القائمة المشتركة: سيل نزّاز خير من نبع مقطوع

حجم الخط
0

تتوقع معظم استطلاعات الرأي محافظة القائمة المشتركة على قوتها الحالية في البرلمان الإسرائيلي. ويعتبر البعض ذلك إنجازاً، خاصة في ضوء استمرار حملات التهجم عليها من جهة الأحزاب الصهيونية ومؤسسات دعايتها المضادة والموكلة بالتشكيك في شرعية القائمة، وفي مصداقية قادتها، وفي نجاعة مواقفهم لمصلحة ناخبيهم وقضايا المواطنين العرب في إسرائيل.
سيبقى نجاح حملات تلك القوى الصهيونية ضد القائمة المشتركة محدودا وقابلا للدحض وللتفنيد؛ بيد أن استعداءها من قبل مراكز قوى عربية محلية والتهجم عليها، تارة من قبل وكلاء سياسات الدولة الداخليين، وتارة أخرى من قبل جهات لا تؤمن بحاجتنا، كمواطنين في الدولة، للاشتراك في انتخابات البرلمان الصهيوني – سيبقى هو العامل الأكثر خطرا على قوة القائمة وعلى إمكانية بقائها في ميدان العمل البرلماني الإسرائيلي.
لقد جاء تشكيل القائمة المشتركة منذ البداية كمخرج وحيد من مخطط قادة أحزاب اليمين الصهيوني بالقضاء على جميع الأحزاب العربية الناشطة بين المواطنين العرب، عن طريق رفع نسبة الحسم إلى مستوى لا يستطيع أي حزب عربي تجاوزه لوحده، ورغم سوء نية الحكومة الإسرائيلية فقد تبيّن، من باب لا تكرهوا شيئا عساه خيرا لكم، إن قرارها المذكور أتاح عمليا فرصة نادرة لتغيير نمط العمل السياسي القائم، منذ عقود، بين المواطنين العرب والمعتمد على البنى الحزبية التقليدية؛ إذ بات بمقدور قادة الأحزاب ومؤسساتها، الانتقال إلى العمل المشترك من خلال بناء جبهة سياسية عريضة تضم جميع القوى السياسية التي يستطيع قادتها التوافق على برنامج سياسي واضح يستهدف، أولا وأخيرا، التصدي لسياسات الحكومات الإسرائيلية تجاه مواطنيها العرب والوقوف مع شعبنا الفلسطيني الرازح تحت الاحتلال.

عدم الاعتراف بشرعية البرلمان الصهيوني ومقاطعته، من دون استعراض بديل نضالي وطني، لن يضير حكام إسرائيل وسياساتهم؛ بل على العكس تماما

لم تستطع الأحزاب والحركات السياسية بناء القائمة على أسس الشراكة الجبهوية التنظيمية الضرورية؛ فاكتفى قادة مركباتها الأربعة – الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة، حزب التجمع الديمقراطي، الحركة العربية للتغيير والقائمة الإسلامية الموحدة – بالاتفاق على خوض معركة الانتخابات بقائمة واحدة، لا بسبب خوفهم من عتبة الحسم القانونية وحسب، بل استجابة «لإرادة الجماهير» التي كانت في شوق إلى العمل الوحدوي ولمّ الشمل في واقع سياسي خطير ومرير، حسبما صرّح به قادة القائمة قبل تشكيلها، وتباهوا فيه بعد أن حصدت القائمة خمسة عشر مقعدا في انتخابات عام 2015. لم تخفَ عيوب المولود الجديد عن الكثيرين من المتابعين والمراقبين والناشطين السياسيين، فاتّهم بعضهم قادة الأحزاب بالتصرف الانتهازي الذي من شأنه أن يؤدي إلى شلّ العمل الحزبي نهائيا، وإغراق المواطنين في حالة العزوف السياسي المنتشرة بشكل مقلق وواضح بين المواطنين؛ بينما تمنى الآخرون على قادة تلك الأحزاب أن يتصرّفوا بنضوج وبمسؤولية أكبر، من أجل بناء إطار تنظيمي جامع ومتين، يكون في هذه المرحلة، الأداة السياسية العصرية القادرة على تصميم وهندسة مفاهيم نضالية جديدة تتلاءم مع جميع المتغيّرات التي طرأت على مجتمعي الدولة الأساسيين، اليهودي والعربي. لم يحصل هذا، واعتقد أنه لن يحصل رغم انسلاخ القائمة الموحدة الاسلامية عنها؛ فالقائمة المشتركة ولدت وبقيت في غرفة الإنعاش؛ ولا يعكس تردد أزماتها الداخلية، حقيقة كونها وعاء سياسيا غير ناضج لمواجهة واقعنا المستجد، ولا وسيلة غير كافية تنظيميا لمواجهة سياسات الدولة وأمراضنا الاجتماعية الذاتية فحسب، بل هو مؤشر، جديد قديم، ودليل صارخ على بؤس وعقم الحالة السياسية التي يعيشها المواطنون العرب في إسرائيل.
قد يدّعي البعض أن تكرار المعارك الانتخابية في السنوات الاخيرة، بوتائر غير مسبوقة في إسرائيل، شكّل عائقا أمام قادة القائمة المشتركة ومؤسسات أحزابهم، ومنعهم من دراسة تجربتهم وتقييمها بشكل معمق، ومن التوصل إلى خلاصات ومخرجات تمكنهم من تطويرها نحو ما أمّل منها. قد يكون ذلك صحيحا، ولكن واقع تلك الأحزاب البائس وأمراضها المزمنة، تبقى شواهد على عجزها عن تطوير هياكلها وتحديث برامجها السياسية، وهذا يشمل جميع تلك الاحزاب – خاصة ما يدور في دهاليز الجبهة الديمقرطية، وهي أكبر وأعرق هذه الأحزاب – التي لم يشعر قادتها، للأسف، بما سببه ويسببه قصورهم، من نشر أجواء عدمية الانتماء السياسي، وما خلّفته هذه الحالة من محفزات خطيرة ومحبطة، ساعدت على تفكيك اللحمة الاجتماعية داخل مجتمعاتنا، وعلى تنامي مظاهر العنف والتطاول والتحدي، التي بتنا نراها وهي تعبث في أمن مواقعنا وسلامة «قلاعنا» وتفسد ما كنا نعتبره محرما سياسيا ومرفوضا اجتماعيا.
أتمنى أن ينجح قادة الأحزاب الثلاثة في التوصل إلى بناء قائمة مشتركة قوية، فأزمة القائمة المشتركة كما عاشها المواطنون في السنوات الأخيرة، أكّدت بوضوح وعرّت أحد أعراض الأمراض الخبيثة التي تتغلغل في جسد مجتمعاتنا، وهو غياب «مؤسسة القيادة» الوازنة، الراجحة الرأي، صاحبة التجربة والأثر، والمستوثقة من قبل الناس، والمتفانية في تقديم المصلحة العامة على المصالح الشخصية والفئوية. إنها أخطر ما يؤثر في حياتنا؛ وهي الحالة التي أدت، في نهاية المطاف، إلى تقزيم مكانة «لجنة المتابعة العليا» وإلى تشويه وتحييد دور «اللجنة القطرية لرؤساء البلديات والمجالس العربية» وغيرها من التنظيمات التي كانت من المفروض أن تشكل كيان المجتمع المدني القوي والمتين. لن يختلف اثنان على أن السياسات العنصرية الإسرائيلية حاربت، منذ البدايات، جميع محاولات إنشاء المؤسسات القيادية العربية الوطنية، وسعى أصحاب تلك السياسات، بالتالي، لإفشال تلك المؤسسات الرائدة، أو لنزع الشرعية عنها، أو لخلخلتها من الداخل؛ ورغم ما استثمروه عبر التاريخ من مجهود ومغريات، فقد فشلوا ونجح القادة الآباء، في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، بإنشاء «لجنة المتابعة العليا و»اللجنة القطرية لرؤساء البلديات والمجالس العربية»، اللتين تحولتا، إلى جانب سائر المؤسسات المدنية التقدمية والأحزاب والحركات الوطنية، إلى بوصلات هادية وسقوف يحتكم الجميع تحت راياتها ويلتزمون بحدودها، لقد خلقت تلك القيادات فضاءات وطنية صحية ومطعّمة بمضادات قوية كانت تصد كل جسم غريب وتوقفه عند حده. واليوم، كما نرى، خسرنا هذه الفضاءات وأضعنا اليواطر حتى بتنا نتمنى أن ينجح الساسة ببناء «قائمة مشتركة» حتى لو كانت عرجاء ومنقوصة. فعقالنا آمنوا بالحكمة الشعبية «نزازة نازلة ولا نهر مقطوع». ولا يمكننا طبعا أن ننهي الحديث عن المشهد السياسي الحالي من دون أن نتطرق لنداءات مقاطعة الانتخابات؛ سيان إن جاءت النداءات على خلفيات عقائدية، قومية أو إسلامية، أو لأسباب سياسية لم أسبر كنهها ونجاعتها في معظم الحالات.
من الواضح أن الكثيرين ينادون بالمقاطعة عن إيمان بمواقفهم، ويبررونها أمام أنفسهم والغير، برضا وبقناعة كاملين، ولا ينادون بها بسبب معارضتهم لمبدأ الاندماج، كما يسمونه، وحسب، ولا من أجل إقصاء المواطنين العرب عن مؤسسات الدولة إقصاء يحلم به عتاة اليمينيين العنصرين؛ ولكن ستبقى ذرائعهم محض مغامرة سياسية أو وهمية أو مجرد اختيار للأسهل، إلّا اذا زوّدونا بتفاصيل خياراتهم السياسية العملية المعلنة والواضحة، التي من شأنها أن تكون بديلا للنضال البرلماني، مهما كانت نتائجه ومنجزاته محدودة، فالمقاطعة لوحدها واعتماد تكتيكات ردود الفعل الموسمية لن تشكل برامج كفاحات كفيلة بالتصدي لسياسات الحكومة الفاشية المقبلة بنجاعة أكبر مما نحن عليه اليوم.
على من يتخلى عن خيار النضال البرلماني المتاح له طوعيا، أن يواجه جماهيره ببدائله العملية؛ فتحويل جميع الناس إلى مؤمنين مسيسين في حركة دينية سياسية، قد يعدّ إنجازا لقادتها، لكنه لن يفضي إلى القضاء على سياسات إسرائيل القومية العنصرية أو عليها ككيان متسيّد في المنطقة. أولم يعلمنا السلف فوائد بعض القطران وضرورته؟ كذلك فإنّ عدم الاعتراف بشرعية البرلمان الصهيوني ومقاطعته، من دون استعراض بديل نضالي وطني، لن يضير حكام إسرائيل وسياساتهم؛ بل على العكس تماما. لقد قلنا ونكرر إن الشعوب المقهورة عرفت خلال مسيراتها النضالية خيار مقاطعة مؤسسات الدولة الاستعمارية أو العنصرية، وسلكت طرقا نضالية أخرى منها العنيفة ومنها السلمية، مثل أساليب العصيانات المدنية. فهل ينادي قادة التيارات الدينية والقومية إلى جانب مقاطعة الانتخابات بمثل هذه الأساليب؟
لنسمع ونفهم ونناقش..
كاتب فلسطيني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية