الغناء والطرب: ماذا يبقى منا غير الصوت؟

من يدخل بيت نجيب محفوظ سيستمع إلى صوت القاهرة، فالأغنيات والأنغام والأشعار لون واضح في نسيج السرد عند الأديب الحافظ لتاريخ تكوينه، ولأنه يمتلك من الوعي ما يوفر له أن يصل خطوط حياته ببوصلة عاصمته العريقة، فإن قراءة سرد نجيب محفوظ تفتح صفحة لتسجيل تاريخ الفن في مصر حين كان سؤال الهوية محوريّا في مواكبةٍ لحركة الاستقلال أيام ثورة 1919 وصوتها المصري المعبر عن إيقاع حياتها، وهو بالطبع سيد درويش. هذا ما نقرؤه في الصفحات الأولى من كتاب «الغناء والطرب في أدب نجيب محفوظ.. معجم ودراسة نقدية» للكاتب المصري علي قطب، الصادر عن مجموعة بيت الحكمة للثقافة في القاهرة، وفيه يسعى المؤلف إلى رصد دور الغناء في أعمال نجيب محفوظ، واضعا في حسبانه توظيف الشعر في القصص والروايات لما يمنحه الشعر من غنائية تسري في كيان النص السردي المنطلق، مشيرا إلى أن الغناء عند نجيب محفوظ هو بمثابة الحادي، الذي يحرك قافلة السرد بكل عناصرها الدرامية المتشابكة، التي يكرسها محفوظ لاكتشاف فلسفة الحياة مع حرصه على أن يرى كل متأمل تلك القوافل السردية صورة صادقة للعالم الذي رآه المبدع منذ بداية وعيه.

كيمياء التواصل

في كتابه هذا يتناول علي قطب عددا من المحاور التي تتطلبها دراسة الغناء والشعر في الأعمال الإبداعية الكاملة لنجيب محفوظ، معالجا ظاهرة الغناء عنده بوصفها قضية يناقشها الخطاب السردي مثلما يناقش كثيرا من القضايا الحضارية من ناحية، وتحدد دور الغناء في بنية النص الدرامي وإدارة تصاعده وقراءة النص، من خلال تردد الصوت الغنائي أو الشعري من ناحية ثانية، وتحلل أثر الغناء في أسلوب محفوظ وتوظيف المبدع لمفردات لغة الموسيقى في تكوينات مجازية دالة على رؤيته لكيمياء التواصل في علاقات الذات بنفسها وبغيرها والوجود، ذاكرا هنا أن نجيب محفوظ ينطق بالهوية المصرية العربية الشرقية في رحاب الحضارة التي تشرق عليها الشمس، ويلتمس منها الإنسان خيطا للتواصل مع الروح البشرية الكلية، مشيرا إلى أن الأغاني تجد عند محفوظ مجالا للحضور في نصوصه، والتفاعل مع عناصر عالمه، ورابطا يصلها بالواقع والتاريخ الثقافي، كما يمر بها إلى الفنون التعبيرية التي تتخذ من أعمال المبدع مادة لأعمال متجددة، مؤكدا أن الغناء ظاهرة في إبداع محفوظ، لافتا النظر إلى أن السياقات الغنائية عنده طرحت للتأمل موضوع العلاقة الثلاثية بين المبدع والفن والواقع، الكاتب يذكر هنا كذلك أن الأغنية عمل فني جماهيري له حضوره في الذاكرة الشعبية، لذلك يأتي ذكرها في الإبداع الروائي، محيلا إلى الواقع أو التاريخ، أو موقف له رصيده في السياق الجمعي، ومن خلال الأغنية، يقول الكاتب، استطاع نجيب محفوظ أن يصل الفن السردي بالعالم الذي يعبر عنه ويتلقاه، مشيرا إلى أن نجيب محفوظ كاتب بارع يتميز بذائقة فنية لها خبرة في التعامل مع الطرب، تساوي خبرته في الإبداع الأدبي، مثلما يرى أن الظاهرة الغنائية عند محفوظ تستطيع أن تكون واجهة تحمل في أعماقها فكره تجاه أسئلة الهوية المتصلة بالأذواق والأجيال، بل يناقش من خلال خط الغناء موضوع الصراع الحضاري.

حضور الأغنية

وراصدا ظاهرة حضور الأغنية في كتابات نجيب محفوظ، يعلن الكاتب أن الأغاني لم تكن حاضرة عنده بوصفها وحدات ربط مع المرجعية الواقعية أو التاريخ فقط، ولم يستخدمها المبدع كقِطع للديكور أو الزينة في أعماله، إنما يعبر بها عن المكون النفسي لمجتمع له حضارته وتاريخه، مستخرجا من الظاهرة الغنائية قضايا مهمة بصدد الأزمة الحضارية، مؤكدا أن قضية الصراع الحضاري عند محفوظ موضوعة في قلب اهتماماته الإبداعية، لكنه يعبر عنها بأسلوب فني تشارك فيه الأغاني بوصفها العلامات الدالة على الوعي الاجتماعي، أو تحتفظ بأسرار اللاوعي عن طريق رمزيتها التعبيرية التي تتضمن دقائق الرؤية الجمعية، ذاهبا إلى القول إن تمثيل الأغنية لذوق بعينه يعد أداة لتحقيق الذات في الخطاب الحواري. هنا أيضا يكتب علي قطب قائلا، إن نجيب محفوظ يلتقط صوت الطبيعة معلنا صدى هذا الصوت في الذاكرة الشعورية للذات المارة في الفضاء الكوني، وفي نصه الرمزي الثري الذي كتبه مستلهما أدب الرحلة في السرديات العالمية، خاصة رحلة ابن بطوطة العربي ذائعة الصيت، يتخذ محفوظ من الرحلة نسقا تمثيليا لمسار الإنسان في الوجود عبر التاريخ، وسعيه لاكتشاف العالم محققا في الرحلة الفلسفية ما لا يستطيع الإنسان أن يحققه في الرحلة الواقعية، إلا بدرجة عالية من الوعي والتخيل معا، كما يرى أن نجيب محفوظ تعامل مع ظاهرة الأغاني عبر أكثر من محور موضوعي، فهي علامات تربط الفن بالواقع، وتتجسد فيها الرؤية المجتمعية، وتعايش الناس في حياتهم، وهي مساحة لمناقشة الفن وقضاياه وعلاقته بالزمن، وهي موقف جيل من القديم، وهي مساحة حوارية صالحة لمناقشة الصراع الحضاري، وهي صوت الطبيعة المحيط بالبشرية، وهي الأنشودة التي تتوجه بها الذات في تعبيرها عن تواصلها مع العالم.

وسيلة علاج

علي قطب الذي يقول هنا إن محفوظ يستخدم الغناء والشعر في عالمه السردي، ضمن تقنيات التصوير الدرامي التي تضم الشخصيات والفضاء الزمكاني وتطور الأحداث والحوار والتعبير عن العلاقات التي تصل عناصر العالم معا، وحين تغترب الشخصية تكون الغنائية مؤشرا لذلك، وفي تصاعد الأسلوب المحلق بالذات في عالمها الخاص، كما يستخدم الصوت الشعري ليقيم علاقة بين الذات والعالم تستمد منها الذات قبسا روحيّا تتوهج بها مشاعرها وهي في مرحلة التكوين داخل سياقها البيئي الخاص، مشيرا إلى أنه يمكن لنا أن نتخذ من الشعر عند نجيب محفوظ مفتاحا لقراءة النص، متسائلا ماذا يتبقى منا غير الصوت؟ معلنا أن صوت محفوظ يظل حاضنا لأصوات الإنشاد العربي في فضاء السرد الرحب، موجها نظر القارئ في كل مكان ولغة للهوية الشعورية المصرية والعربية. ومما يراه المؤلف أيضا، في كتابه الذي يضم معجما للأغاني التي وردت في أعمال محفوظ، هو أن تحويل المعاني والأفكار إلى نص يحمل أداءً جماليّا هي مهمة المبدع الذي لا يدخر جهدا في البحث عن طرق جديدة لتقديم صورة فنية مختلفة وجديدة، ذاكرا أن الغناء والطرب ما هما إلا وسيلة لعلاج النفوس المتوترة، مؤكدا، في نهاية كتابه الشيق والمفيد هذا والمتميز موضوعا وبحثا، أن تجربة نجيب محفوظ وعلاقته بالغناء تعد تجربة ثرية شاهدة على عصور من الغناء، مثلما كانت شاهدة على عصورمن الفن والثقافة والسياسة والاقتصاد، وقد صاغ كل هذه الأفكار في رؤى فلسفية وإنسانية جعلت من أعماله أيقونات باقية عبر الزمن.
٭ كاتب مصري

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية