لم أفاجأ من الفشل في إعادة تركيب «القائمة المشتركة « وذلك لما أشرت إليه مسبقًا من أسباب أوصلتني لقناعة بأننا نعيش آخر فصول «المغامرة» ونشهد انتهاء حقبة شكّلت فيها «الأحزاب التقليدية» أهم وسائل التأثير على حياة الجماهير العربية، السياسية والاجتماعية، حيث أدّت تلك الأحزاب دور الناظم الأساسي والمؤثر في هيكلة انتماء الفرد ورسم معالم هويته أولًا، وهوية المجتمع ورؤاه المختلفة، تباعًا.
لم ينجح قادة الأحزاب والحركات المشاركة في تركيبة القائمة باستعادة لحمتها، ورغم تصريحاتهم، خلال فترة المخاض، وتغني بعضهم بمصلحة الجماهير العليا وتأكيدهم على أن بمقدور حزبهم أن يخوض المعركة منفردًا ووحيدًا، رأينا كيف تمحورت جميع الخلافات، في الواقع، حول محاصصة الكراسي وتأمين مواقعها في القائمة المشتهاة والمستغلة.
لقد اختلفتُ مع كثيرين عابوا على من يسعى ويناور من أجل تعزيز مكانة مجموعته وكسب أكبر عدد ممكن من الأماكن المتقدمة والمضمونة في القائمة، فجميع من ينافس في الانتخابات البرلمانية، بشكل عام، يطمح ويطمع للحصول على أكبر عدد من الكراسي، ومن لا ينجح بذلك فلا معنى لوجوده السياسي. لا فائدة من الخوض والتفتيش عن المذنبين أو عن المستقيمين أو عن الانتهازيين، الذين «كشفتهم» عملية المفاوضات، كما أدعى ويدعي بعض الخائبين من تصرفات قادتهم، أو كما استشاط ضدهم بعض « المبدئيين» الحالمين بعودة « أيام اللولو»؛ فاليوم، وبعد أن قضي الأمر وصارت النتائج منجزة وواضحة أمامنا، على كل من يؤمن بضرورة المشاركة في عملية الانتخابات أن يتجند لإقناع الآخرين بالتصويت لإحدى هاتين القائمتين. على جميع الأحوال، فأنا من معسكر من يروا بأن خوض الانتخابات بقائمتين أفضل من خوضها بثلاث قوائم أو أربع قوائم؛ وقد تثبت لنا الأيام أن التنافس السليم بين القائمتين، إذا ضُمن، ليس أسوأ من إجرائها بقائمة مشتركة واحدة، خاصة بعد أن فشلت «المشتركة» منذ إقامتها بالخروج من حقول الالتباس والتخلص من إغواء التجاذبات، ومن ممارسة التلعثم الذي قزّم ما أحرزه نوابها من إنجازات، وأبقاها في عروة خلافات الفرقاء والقادة.
عُرفت المفاوضات، عبر التاريخ، بأنها فن يعتمد على الصبر وعلى الخبرة وعلى الحيلة/ الخديعة وعلى قراءة المفاوض لعناصر قوته الحقيقية وقوة من يتفاوض معهم. لا أعرف مَن من بين المفاوضين ومستشاريهم تحلى بهذه الشروط، ومن عدِمها، ولكن سيتثبُت للمتبصّر أن تخلي «مجموعة الأربعة « عن شعارهم «إما المشتركة وإما لوحدنا» نتج لأنهم مارسوا التضليل نفسه والمراوغة ذاتها ويكشف، في الوقت ذاته، أنهم عرفوا، ساعة كانوا يناورون، بأن حجم قوتهم بعكس ما أشاعوا، لم يكن كافيًا لعبور نسبة الحسم ولا حتى قريبًا من ذلك؛ قد استثني من ذلك قائمة الجبهة الديمقراطية.
ستبقى هذه التجربة مثارًا للجدالات وللاتهامات المتبادلة بين ناشطي الأحزاب الذين لا يعرفون كيف «يهضمون» واقع أحزابهم البائس الجديد؛ لكنني أعتقد أنها تجربة جديرة بالدراسة وبالتلخيص، خاصةً بما عكسته، منذ لحظة إعلان الطيبي انفصال حركته عن المشتركة، وحتى اضطرار حزب «الضاد» والقومية العربية، حزب «التجمع الديمقراطي» أن يعلن في وقت مبكر من المفاوضات، شراكته الاستراتيجية مع «الحركة الإسلامية»، رغم كثرة التناقضات الأساسية بينهما وعمق الهوة في عدد من المسائل المبدأية؛ وإلى إعلان «الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة» والنائب أحمد الطيبي وحركته «العربية للتغيير» دخولهم إلى «قمرة الزواج القسري» رغم محاولات الطرفين، حتى اللحظات الأخيرة من موعد تقديم القوائم، تأزيم الموقف بينهما وإيصاله إلى لحظة اللاعودة. كان لجوء الفرقاء إلى حل القائمتين من باب «مكره أخاك لا بطل»؛ وما شهدناه من تداعيات خلال عملية التفاوض يكشف، علاوة على الفشل في ترسيخ «موديل» القائمة المشتركة كوسيلة صحية لتمثيل مصالح المواطنين العرب في إسرائيل، عن وجود أزمة حقيقية في منظومة القيادة العربية المحلية، ويستدعي من جهة أخرى، مجموعة تساؤلات حول ما كان يقصده كل فريق تغنى باسم «إرادة الشعب» ورقص على إيقاعات «مصلحة الجماهيرية العليا»؛ فتوصُّل الفرقاء، العرضي والتوفيقي طبعًا، إلى ذينك التزاوجين، رغم سعة الفروقات بينهم، كان في محاولة كل جهة منهم ضمان فرصة للدخول تحت قبة البرلمان الإسرائيلي وعدم البقاء خارجها مع شهادة وفاة شعبية. كانوا، من هذا الباب والمنطلق، سواسية كأمشاط المراوغة، ولا فضل لحزب منهم على آخر إلا بالوسيلة وبالفرصة وبإجادة الحيلة وفن الصبر، فالهدف عندهم كان واحدًا .
هنالك حاجة ماسة لمراضاة الناس، وللتوجه إليهم باحترام، سعيا لاستعادة ثقتهم وقناعاتهم بضرورة انخراطهم في العملية السياسية
تنادي أصوات عديدة بين الجماهير العربية في اسرائيل إلى مقاطعة الانتخابات، لأسباب عقائدية معروفة؛ ولقد انضمت مؤخرًا جهات أخرى لنداءات المقاطعة وتراوحت «هويات» هؤلاء بين الخائب أو المدسوس أو اليائس أو الساذج؛ لكننا لا نستطيع التقليل من أهمية ما جرى في مسيرة التفاوض الأخيرة، كأحد أهم الدوافع المستجدة الذي خلّف استياءً جماهيريًا، سيشكل، بدون ريب، تحديًا جديًا أمام القائمتين وخطرًا حقيقيًا على فرص نجاحهما. هنالك حاجة ماسة لمراضاة الناس، وللتوجه إليهم باحترام، سعيًا لاستعادة ثقتهم وقناعاتهم بضرورة انخراطهم في العملية السياسية؛ فبعض قرارات القيادات تمت بفوقية مسّت كرامة الإنسان الحر العادي، وأخرى جاءت ملونة بأصباغ أوصلت الكثيرين إلى قناعة بأن القيادة تغالط أو حتى تكذب وأن بعضها يعمل من أجل مصالحه الضيقة فقط. اعتماد القيادات على شعار ينادي بضرورة إسقاط اليمين ومواجهته كمحفز رئيسي لمشاركة الإنسان العادي في عملية الانتخابات وتصويته لإحدى القائمتين، فيه من الغباوة قسط ومن السذاجة رائحة ومن القصور درجات، لأن أكثرية من سينتخبهم الشعب في إسرائيل ينتمون إلى ذلك اليمين المقصود، وإن ظهروا أمامنا بأقنعة مختلفة؛ جدوا وسائل إقناع أخرى وخاطبوا عقول الناس بشفافية وبصدق وقبلها إسعوا وتوصلوا حالًا إلى اتفاق يحرّم لغة التقريع والتخوين والمزايدات بينكم، ويشيع أجواء من الألفة السياسية، ونفسًا قياديًا ينقل للشارع روحًا من التوافق تبشّر بأن نجاح القائمتين هو هدف سام ومصلحة حقيقية يجمع عليها الجميع.
أعرف أن في عالمنا الحاضر لن يستطيع حزب أو حركة سياسية ضبط تصرفات أتباعه، كما كان يوم كان الحزب خلية وصحيفة ومنشورا وانتماء يجيز محاسبة الناشزين بين صفوفه؛ ولكن، رغم ذلك، ما زالت هناك قدرة وهامش لضبط بعض المحسوبين على قيادات الأحزاب وناشطيها المركزيين ومفكريها والمعدودين على أنهم من خيرة «أبواقها» المجلجة، فهؤلاء يجب إسكاتهم، لا لمنعهم من التعبير عن آرائهم بل لأنهم يحرّضون ويفتنون.
يتساءل كثيرون من أبناء الشعب، بينهم العقلاء والتائهون والمحرَّضون واليائسون، عن جدوى مشاركتهم في الانتخاب القادمة وعن ضرورة تصويتهم لاحدى القائمتين؛ فمهمتكم أن تجدوا الطريق إليهم والحجة لعقولهم ولقلوبهم
أنا سأصوت طبعًا لإحدى القائمتين؛ لكنني لست مستشارًا حزبيًا، وأشعر بأن الاستخفاف بمشاعر الناس، والاكتفاء باجترار الشعارات الفضفاضة والعامة، سيؤدي إلى التسريع في اختفاء شظايا من ذلك النيزك الذي أسميناه مرّة “القائمة المشتركة”
كاتب فلسطيني