في الغرب نفسه.بين موجات الاستيراد الفكري أتت النيوليبرالية لتصبح الكارثة مكتملة الأركان على الدول العربية، خاصة غير النفطية، فالنيوليبرالية تفترض أصلاً وجود دولة مستقرة ومجتمعات على درجة عالية من الوعي، وهو افتراض وهمي لا يقوم على حقائق جديرة بالاحترام المعرفي، وإذا كان الشخص الذي يعتقد بأن الدولة الشيوعية، لا تحمل ميلاً جارفاً للشمولية، يعتبر ساذجاً من الناحية الفكرية، فما الوصف المناسب للشخص الذي يفكر في أن الأسواق يمكن أن تغرق الناس بالفرص والمزايا؟ إذا كانت النيوليبرالية في الغرب، بميلها إلى الحد من دور الدولة، تؤثر في البنى القائمة والمستقرة، بالطريقة التي تدفع بالمغامرين مثل ترامب إلى مواقع حساسة ليمارس فيها الإدارة بعقلية المقامر الاستعراضي، فالوضع يصبح عملية تفكيك في دول مثل مصر وغيرها من الدول العربية، لأن الدولة لم تكن مفهوماً مستقراً، وكذلك بقية المستلزمات الضرورية لوصف الدولة، مثل المؤسسات والمواطن، فالدولة في المنطقة العربية تقوم على رصيد هائل من الرموز مثل، الشعارات والأناشيد والتعبئة الإعلامية، وهي أمور عائمة بطبيعتها، وعكست تجربة الخصخصة في مصر وإلقاء السوق المصري الضعيف تكوينياً في ملعب العولمة الخشنة، بدون الحماية الكافية، الآثار الكارثية، ويمكن للمؤرخ الذي يبحث في ما وراء السرد التاريخي، أن يضع نقطة بداية النهاية لنظام مبارك في مطلع سنة 2003، أي قبل ثماني سنوات من ثورة يناير/كانون الثاني، فوقتها أصدر رئيس الوزراء السابق عاطف عبيد قراره بتعويم الجنيه، وترك المعاملات المالية لسوق العرض والطلب، وهو الأمر الذي اندفع بأسعار العملة المصرية إلى الهاوية.

بين موجات الاستيراد الفكري أتت النيوليبرالية لتصبح الكارثة مكتملة الأركان على الدول العربية، خاصة غير النفطية

كانت هذه الخطوة المبررة اقتصادياً ضمن منظور الظروف، تقلل من قدرة الدولة على صيانة أدوارها الاجتماعية، تحت وطأة التكلفة المرتفعة، وتناست الدولة وهي تخصخص مؤسساتها وتعرضها للبيع، أنها لن تستطيع أن توفر البنية الإنتاجية اللازمة لصناعات محلية تستطيع أن تستقطب الأموال، وتوهمت بأن الاستثمار سيقوم ببناء هذه الصناعات، وتفاجأت بأن الاستثمار لا يبالي سوى بالعقارات أو التعدين، وأن الأموال التي يحققها يذهب معظمها إلى الخارج، وكانت تجربة أحد البنوك الدولية في مصر تؤشر إلى فداحة الخلل، إذ قام بإغلاق مكاتبه بعد عمله طيلة الفترة التي شملها الإعفاء الضريبي للمستثمرين!
على الرغم من ذلك، فإن أيام الخصخصة ربما تعد عالماً مثالياً بالنسبة لما يحدث حالياً، إذ يؤشر السلوك الاقتصادي في بلد مثل مصر وتركيزه على البنية التحتية، خاصة في مجال المواصلات، بالإضافة إلى حروب الموانئ، إلى الانتقال إلى مرحلة الترانزيت، وتمرير رؤوس الأموال، وهو دور يقوم على تحقيق الريع للدولة، بدون أن يكفل أو يؤهل لخلق حالة إنتاجية تستطيع أن تنهض بالمجتمع، ووكلاء النيوليبرالية يحرصون على تسويق هذه الفكرة لسلطات اعتادت وتوهمت أن الريع والإيجار يمكن أن يضمن استمرارها ويغطي تكاليفها، وهو ما ليس صحيحاً، فممالك المستشارين المتأنقين التي تعمل في الأروقة الخلفية لأجهزة الحكم، هي نفسها من تعمل لدى الشركات الكبرى، التي تحاول بعد أن أنجزت عملية السمسرة والوساطة في لقاء الشرق والغرب وحصلت على أثمان كبيرة، أن تقوض الشرق والغرب لمصلحتها.
يؤسف له أن المخيلة التي يحملها البعض وهم يتابعون فوضى المشاريع والتخطيط في بلدانهم، لا تتعدى تعبير المزرعة السعيدة، فالواقع أن التعبير المناسب في هذه الحالة هو المستعمرة السعيدة، والنتيجة النهائية لهذه النوبة الجديدة من الارتهان لمنظومة الـ(لايت) استعمار، والانتقال إلى اقتصاد الترانزيت ستجعل من المناسب والمبدع تذكر وصف الشاعر العربي: كالعِيسِ في البيداء يقتلها الظما … والماء فوق ظهورها محمولُ.
كاتب أردني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية