انتقلت، خلال حادث سيّارة هائل في قبرص عام 1994، إلى برزخ أثيريّ بين الحياة والموت. تحت تأثير تلك اللحظة التي امتـــدّت شهورا ســــافرت إلى فرنسا وجــــربت الاتصال بجميل حتمل الذي كنت قد التقيــته في كواليس التنظــــيمات تحت الأرضية في بيروت الحرب الأهلية. لم يردّ الهاتف لأن جميل كان قـــد توفّي ليلتها.
غادرت في اليوم التالي إلى لندن واتصلت برفيقي السلاح، حينها، أمجد ناصر ونوري الجراح، اللذين كنت أراسلهما للنشر في «القدس العربي» و«الناقد»، واجتمعنا في بيت الجراح في هارلي ستريت، شارع الأطباء الشهير في لندن، حيث قرأ الحاضرون أشعارهم والتقطنا صورا بدونا فيها محاطين بضباب الشعر وغموضه.
زرت أمجد لاحقا في بيته في جمهورية الهنود الصغيرة في لندن، ساوثهول، التي ذكرها في عدد من قصائده وكانت تلك مقدمة علاقة صداقة وزمالة في «القدس العربي»، التي دعاني حينها للعمل فيها، حيث كان مدير تحرير ثقافيا، وجمعتنا غرفته الصغيرة المبقعة بالدخان والصور والرسائل، كما جمعتنا حانة «السالوتيشن» القريبة، والمقهى البولندي، حيث التقينا بعشرات الكتاب والشعراء والمثقفين، ورتبنا لملفات كثيرة: المثقفون العراقيون وشؤونهم، النقاد العرب وقصيدة النثر الخ… وطحنتنا عجلة الصحافة الدائرة مثل عجلة الأقدار في الفيلم الموسيقي الشهير عن «كارمينا بورانا».
بدأت علاقتي بشعر أمجد بـ«مديح لمقهى آخر» وأكاد أتذكر كل قصيدة في تلك المجموعة العظيمة، وتابعته في «منذ جلعاد كان يصعد الجبل» و«رعاة العزلة» و«سر من رآك» وصولا إلى «وحيدا كذئب الفرزدق» و«الحياة كسرد متقطع»، وكانت آخر مرة كتبت فيها عن شعره في مجلة «الشعراء» الفلسطينية التي كان يرأس تحريرها الشاعر غسان زقطان، وبعد قراءة مادتي خرج أمجد من مكتبه بعينين دامعتين. كان أمجد يغلّف رقة الذهب الشعرية بحديد القساوة التي لم أكن أستطيع، أنا القادم من الشام، تقبلها أحيانا، لكنّني كنت أعرف أنها كانت القشرة الصلدة التي تحمي ذلك البدوي، القادم من حدود الخريطة المدببة كالزجاج، من شبهة الهشاشة التي تميّز الشعراء.
أمجد الآن في برزخ أثيريّ، كما كنت أنا نفسي حين التقيته عام 1994، وحينها مدّ لي يده لنصعد الجبل ونرعى العزلة في غربتنا اللندنية.
اليوم، أمدّ يدي، ومعي سكان أرض الشعر الغرباء، لأمجد، كي نصعد الجبل معا.