في السنوات الأخيرة شاع مصطلح «الغسيل الرياضي» وهو أحد جوانب استراتيجية القوة الناعمة التي تمارسها الأنظمة التي تلطخت سمعتها بانتهاكات حقوق الإنسان. هذه الدول، خصوصا التي تتوفر على إمكانات مالية كبيرة، تسعى لتلميع صورة حكوماتها بتوسيع اهتمامها بالألعاب الرياضية. فتارة تستضيف المسابقات الدولية مثل سباق السيارات وكرة القدم وأخرى بشراء النوادي الرياضية المشهورة في الغرب، وثالثة بتشييد الملاعب والصالات الرياضية لتحمل اسمها، ورابعة بشراء الرياضيين المشهورين ليحملوا لواء الدعاية الهادفة للتخفيف من حدة الانتقادات الدولية لسجلاتها الحقوقية بشكل خاص.
وفي عالم يفتقر للمصداقية في مجال المبادئ والقيم، ويقدّم المصالح المادية على ذلك، أصبحت المؤسسات الغربية مستعدة للتخلي عن الالتزامات المبدئية من أجل تحقيق المصلحة. ولم يكن غريبا أن توجه إدارة سباق السيارات المعروفة بـ «فورمولا 1» ما يمكن اعتباره «تحذيرا» للسائقين المتسابقين من التطرق لقضايا حقوق الإنسان في البلدان التي تستضيفهم. جاء ذلك بعد أن أطلق أحد مشاهير سباق السيارات تصريحات تدعو المنظمة للاهتمام بقضايا حقوق الإنسان، وأن لا يتجاهل العالم الرياضي ما يجري على الأرض. وكان بعض عائلات المحكومين بالإعدام في البحرين قد خاطب قبل عامين لويس هاميلتون، الذي فاز ببطولة سباق السيارات سبع مرات، مطالبا بتدخله لدى السلطات بوقف تنفيذ حكم الإعدام الصادر بحق محمد رمضان بتهم ملفقة. كما كانت المعارضة في ذلك البلد قد مارست ضغوطا كثيرة على المنظمة لوقف إجراء السباق في البحرين ما دام الوضع السياسي والحقوقي متأزما. وتجدر الإشارة إلى أن الدورة قد ألغيت في العام 2011 في إثر قمع الانتفاضة الشعبية آنذاك وتدخل القوات السعودية والإماراتية لدعم الحكومة في مثل هذه الأيام قبل 12 عاما.
في المنامة انتهت يوم أمس الدورة الأخيرة من سباق السيارات التي أقيمت على حلبة «الصخير» بالبحرين. وكانت حكومة ذلك البلد قد استقطبت المؤسسة المشرفة على ذلك السباق منذ عشرين عاما، وأصبحت تدفع لها حوالي 50 مليون دولار لإقامة الدورة. واعتبرت ذلك ضمن سياستها في مجالي الإعلام والعلاقات العامة لفرض شيء من التوازن في سمعتها الخارجية التي تضررت بسبب ما تعتبره الجهات الدولية «انتهاكات» شديدة لحقوق الإنسان. وسبق الدورة وتخللها نشاط إعلامي من قبل المعارضين في الخارج للضغط باتجاهات ثلاثة: أولها محاولة إقناع المنظمين بعدم إقامة السباق في البحرين، ثانيها الضغط على المتسابقين لإعلان مواقف علنية ضد انتهاكات حقوق الإنسان، والتدخل لدى الجهات السياسية لإطلاق سراح السجناء السياسيين، ثالثها: الاستفادة من وسائل الإعلام المهتمة بالسباق وكذلك الإعلاميين المكلفين بتغطية السباق، لتسليط الضوء على السجل الحقوقي للبحرين. مع ذلك أصرت المنظمة على إقامة السباق، برغم شعورها بالحرج نتيجة ربط الحدث بتشجيع الحكم على الاستمرار في سياساته مع معارضيه.
الملاحظ هنا أن حكومة البحرين سعت لتوسيع اهتمامها بالفعاليات الرياضية في السنوات الأخيرة لأهداف عديدة: أولها التأثير على منحى التغطيات الإعلامية السلبية تجاه سياساتها. ثانيها: استدراج الشباب نحو الرياضة والاهتمام بها لإلهائهم عن الانخراط في النشاط السياسي الذي تصاعد في السنوات الأخيرة.
إن الاهتمام بالرياضة أمر إيجابي ضمن الحدود المعقولة التي تساهم في تحسين نوعية حياة البشر، ولكن استخدامها كأداة لتحقيق «الغسيل الرياضي» ممارسة تضليلية لأهداف سياسية بحتة، وهذا لا يخدم البلدان والشعوب
ثالثها: استمالة الجهات الرسمية الغربية للدعم السياسي لتخفيف الضغوط الناجمة عن نشاط المعارضة. وكان من تجليات الاستثمار في المجال الرياضي أمور عديدة: أولها استقدام لاعبين من بلدان عديدة مثل المغرب ونيجيريا، ثانيها: بناء الملاعب والحلبات العملاقة، ثالثها: الترويج لنجل الملك كرمز رياضي يفوز دائما بالمرتبة الأولى في سباقات القدرة والسباحة والجري وسباق الدراجات وغيرها.
مع ذلك ما تزال الذاكرة الوطنية تختزن عددا من الحقائق ذات الصلة بالجانب الرياضي. أهم هذه الحقائق ما حدث للرياضيين في ربيع العام 2011. فقد استهدفت قوات الأمن الكثير من الرياضيين بسبب مشاركتهم في الحراك المطالب بالاصلاح السياسي. وأوضحت لجنة الدفاع عن الرياضيين المعتقلين في البحرين أن عدد الرياضيين الذين تم اعتقالهم آنذاك بلغ أكثر من 70 رياضيا، وصدرت بحقهم أحكام بالسجن وصلت إلى نحو 634 سنة، فيما تم القضاء على كفاءات بعضهم بحرمانهم من خدمة الوطن في مجالاتهم الرياضية. وكان من بينهم حكيم العريبي الذي شارك في تحقيق بطولة الخليج للمنتخبات الأولمبية التي استضافتها البحرين في العام 2013. وقبل بضع سنوات حاولت الحكومة استرداده من تايلاند التي كان في زيارة لها من منفاه في استراليا، ولكنها لم تنجح في ذلك.
وشملت الاعتقالات علاء حبيل لاعب منتخب البحرين لكرة القدم وأحمد حمزة لاعب منتخب البحرين لكرة اليد، وعلي مرهون ويونس عبد الكريم لاعبَي منتخب كرة الطائرة وشاركا في حصول البحرين على بطولة الخليج لكرة الطائرة التي استضافتها الدوحة أواخر العام 2013، فضلا عن لاعب منتخب البحرين لكرة الطائرة للناشئين علي حسن علي وهو نجل المدرب الوطني حسن علي، ولاعب المنتخب الأولمبي لكرة القدم أحمد العصفور وشقيقه لاعب منتخب البحرين للشباب لكرة القدم جعفر العصفور.
في ظل هذه التراجعات الحقوقية أصبح «الغسيل الرياضي» وسيلة يستخدمها بشكل خاص بعض الدول الخليجية في إطار سياساتها التي أصبحت أكثر اهتماما بصورتها لدى العالم الخارجي، بدلا من سعيها لتغيير تلك الصورة بإجراء إصلاحات سياسية على صعيد الداخل. وخصصت تلك الدول موازنات ضخمة لذلك. وقد بدأت في العام 2020 بشراء حكومة البحرين أندية رياضية دولية، ابتداء بنادي قرطبة الأسباني، واستثمار 5 ملايين يورو لشراء 20 بالمائة من نادي باريس لكرة القدم. وقبل شهور أنفقت الحكومة 123 مليون دولار لشراء عدد من سيارات شركة ماكلارين لانقاذها من ضائقة مالية حادة.
وسارت الإمارات على طريق «الغسيل الرياضي» قبل غيرها. فقد شيّدت على نفقتها الخاصة ملعب فريق «أرسنال» في العام 2008، وتملك أيضا نادي بورتسموث ومانشستر سيتي ونيويورك سيتي. وقبل ثلاثة شهور قدمت شركة إماراتية عرضا لشراء نادي ليفربول الإنكليزي بـ 4.3 مليار جنيه إسترليني من مجموعة فينواي سبورتس الأمريكية المالكة للنادي.
يعتقد المستثمرون في القطاع الرياضي أن ذلك سيخفف السمعة السلبية للحكومات التي تنتهك حقوق الإنسان. فحين يذكر اسم البحرين مثلا، سيتبادر إلى الغربيين سباق فورمولا1 بدلا من السجل الحقوقي الأسود، ونادي باريس لكرة القدم بدلا من الجسد المُضني للأكاديمي الدكتور عبد الجليل السنكيس الذي مضى على إضرابه عن الطعام أكثر من 600 يوم.
إن من المؤكد أن يكون لهذا الاستثمار آثار دعائية محدودة، ولكن دماء الأبرياء المسفوحة على أراضي الجزيرة العربية ستحول دون تحقيق مكاسب استراتيجية كبرى. إن الاهتمام بالرياضة أمر إيجابي ضمن الحدود المعقولة التي تساهم في تحسين نوعية حياة البشر، ولكن استخدامها كأداة لتحقيق «الغسيل الرياضي» ممارسة تضليلية لأهداف سياسية بحتة، وهذا لا يخدم البلدان والشعوب في منطقة الخليج والشرق الأوسط.
كاتب بحريني