الإنسان كائن لغوي، يعتمد على الكلام في التعبير عن ذاته، والتواصل مع الآخرين، بناء عليه يعتبر الكلام مادة، يمكنها أن تتحول إلى قصيدة، أو قصة، أو أغنية. ويمكن للكلمة أن تتخطى كينونتها وتكون لينّة حنونة، أو قاسية موجعة. وممكن أيضا أن تكون دافئة، أو باردة. وفي كل الأحوال، ودائما تحتاج الكلمات «الملفوظة أو المكتوبة» إلى من تتوجه إليه، إلى شريك يتمثلها. فهي نوافذنا التي نطل منها على الآخرين، والآخرون يطلون منها علينا. من هنا تأتي قيمة الكلمات، وخطورتها، لذلك ترى البعض يستعملها بحرص بالغ، وكأنه قناص، يغمض إحدى عينيه، فتتضح صورة الهدف بعينه الأخرى، قبل أن يضغط على الزناد. وهناك من يدوزن أوتار حباله الصوتية، قبل أن يتكلم.
ثمة خطابات يحملها الصمت باعتباره لغة موازية، مرتبطة بمواقف خاصة. ومن الصعوبة بمكان فهم آليّة التكامل بين الصمت والكلام، وذلك التبادل الجدلي للأدوار بينهما حسب مقتضى الحال. مع الأخذ بعين الاعتبار أن حرية التعبير مشروطة بحرية التفكير. وهذا أول الأسباب التي تجعل الطاولة التي نجلس إليها تأخذ شكل الحدود، وفنجانيّ القهوة بيننا يبردان!! فأنا لا أستطيع أن أكون لك، وأنت لا تستطيعين أن تكوني لي. رغم ذلك أنت ككل النساء معجبة بالمقولة غير المنطقية: «لم أخنك حتى في الذاكرة». وأنا ابن خيانات كثيرة، خيانات متبادلة، بل أنا ابن ثقافة الخيانة! تلك الثقافة تبدأ مع مرحلة الطفولة، في كنف الأسرة، هناك نتعلم كيف نخون أهواءنا ورغباتنا، ثم المدرسة، حيث نتعلم كيف نخون وجهات نظرنا الشخصية وآراءنا، ومواقفنا، مما جاءت به المناهج من معلومات، وطرائق تدريس، ثم الجامعة، ثم العمل، ومن ثم تعود معنا إلى البيت، لذلك فإن عالم اللسانيات الأمريكي إدوارد سابير يعتبر اللغة نظاما يسعى لتحقيق أهداف مجتمعية. تلك الأهداف تعددت أسماؤها ولكنها ـ مع الأسف – أدت إلى تلك النتيجة، حيث بدأنا بخيانة أنفسنا، وأصبحت خيانة الآخرين تحصيل حاصل. لدرجة صارت الصراحة تحتاج إلى مقدمات، إذ أننا حين نريد أن نخبر الآخر بحقيقة ما، نمهد له بالقول: سأكون صريحا معك. أي واضحا. معنى ذلك أننا قبل هذه المقدمة لم نكن صريحين ولا واضحين.
تصوري أن كل الكلمات أستطيع أن أقولها بشكل طبيعي وعفوي، إلا
الـ«لا» الناهية!
ألـ«لا» التي لم أسمعها في البيت إلا من والدي، ولم أسمعها في المدرسة إلا من المعلم، ولم أسمعها في الوظيفة إلا من المدير، وفي كل المرات التي سمعتها لم تكن أداة نهي، بل أداة زجر، لذلك صرت أغص بها وينتابني السعال حين أقولها. يقول إيميل سيوران: «قد يؤدي الألم بالبعض إلى الجنون، لكننا لا نرى الألم الذي حطمهم، نرى الجنون فقط». لذلك الناس ترى ما نحن عليه، ترى النتائج، وهي غير معنية بالأسباب والمقدمات.
كنت أحلم أن أركض إليك بلغة حافية، لغة تقولني كما أنا، دون أن تخدش تعاستي أنظار السعداء، (ويضحكُ القلبُ من ذاك الذي أَبكى/ و«لعلك» تَحكين لي ما لم يكن يُحكى) دون أن تنكر مرآتك وجهي، وأردد مع الشاعر: (الفرقُ ما بيننا مَحضُ اختلافِ أسىً/ حزني الرخيصُ يُداوي حزنَكِ الرَّاقي). وبدل أن أكتب عن الـ«لا» الناهية، أكتب عن البحر وهو يصير فستانك، كما يقول فايز العباس.
كاتب سوري